الانضباط والإلزامية والتمسك بالتقاليد .. مفاتيح نجاح التعليم بالصين
بعد نشري لرحلتي لطلب العلم في الصين.. وبعد قراءتي لأخبار ما يسمى بشباب "التشرميل "، وأنا هنا في بلد الأكثر من مليار نسمة، لم أر أو أسمع عن أي شيء من هذا القبيل، آثرت أن أكمل الكتابة عن هذا التنين الصيني وخصوصا في موضوع التعليم في الصين، لعلنا نستخلص العبر والدروس من الصين نفسها، والرد عبر مزيد من الاهتمام بالتربية والتعليم في بلدنا الحبيب، والنهوض بالتعليم ورفع جودته استعداداً للمنافسة.
تلقي العلم في بلد مثل الصين مليء بالعباقرة والمخترعين والراغبين فى التغلب على الفقر والزيادة السكانية الرهيبة – يجب أن يكون بطبيعة الحال مختلفا، وهذا ليس برأي أو تكهن بل هو واقع عيشناه. الصين كدولة لها طموحاتها وتحدياتها غالباً ما تتجه لمواجهة ذلك ببذل المزيد من الاهتمام برأس المال البشري عبر بوابة التربية والتعليم، لا سيما أنها تدين لتقدمها الإقتصادي والتقني المطرد لنظام تعليمها، مقارنةً بنا كدول عربية ..
الصين تجاوزتنا بعقود عديدة في المجال التعليمي والتقني، فالسياسة التعليمية المتبعة في الصين - حسب كثير من الباحثين الغربيين- سياسة فريدة وغير متبعة حتى في الدول المتقدمة من العالم.
يقول الكاتب الأمريكي : 'نيكولاس كريستوف' : لقد زرت مؤخراً منطقة 'تايشان' الواقعة جنوب إقليم 'غوانغدونغ' الصيني، وزرت عدداً من المدارس الإبتدائية والإعدادية هناك، وخلال زيارتي أدركت أن الفجوة التعليمية بين الصين والولايات المتحدة ما فتئت تتقلص بسرعة، وأستطيع القول إن مستوى الرياضيات الذي يدرس حتى في مدارس الفلاحين في القرى الصينية يشبه مستوى الرياضيات في المدارس الممتازة في منطقة نيويورك حيث يدرس أبنائي'.
المراحل التعليمية بالصين
وتنقسم المراحل التعليمية فى الصين إلى رياض الأطفال والتعليم الابتدائي والاعدادي والثانوي والجامعي. وتطبق الحكومة نظام التعليم الإلزامى لمدة تسع سنوات فى المدارس من الابتدائية إلى الاعدادية.
ويعفى الطلاب من الرسوم الدراسية فى مرحلة التعليم الالزامى، ولا يدفعون سوى مبلغ بسيط من النفقات المدرسية، ومن أسباب نجاح وتفوق التلاميذ الصينيين أولها المنهج الصيني المتبع، وثانيها أن الطلاب الصينيين تلاميذ متعطشون للتعليم والتقدم، ويدرسون بجد ومثابرة، مقارنة بالطلاب عندنا من حيث إجتهاد الطلاب وساعات الدراسة والنظام المتبع عندنا وحوافز سوق العمل.
المقارنة تميل بشكل كبير للطالب والمنهج الصيني، ففي معظم مدارس الصين يأتي الطلاب إلي المدرسة في الساعة السابعة صباحا لتلقي مزيد من التوجيه - وفي بعض الأحيان مزيد من التجنيد - قبل أن تبدأ الدروس في الساعة الثامنة.
جميع تلاميذ المدارس هنا من الإبتدائي إلى الثانوي مطالبون بلبس اللباس الموحد عليه اسم المدرسة، فمن جهة يلغي الطبقية بين الطلاب والمنافسة السلبية في شراء الألبسة مما يخفف الضغط والعبء المادي على الأسر، وأيضا ينمي من شخصية الطالب.
يتعود الطالب على لبس الزي عند الحضور إلى المدرسة، مما يساعد على الانتماء للمدرسة، وكذا ترسيخ قيم الانضباط الطلابي، ومن جهة آخرى ليتمكن الطاقم الإداري من معرفة الزوار القادمين للمدرسة بسهولة.
تنتهي حصة الصباح في الساعة الحادية والنصف، فيذهبون إلي بيوتهم من أجل الغداء، ثم يعودون إلي المدرسة أو يبقون في المدرسة للغداء، وبعدها قيلولة صغيرة، وبما أن النصف ساعة نوم فى اليوم لا غنى عنها، فهي تقليد وعادة راسخة فى الصين لا يمكن تغييرها أو إلغائها (في إحدى المدارس وبسبب بعد المدرسة جاء الحل البسيط وهو ان يتناول الاطفال غذائهم فى القاعات الدراسية بل و ينامون أيضاً على مكاتبهم الدراسية) حتى الساعة الثانية ظهرا حيث يدرسون إلي غاية الساعة الخامسة عصرا ، وعلاوة على ذلك، يقوم التلاميذ الصينيون بواجباتهم المنزلية كل ليلة وفي عطلة نهاية الأسبوع، في بعض المدارس قد يصل عدد الطلاب في الفصول الدراسية إلى 60 طالب وربما أكثر.
الإلزام وضبط السلوك
وفرت الحكومة التعليم الإبتدائي إلى ست سنوات، ابتداءً من سن السادسة أو السابعة، تليها ست سنوات من التعليم المتوسط والثانوي لمن تتراوح أعمارهم بين 12 إلى 18 سنة. وفي بعض المحافظات قد يكون التعليم الابتدائي خمس سنوات، ولكن يُعوض بأربع سنوات في المدرسة المتوسطة.
ورغم أن التعليم في الصين إلزامي، فإن نسبة حضور الطلاب في المدارس عالية جداً، وحسب وزارة التعليم الصينية فإن نسبة حضور الطلاب في المدارس الابتدائية يصل إلى %99. وفى السنوات المقبلة، ستركز الحكومة على تطوير التعليم الإلزامي في الأرياف والتعليم العالي، سعيا لتوفير فرص التعليم لجميع الأطفال الصينيين، وبناء جامعات من الدرجة الأولى في العالم بأسرع وقت ممكن.. وللعلم أن نسبة الأمية بالصين انخفضت إلى 6.67 بالمئة.
وكجزء من جهد يرمي إلى إعادة تشكيل وضبط السلوك والقيم عند طلاب الجامعات، فإن جل الجامعات تُخضع طلاب السنة الأولى، ولمدة شهر من إلتحاقهم بالجامعة إلى تدريب عسكري حيث يخوض الطلبة تدريبات شاقة، لتعلم العمل الجماعي والتعاون وغرس معنى حب الوطن والدفاع عنه بسلاح العلم، قبل البدأ في البرامج الدراسية التي تدوم غالبا لأربع سنوات. وينقسم التعليم العالي الصيني إلى التعليم الاختصاصي (المهني) والتعليم النظامي العادي والتعليم لطلاب الماجستير والتعليم لطلاب الدكتوراه.
نجاح التعليم
وقد حصل في الصين نمو كبير في التعليم، وزيادة في عدد الطلاب الجامعيين، فالصينيون الذين يحملون درجة الدكتوراه تضاعفوا خمسة مرات خلال فترة 1995-2005 ، وفي سنة 2003 بلغ مجموع الجامعات والكليات في الصين 1552، ومجموع الأساتذة 725 ألف أستاذ و11 مليون طالب.
ويقابل هذه الزيادة في الكم تطور في الكيف، فالطلاب الصينيون يشتهرون بتفوقهم عالميًا، وهم يحققون نتائج توصف بالمذهلة في الاختبارات التربوية الدولية، وذلك حسب ما صرح به أندريس شلايشر، المسؤول عن اختبارات ' بيسا ' التي تجريها منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OECD ، والتي تعتبر المعيار الدولي الرئيسي لقياس جودة الأنظمة التعليمية في البلدان المختلفة، كما أن الصين تحقق مراكز متقدمة في الأولمبيادات العالمية.
ومن أسباب نجاح التعليم أن الصين تكن إحتراما ثقافيا كبيرا للتعليم في إطار موروثها الكونفشيوسي، حيث تعتبر الصين من الدول المتشددة في المحافظة على القيم والتقاليد، لذلك لم تتغير أغلب مفاهيمهم، فالتراث لديهم مقدس ولا يتغير، كما أن الشعب الصيني امتاز بخضوعه التام للتقاليد وجزئياتها وبتقديسه لها بصورة كلية.
وظل الأمر كذلك إلى أن جاء كونفوشيوس، وأوجد مفهوما جديدا للتربية، والتي تهتم بدراسة الفضيلة وخدمة الأقارب، وأدب اللباس وأشياء كثيرة في شؤون الفلسفة الروحية، ومن العوامل الخفية التي ساعدت في هذا النجاح، هي الأسرة خصوصا ما يسمى بثقافة "الجدة" التي غابت في الحضارة الغربية وفي جميع الحضارات إلا في الحضارة الصينية فالجدة تعتني بالحفيد وتراقبه في مساره التعليمي.
ونجد أيضا، وهذا أهم شيء، العلاقة بين المعلم والطالب التي تعتبر من أبرز دعائم العملية التعليمية ومن أسمى العلاقات الاجتماعية، فالعلاقة بين الطالب و الأستاذ في الصين هي علاقة تعتمد على الإحترام حيث يعد الأستاذ كأب وربما في بعض الأحيان إلى طبيب نفسي لمساعدة بعض الطلبة في حل مشاكلهم.
يحظى المعلمون في الصين باحترام وتعويضات أكبر وأفضل، مالياً ومعنوياً. ومن الأسباب أيضا في نجاح التعليم للعملاق الصيني في ميدان التعليم، وخلال العشرين سنة الماضية، أن بعض الأقاليم الصينية خصصت 20 في المائة من ميزانيتها للتعليم فقط.
ويستفيد من التعليم الجامعي ستون في المائة من الأعمار، ما بين 18 و22 سنة، كذلك تقوم الدولة بتخصيص عدة منح وتنقسم هذه المنح إلى منح للطلبة المميزين، ومنح للطلبة الفقراء، وهناك منح مخصصة للطلبة و للأساتذة الجامعين للإلتحاق بجامعات كبرى في العالم كالجامعات الأمريكية لعمل دورات تدريبية أو للإلتحاق بمختبرات علمية متطورة لنقل بعض أسرار الدول الكبرى في ميدان التعليم، ناهيك أن الصين فيها عدد كبير من المختبرات العلمية، فجامعة فودان التي في شانغهاي مثلا فيها ما يقارب 65 معهد بحث و91 مركز بحث للتخصصات المرتبطة بالمجالات العلمية.
يلاحظ كذالك اهتمام كبير من الصينيين باللغات الأجنبية، فهناك جامعات خاصة باللغات الأجنبية، من بينها نجد اللغة اللغة العربية، لكن الدولة تولي اهتماماً خاصاً للغة الإنجليزية دون إغفال ﺍﻻﻫﺘﻤﺎﻡ ﺒﻨﺸﺭ ﺍﻟﻠﻐﺔ ﺍﻟﺼﻴﻨﻴﺔ، وهذا ما مكن الصين من التواصل مع جميع الثقافات الأجنبية.
وارتفعت المنح الصينية للطلاب الأجانب كثيرا في السنوات الأخيرة، وذلك ما يعطي فرصة سانحة للتعرف عن قرب علي المنهج الصيني للتعليم والإستفادة منها، وتطبيق ما يناسب أو يخدم المناهج الدراسية لهذه الدول.
حديثي عن التجربة التعليمية لأكبر نظام تعليمي في العالم هو للإستفادة ونقل إيجابيات الصين في هذا المجال، ووضع خطط لجرد شامل لجهاز التعليم في بلدنا ووضع خطة توصيات شاملة: بنيوية، تنظيمية وتربوية، وكذلك الطرق لتنفيذها في مدة زمنية واضحة المعالم، وأن تكون هناك هيئة مجندة لهذه المهام.
وهكذا تظل هذه البقعة من العالم قبلة يؤمها طلاب العلم من كل بقاع الأرض، ليتأكد لنا صحة المقولة "اطلبوا العلم ولو في الصين".