لقد بيَّن الله سبحانه وتعالى في محكم التنزيل الحكيم أنَّ الأهِلَّة والشمس والقمر مواقيتٌ للناس، فقد قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]، وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس: 5]. وبظهور الحاجة إلى التقويم بدأ وضعه والعمل في عصر الخلافة الراشدة في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ حيث جعل ابتداء التاريخ الإسلامي من سنة الهجرة.
ماذا قبل التقويم الهجري؟
منذ أن خلق الله السموات والأرض والشمس والقمر بدأ التاريخ الحقيقي للبشريَّة، فلمَّا هبط آدم عليه السلام من الجنَّة، وانتظر ولده، أرَّخ بنو آدم من هبوط آدم، فكان التأريخ حتى بعث الله نوحًا، فأرَّخوا من مبعث نوحٍ حتى كان الغرق، وكان التاريخ من الطوفان إلى نار إبراهيم، فلمَّا كثر ولد إسماعيل افترقوا، فأرَّخ بنو إسحاق من نار إبراهيم إلى مبعث يوسف، ومن مبعث يوسف إلى مبعث موسى، ومن مبعث موسى إلى مُلْك سليمان، ومن مُلْك سليمان إلى مبعث عيسى، ومن مبعث عيسى إلى أن بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى جميع إخوانه الأنبياء السلام[1].
كانت العرب قبل الإسلام يُؤرِّخون بالأحداث، فكانوا يقولون -مثلًا-: عام بناء الكعبة، عام الفجار، عام الفيل، عام سيل العرم. وبعد أن بُعِث النبيُّ صلى الله عليه وسلم وظهر الإسلام في مكة، وهاجر المسلمون إلى المدينة، وأصبح لهم كيانٌ مستقلٌّ أصبحوا يُطلِقون على كلِّ سنةٍ من السنوات اسمًا خاصًّا بها، فيقولون -مثلًا-: عام الخندق، كما قالوا في مكة عام الحزن، وعام الوداع، كما قالوا عام الرمادة في عهد عمر رضي الله عنه[2].
من الذي وضع التقويم الهجري؟
لم يزل الأمر كما ذكرنا حتى جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفتح البلاد وظهرت الحاجة في عهده إلى وجود ترتيب سنوات، وذُكِر له أمر التاريخ، فقال لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضعوا للناس شيئًا يعرفونه، فقال بعضهم: اكتبوا على تأريخ الروم، فقيل: إنَّهم يكتبون من عهد ذي القرنين، فهذا يطول، وقال بعضهم: اكتبوا على تأريخ الفرس، فقيل: إنَّ الفرس كلَّما قام ملك طَرَح من كان قبله، فاجتمع رأيهم على أن ينظروا: كم أقام رسول الله بالمدينة؟ فوجدوه عشر سنين، فكُتب التأريخ من هجرة رسول الله.
ولكن برزت معضلة؛ إذ كان على المسلمين أن يختاروا شهرًا يبدأون به تقويمهم مثلما اختاروا سنةً لهذه البداية، فعن محمد بن سيرين رحمه الله، قال: قام رجلٌ إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: أرِّخوا، فقال عمر رضي الله عنه: ما أرِّخوا؟ قال: شيءٌ تفعله الأعاجم، يكتبون في شهر كذا من سنة كذا، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حَسَنٌ، فأرِّخوا. فقالوا: من أيِّ الشهور نبدأ؟ فقالوا: رمضان، ثم قالوا: المحرَّم، فهو منصرف الناس من حجِّهم، وهو شهرٌ حرام، فأجمعوا على المحرم[3].
متى بدأ العمل بالتقويم الهجري؟
كان بداية العمل بالتاريخ الهجري في عهد عمر بن الخطاب في 20 من جُمَادى الآخرة عام (17) سبعة عشر من هجرة النبيِّ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم[4]، ومن هذا التوقيت جعلوا ابتداء التاريخ الإسلامي كأوَّل سنةٍ من الهجرة، وجعلوا أوَّلها من الشهر المحرَّم[5]، وأوَّل من أرَّخ يعلي بن أميَّة وهو باليمن[6]، والتواريخ العربيَّة إنَّما هي على الليالي، وسائر تواريخ الأمم على الأيَّام؛ لأنَّ سنيهم تجري على أمر الشمس، وهي نهاريَّة، وسِنُو العرب يعمل فيها على القمر، وابتداء رؤيتنا له الليل[7]، وكانت بداية السنة الهجريَّة الأولى يُوافِق يوم الخميس 15 من يوليو عام 622م، وتُسمَّى هذه السنة سنة الإذن؛ أي الإذن للرسول وأصحابه بالهجرة من مكة إلى المدينة[8]، ويتكوَّن التقويم الهجرى من 12 شهرًا قمريًّا؛ أى أنَّ السنة الهجريَّة تُساوي 354 يومًا تقريبًا، والشهر فى التقويم الهجري إمَّا أن يكون 29 أو 30 يومًا[9].
سبب اختيار الشهر المحرم كبداية للسنة الهجرية
اقترح بعض الصحابة على عمر رضي الله عنه أن يكون هذا الشهر شعبان، واقترح بعضهم رمضان، إلَّا أنَّ الرأي استقرَّ في النهاية على العمل بمشورة عثمان بن عفان رضي الله عنه باعتماد المحرَّم بدايةً للسنة الهجريَّة على اعتبار أنَّه منصرف الناس من حَجِّهم، وهو شهر الله، كما أنَّه هو الشهر الذي اختارته العرب بدايةً لسنتهم من قبل مجيء الإسلام، وقد سمَّاه الرسول بعد الإسلام شهر الله، وقال الحسن البصري رحمه الله: إنَّ الله افتتح السنة بشهرٍ حرام، فليس في السنة شهرٌ بعد شهر رمضان أعظم عند الله من المحرم، وكان يُسمَّى شهر الله الأحم من شدَّة تحريمه[10].
الأحداث والمناسبات في شهر المحرم
في هذا الشهر الذي اختير كأوَّل شهرٍ في السنة الهجريَّة يوجد العديد من المناسبات، منها:
المواسم والأعياد
يوجد في بداية هذ الشهر رأس السنة الهجريَّة؛ حيث تحتفل بعض الدول الإسلاميَّة بذكرى الهجرة النبويَّة، ويُحتفَى بهذه الذكرى في بيوت الله وعبر وسائل الإعلام المختلفة، ومن مواسم هذا الشهر -أيضًا- يوم عاشوراء، وهو اليوم العاشر منه ومن السُّنَّة صيامه؛ وقد صامه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وحضَّ على صيامه، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «قَدِمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: "مَا هَذَا؟" قالوا: هذا يومٌ صَالِح، هذا يوم نجَّى الله بني إسرائيل من عدوِّهم فصامه موسى، قال:"فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ". فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ»[11].
الأحداث المهمَّة التي وقعت في شهر المحرم
من الأحداث المهمَّة التي وقعت في هذا الشهر، قدوم الأحباش، أصحاب الفيل بقيادة أبرهة الأشرم إلى مكة لهدم الكعبة، وأيضًا في هذا الشهر صُرِفت القبلة إلى بيت المقدس في أوَّل الإسلام، وظلَّت هكذا لمدَّة 16 أو 17 شهرًا ثم حُوِّلت بعدها إلى الكعبة.
كما اختُطَّت البصرة بأمرٍ من عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المحرم من عام 14هـ، وفي الثاني من المحرم سنة 20هـ كان فتح مصر على يد القائد المسلم عمرو بن العاص رضي الله عنه، وأيضًا وقعة كربلاء، المعركة التي استُشْهِد فيها الحسين بن علي رضي الله عنهما[12].
من الحوادث التي يُقال إنَّها وقعت في هذا الشهر: أنَّ الله سبحانه وتعالى نجَّى فيه نوحًا عليه السلام ومن آمن معه من الغَرَق، ورَفَع فيه إدريس عليه السلام فوق السماء الرابعة، وأَطْفَأَ نارَ النمرود عن إبراهيم عليه السلام، وردَّ إلى يعقوب ولده عليهما السلام وبَصَرَه، وتاب على داود عليه السلام وجعله خليفةً في الأرض، وردَّ على سليمان عليه السلام مُلْكَه، وأنجى موسى عليه السلام وقومه من فرعون، وفيه رُفِع عيسى عليه السلام إلى الله[13].
[1] ابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت
الطبعة الأولى، 1412هـ= 1992م، 4/226، 227.
[2] محمد صالح المنجد: تفريغ لحلقات برنامج الراصد، 54/12.
[3] الطبري: تاريخ الرسل والملوك، التراث، بيروت، الطبعة الثانية، 1387هـ، 2/388، 389.
[4] ابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، 4/227، والشيخ المنجد: برنامج الراصد، 54/14.
[5] ابن كثير: البداية والنهاية، دار الفكر، 1407هـ= 1986م، البداية والنهاية، 3/207.
[6] ابن الأثير: الكامل في التاريخ، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1417هـ= 1997م، 1/13.
[7] ابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، 4/228.
[8] الموسوعة العربية العالمية، ص2.
[9] ابن تيميَّة: مجموع الفتاوى، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، 1416هـ= 1995م، 25/138.
[10] الموسوعة العربية العالمية، ص2.
[11] البخاري: كتاب الصوم، باب صيام يوم عاشوراء (1900)، ومسلم، كتاب الصيام، باب صوم يوم عاشوراء (1130).
[12] الموسوعة العربية العالمية، ص3.
[13] الموسوعة العربية العالمية، ص3.
قصة الإسلام