الموصل في التاريخ

الموصل

مدينة تقع شمال العراق على بعد 396 كيلومتر شمال العاصمة بغداد. وهي مدينة تاريخية قديمة قامت على أنقاض مدينة نينوى الأشورية. وهي أكبر مدن الشمال العراقي ويقسمها نهر دجلة الى قسمين ومما سمي القسم الاول بالساحل الايسر والقسم الثاني بالساحل الايمن وهي ثالث أكبر مدن العراق ويقطن الموصل سكان من أصول عربية.







نبذة تاريخية:

يعود تاريخ الموصل إلى عام 1080 قبل الميلاد عندما اتخذ الآشوريون مدينة نينوى عاصمة لهم وحصنوها فأقاموا حولها القلاع، ومنها القلعة التي كانت في الجهة الغربية من دجلة تقابل مدينة نينوى، وتقع هذه القلعة فوق "تل قليعات" الذي يشرف على السهول الغربية المقابلة لمدينة نينوى، كما يشرف على السهول التي بين نينوى والموصل.
كانت هذه القلعة -الحصن- النواة لمدينة الموصل، فإن مناعة الموقع، وخصب السهول المجاورة لها، وقربها من دجلة، ووجود حامية في الحصن، ووقوعها على طريق رئيسية تصل بين طرفي الهلال الخصيب كل هذا شوق الناس على أن يسكنوا حول هذا الحصن المذكور، وأخذت البيوت تزداد على مر السنين.
وفي سنة 612 قبل الميلاد سقطت مدينة نينوى فدمرها الأعداء وقتلوا أهلها، ولم ينج من سكانها إلا القليل، ولا شك أن التخريب والقتل أصاب الحصن الغربي ومن حوله.
وبعد أن هدأت الأحوال واستتب الأمن في البلاد، تراجع بعض السكان الذين سلموا من سيوف الأعداء إلى نينوى، وأسسوا لهم حصنا على "تل توبة" في نينوى، كما أن قسما منهم رجعوا إلى الحصن الغربي فرمموه وسكنوا فيه. فصار قرب دجلة حصنان أحدهما" الحصن الشرقي" وهو الذي فوق "تل التوبة" يقابله في الجهة الغربية من دجلة " الحصن الغربي" الذي فوق "تل قليعات".
وفي القرن الرابع قبل الميلاد ازدادت العمارة حول الحصن الغربي وصار قرية لها شأن يذكر وقد كان يطلق عليها مسبلاMespila وقد أصبح لها شأن بعد سقوط نينوى لموقعها المهم الذي يصل بين عدة أقطار، وهذا الموقع نفسه سبب للمدينة ويلات ومصائب عديدة، فقد كانت ساحة للحروب التي استعرت نيرانها بين المتنازعين على الحكم، فكانت الجيوش تكتسحه فتدمر ما به.
وفي عهد كسرى الأول أنو شروان 521 / 579 م كانت الحرب سجالا بين الروم والفرس فأغار الروم وخربوا الموصل، وفي عهد كسرى أبرويز بن هرمز 579 / 590 م اهتم بتعزيز موقع الموصل. فبنى فيها عدة دور وحصنه ا، وأتى ببعض الفرس وأسكنهم فيها فتوسعت المدينة وكانت من معاقل الفرس القوية التي تصد زحف الروم عنها.
وقد لاقت الموصل اهتماما كبيرا من أردشير وسميت باسمه "نيو أردشير " أي أردشير الجديدة وأما الكتبة الآراميون فكانوا يسمونها "حصن عبورايا" أي الحصن الغربي، أما العرب فقد كانوا يسمونها "خولان" كما كانوا يطلقون عليها الحصنين.
وقد تم الفتح الإسلامي للموصل في عام 16هـ / 637 م والقبائل التي اشتركت في الفتح هي (تغلب وأياد والنمر) بقيادة ربعى بن الأفكل العنزي. وقد كانت هذه القبائل منتشرة بين تكريت والموصل، وقد سكن قسم من هذه القبائل الموصل بعد الفتح، والقسم الكبير منها استمر في الزحف على البلاد المجاورة وخاصة أذربيجان وأرمينيا.
وفي عام 17هـ / 638 م عين الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه عتبة بن فرقد السلمي واليا على الموصل وهو الذي بنى المسجد الجامع، وإلى جانبه دار الإمارة، وكان بها أحد الأجناد الستة التي جندها الفاروق وجعلها تابعة للكوفة.

وفي خلافة عثمان بن عفان كثرت هجرة القبائل العربية إليها خاصة بعد أن توطدت الأمور واستقرت الفتوحات، وأخذ العرب يقطنون البلاد المفتوحة ويتخذونها مقاما لهم. وأول من نزلها من القبائل هي الأزد وطي وكندة وعبد قيس. ونزل منها أربعة آلاف، وأمر عليهم الخليفة عثمان بن عفان "عرفجة بن هرثمة البارقي" وسعى البارقي في توسيع الموصل وتعميرها فاختط منازل العرب فيها، ووسع الجامع الذي كان قد بناه عتبة بن فرقد السلمي.
وفي عهد الخليفة علي ابن أبي طالب رضي الله عنه زادت الهجرة إلى الموصل، فهاجرت القبائل العربية من الكوفة والبصرة، وهكذا توسعت الموصل واتخذها العرب دار إقامة لهم.
وانقضى عهد الراشدين، والموصل في توسع دائم حتى صارت من أمهات أمصار الجزيرة وبلغ خراجها في خلافة معاوية ابن أبي سفيان رضي الله عنه أربعة ملايين درهم. واهتم الأمويون بالموصل كثيرا نظرا لأهميتها الحربية والتجارية فكانوا يولون عليها أقدر الولاة وأحزمهم، وكثيرا ما كانوا يولون عليها من ثبت عندهم حبه للإصلاح والعمران. وقد سكن الموصل من الخلفاء الأمويين هشام بن عبد الملك، وذلك قبل أن يولى الخلافة، فبنى له قصرا في ربطها الأسفل، وزرع النخيل والأثمار حوله، وبقي القصر إلى سقوط الدولة العباسية، فأقطعه أبو جعفر المنصور السحاج بن وائل الأزدي الذي ساعدهم على الأمويين.
وقد توالى على الموصل عدد من الولاة زادوا في خطتها، فقد أحاط سعيد بن عبد الملك الموصل بسور ورصف طرقها بالحجارة، وبنى بها مسجدا عرف بـ"مسجد عبيدة" نسبة إلى مؤذنه، كما بنى فيها سوق سعيد. ثم ولى عبد الملك أخاه محمد بن مروان الموصل، فجدد سور الموصل، وربما أكمل السور الذي بناه ابن أخيه سعيد، أو أنه وسعه في الأماكن التي توسعت إليها المدينة.
وفي عام 106-113هـ / 724 -731م تولى الموصل الحر بن يوسف الأموي الذي وجد نهر دجلة بعيدا عن المدينة، وأن السكان يلاقون عناء ومشقة في نقل الماء، فشق نهرا من قرب دير مار ميخائيل، وسيره محاذيا للتلال التي تطل على حاوي الكنيسة، وأجراه تحت المدينة في مجرى دجلة الحالي، بدأ بهذا العمل عام 108هـ / 726 م واستمر به العمل إلى عام 115هـ / 733 م فأتم فتحه الوليد ابن تليد العبسي وأراح الناس وعرف بـ"نهر الحر"، ورصفوا شارعا محاذيا لمجراه، وغرسوا على جانبيه الأشجار، فكان أهل المدينة يتنزهون به في الأمسيات، وبنى الحر قصره المعروف بالمنقوشة. وكان من القصور المشهورة، بناه عام 106هـ / 724 م، وهو قصر منقوش بالساج والرخام الأبيض المصقول والفصوص الملونة والفسافس. وكان من أجمل القصور في زمانه، وبقي القصر إلى القرن السابع الهجري.
ثم تولاها مروان بن محمد مرتين (إحداهما 102- 104هـ / 720 - 722م والثانية 126- 127هـ / 743 - 744م). وكان أول من عظم الموصل وألحقها بالأمصار العظام، وجعل لها ديوانا يرأسه، ونصب عليها جسرا، ونصب طرقاتها وبنى عليها سورا، وهدم المسجد الجامع ووسعه وبنى له منارة، وأحاطه بأسواق، فكانت أسواق الموصل الرئيسية حوله. وعلى هذا فقد صارت الموصل قاعدة بلاد الجزيرة بعد أن كانت مدينة تابعة للكوفة.
وفي العصر العباسي الأول نكبت الموصل على أثر ثورة أهلها على محمد بن صول سنة 133هـ / 750 م وفتك بها العباسيون فتكا ذريعا، حتى أن أسواقها بقيت معطلة عدة سنين، وكان هذا على يد يحيى بن محمد أخي السفاح.

وفي عام 133هـ / 750 م ولى المنصور عليها عمه إسماعيل بن علي بن عبد الله بن العباس، ولما دخل البلد وجدها بحالة يرثى لها، فجمع الناس وخطبهم ووعدهم بحسن السيرة فيهم بأن يرد عليهم المظالم، ويعطيهم ديات من قتلهم يحيى، وكتب إلى المنصور يعلمه بسوء حال البلد وخراب ه. فكتب إليه المنصور أن أرفق بالناس وتألفهم. فأخذت المدينة تستعيد مركزها الاقتصادي حتى بلغت جبايتها في خلافة هارون الرشيد (24.000.000) درهم و(20.000) رطل عسل. مع العلم بأن المهدي كان قد خزل منها كورة دراباذ وكورة الصامغان. ومع أن المعتصم خزل منها أيضا كورة تكريت وكورة الطيرهان فإنه بلغ ما كان يجبى منها ومن أعمالها في خلافته (6.300.000) دينار كان هذا في الربع الأول من القرن الثالث الهجري.
وفي أواخر القرن الثالث للهجرة / التاسع الميلادي ملكها بنو حمدان فاهتموا بالزراعة كثيرا، فغرسوا فيها الأشجار، وكثرت الكروم وغرست الفواكه، وغرست النخيل والخضر، وكانوا يعنون بزراعة القطن والأرز والحبوب. وبلغ خراج الحنطة والشعير فيها خمسة ملايين درهم.
وخلف العقيليون الحمدانيين في حكم الموصل سنة 368- 486هـ / 979 - 1093م وخلال مدة حكمهم تنازعوا فيها على الحكم وسبب هذا تأخر المدينة عما كانت عليه. ثم انتزع السلاجقة منهم البلاد، وزادت الاضطرابات والحروب بين أمرائهم على الحكم ولاقت المدينة ويلات كثيرة ومصائب، فتأخرت فيها التجارة وقلت المزروعات وهجر قسم كبير من سكان الموصل مدينتهم، وهكذا تقلصت عما كانت عليه، حتى استولى الخراب على أكثر أحيائها.
وفي رمضان من عام 521هـ / 1127 م تسلم عماد الدين زنكي الموصل وبدأ بذلك العهد الأتابكي لحكم الموصل- ولما تسلم عماد الدين الموصل أقام بها يقرر أمرها ويصلح قواعدها وكانت الموصل هي المركز بالنسبة إليه فانطلق منها ليوسع دولته خاصة بعد أن وجد البلاد مقسمة بين الأمراء وكل واحد منهم قد استأثر بولايته لا يهمهم من أمر البلاد سوى جمع ما يقدر على جمعه من أي طريق كان، كما استفحل خطر الصليبيين واحتلوا أكثر البلاد السورية ووصلوا إلى أسوار حلب فحشد عماد الدين جيوشه وبدأ بأمراء الأطراف ثم سار إلى حلب فاستبشر به أهلها خاصة لما كانوا يقاسونه من النزاع بين الأمراء فضلا عما يصيبهم من مضايقة الصليبيين لهم حتى كانوا يقاسمونهم في بعض محاصيلهم، ثم توجه إلى حماة فاستولى عليها عام 524هـ / 1130 م، ثم التفت إلى ما جاوره من حصون النصارى فهاجمهم ودخل معهم في معارك كبيرة كان فيها مؤيدا من الله بالنصر العظيم عليهم فهابه النصارى، وأصبح أعظم قائد في الهلال الخصيب، وصار ملكه يمتد من شهرزور شرقا، إلى قرب سواحل سورية غربا ومن آمد وديار بكر وجبال الأكراد الهكارية والحميدية شمالا إلى الحديثة جنوبا.
وفي عهد العثمانيين كانت الموصل إحدى الولايات التابعة للخلافة العثمانية وقد تمكنت في حكمها المحلي والإقليمي الأسرة الجليلية 1136- 1249هـ / 1724 - 1834م التي تنتمي إلى مؤسسها عبد الجليل.
وبرز من هذه العائلة اسم الوزير الحاج حسين باشا الجليلي 1108-1171هـ / 1697 -1758م. بشكل مؤثر من خلال الخدمات العسكرية التي قدمها للدولة العثمانية ضد الفرس وخصوصا نادر شاه. وقاد هذا الوزير انتصار الموصل على نادر شاه ومنع بذلك امتداد إيران الأفشارية في السيطرة على المشرق العربي. وقد اكتسب هذا الوالي الجليلي لقب "بطل الحصار". فثبت من خلال عمله الاستراتيجي موقع أسرته المحلية سياسيا وإداريا في حكم ولاية الموصل لفترة تقترب من قرن كامل في التاريخ الحديث للمشرق العربي.

وكان من أبرز أبناء الأسرة الجليلية الوزير محمد أمين باشا الذي منح لقب "الغازي" نظرا لاشتراكه في الحرب العثمانية - الروسية عام 1184هـ / 1770 م كسردار للجيوش العثمانية، وقد أسر من قبل الروس، وفك أسره بعد حوالي خمس سنوات، فقابل السلطان عبد الحميد الأول 1180- 1203هـ / 1774 - 1789م الذي وكل إليه مهمة تعديل نظام بلاد الشرق والعراق وولاه العراق ولكنه توفي سنة 1181هـ / 1775 م، قبيل الشروع بمهمته الكبرى.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وقعت الموصل تحت الاحتلال الفرنسي وظلت كذلك تحت الحكم الفرنسي حتى نالت العراق الاستقلال، وهي الآن مدينة من أهم المدن العراقية التي تحظى بمكانة عالية.
المعالم الحضارية:

الأسور:


يحيط بالموصل سور كبير كان أول من خطه هو سعيد بن عبد الملك الذي تولى الموصل في خلافه أبيه عام 65- 89هـ / 685 - 708م. ثم أن مروان بن محمد وسع السور الذي بناه سعيد في الأماكن التي اتسعت فيها المدينة ورمم ما انهدم منه وذلك في أوائل القرن الثاني للهجرة. وقد بقي سور سعيد حتى هدمه هارون الرشيد عام 180هـ / 797 م على إثر ثورة أهل الموصل عليه. وبقيت المدينة بلا سور حتى عام 474هـ / 1081 م فبنى شرف الدولة العقيلي سورا للموصل قليل الارتفاع ولم يعمل له فصيلا، ولا أحاطه بخندق، وفرغ من عمارته بعد ستة أشهر. ثم أن جكرمش -أحد ولاة السلاجقة في الموصل- رمم سور المدينة، وبنى له فصيلا. وحفر الخندق وحصن ا لمدينة عام 468هـ / 1076 م وفعل مثل هذا جاولي عام 502 هـ / 1109 م.
ولما تولى الموصل عماد الدين زنكي واتخذها عاصمة لملكه رأى من الضروري أن يحكم تحصين المدينة. فوسع السور من الجهة الشمالية من المدينة وأدخل الميدان بما فيه قصور الإمارة داخل السور الجديد الذي بناه ، كما أنه رفع السور من سائر جهاته وأحكمه، وعمر الخندق الذي يحيط به عام 527هـ / 1133 م. وصار للميدان سوران أحدهما السور السلجوقي والثاني السور الأتابكي الذي بناه عماد الدين زنكي.
وقد كان لسور الموصل تسعة أبواب في العهد الأتابكي وهي، الباب العمادي وفتحه عماد الدين زنكي عام 527هـ / 1133 م وسمي باسمه. وكان يؤدي إلى الربض الأعلى من المدينة ولم يزل موقعه يعرف بهذا الاسم. ومن أهم أبواب المدينة باب سنجار وكان يقع في اللحف الغربي من تل الكناسة ولم يزل مكانه إلى اليوم يسمى باب سنجار ويؤدي إلى الجهة الغربية من المدينة .وهو من أقدم أبواب المدينة. وكان هذا الباب من أوسع أبواب المدينة يحيط به من الداخل مرافق كثيرة للجيش وخيوله وعتاده. ومن الأبواب الغربية أيضا باب كندة، وباب الجصاصة، وكذلك ما يعرف بالباب الغربي وهو الباب الذي فتحه عز الدين مسعود بن قطب الدين مودود ولم يكن قبله هناك باب وانتفع به أهل ذلك الصقع.
أما الأبواب الجنوبية فيه باب العراق وهو الذي كان يؤدي إلى الجهة الجنوبية -جهة العراق- ولم يزل محله معروفا بهذا الاسم. وباب القصابين وهو من أبواب الموصل القديمة. وبقي يعرف بهذا الاسم إلى القرن السادس للهجرة وهو كما يدل عليه اسمه كان يؤدي إلى سوق القصابين.
ومن الأبواب الشرقية باب الجسر وهو من أبواب الموصل القديمة أيضا. وبقي معروفا بهذا الاسم إلى أيامنا هذه وهو يقع في مدخل الجسر الخشبي القديم الذي رفع عام 1352هـ / 1934 م على أثر بناء الجسر الحديدي المسمى جسر الملك غازي. وهو من أشهر أبواب المدينة لأنه الباب الوحيد الذي كان يصل المدينة بالجهة الشرقية منها. وباب المشرعة كان يقع قريبا من دور المملكة يؤدي إلى النهر، وقد بنى عليه الملك سيف الدين غازي عام 541 هـ / 1147 م رباطا. والرباط يسمى اليوم مقام عيسى دده.

القلاع:




تقع قلعة الموصل على الأرض المرتفعة التي تشرف على نهر دجلة وعين كبريت. وهي في شمال مدينة الموصل وكانت تجاور دور المملكة. ولا يعرف من الذي أنشأ هذه القلعة أول مرة. وأقدم ذكر لها عثر عليه أن البساسيري (450هـ / 1058 م) حاصرها أربعة أشهر وبعد أن استولى عليها هدمها وعفي أثرها. وأن الأتابكيين اهتموا بهذه القلعة فوسعوها وأكملوا عمارتها وصارت تتسع لآلاف من أفراد الجيش. وفيها مخازن للمؤن والعتاد ولوازم الحرب.
ومن الذين اهتموا بعمارة القلعة فرمم سورها وأحكم أبراجها وجدد ما انهدم من مرافقها هو فخر الدين عبد المسيح وزير سيف الدين غازي بن قطب الدين مودود. وكان يحيط بالقلعة سور غير سور مدينة الموصل. ومن أبوابه: باب القلعة وكان يؤدي منها إلى الميدان. وباب السر وكان يؤدي منها إلى النهر من جهة عين كبريت وهو أمنع أبوابها.
وكانت القلعة مركزا هاما في الدولة يكون فيها العتاد والذخيرة. ويتولى حراستها جيش كبير يشرف عليهم دزدار مخلص معروف بالشجاعة والحزم والتدبير. وقد يفوض لدزدار قلعة الموصل النظر في أمور القلاع والإشراف على من فيها.

وقد بقيت القلعة عامرة حتى سنة 660هـ / 1262 م وفي هذه السنة حاصر الموصل سنداغو ونصب عليها المنجنيقات وتحصن في القلعة (ياسان) وشدد المغول الحصار على القلعة، ورموها بالأحجار والنار. ففتحوا المدينة وهدموا قلعتها، وهكذا هدمت هذه القلعة الحصينة وأصبحت خرابا.

البيمارستانات:

كان في المدينة بيمارستانان: أحدهما داخل المدينة، والثاني في الربض الأسفل منها ، بناه مجاهد الدين قيماز تجاه جامعه الذي بناه على دجلة، والذي لم يزل باقيا إلى اليوم ويعرف بالجامع الأحمر وهذا البيمارستان جميل جدا، وفيه كل ما يحتاجه المريض من أسباب المعالجة والنزهة والترويح عن النفس والتخفيف عن المريض.
كما كان في المدينة بيمارستان خاص بمعالجة المجانين. وكانت المعالجة في البيمارستان بلا ثمن يدخله المريض فتجري عليه الفحوص اللازمة، ثم يوصف له الدواء، ويعطى إليه من صيدلية البيمارستان، وإذا احتاج المريض أن يكون تحت إشراف طبيب، فإنه كان ينام في البيمارستان ويجري عليه الطعام والشراب والدواء، وكل ما يحتاجه مما يخفف مرضه، ويكون هذا بلا عوض.


المساجد:




وجد في الموصل على مر العصور العديد من المساجد والجوامع العظيمة الجميلة، ومن هذه المساجد مسجد خزرج ويقع في محلة خزرج وهو من أقدم مساجد الموصل أسس في القرن الأول للهجرة / السابع الميلادي وسكنت قبيلة خزرج حوله بعد تمصير الموصل فنسب إليها. ولم تزل محلة خزرج تسمى بهذا الاسم ويسكنها بعض البيوت من قبيلة خزرج.
وهناك الجامع الأموي وهو أول جامع بني في الموصل بناه عتبة بن فرقد السلمي عام 17 هـ / 119 م وبنى إلى جنبه دار الإمارة ثم وسعه عرفجة بن هرثمة البارقي. ولما تولى مروان بن محمد الموصل هدم الجامع ووسعه وبنى فيه مقصورة ومنارة وبنى إلى جنبه مطابخ يطبخ بها للفقراء في شهر رمضان، وصار يعرف (بالجامع الأموي(.
وفي عام 167هـ / 784 م أمر الخليفة المهدي عامله موسى بن مصعب بن عمير أن يضيف إلى الجامع الأسواق التي كانت تحيط به فهدمها مصعب مع المطابخ وأضافها إلى الجامع ووسعه. وكانت حالة الجامع غير مرضية في القرن الخامس للهجرة / الحادي عشر الميلادي وذلك على عهد الولاة السلاجقة فتداعى بنيانه وترك الناس الصلاة فيه إلا يوم الجمعة. وفي عهد الأتابكيين اهتموا به كما اهتموا بكافة مرافق المدينة وتجديدها فجددوا عمارته عام 543هـ / 1149 م وذلك على يد سيف الدين غازي الأول بن عماد الدين زنكي وكانوا يسمونه الجامع العتيق تمييزا له عن الجامع الجديد -الجامع النوري- واهتم الأتابكيون بتزيينه وزخرفته. والجامع في الوقت الحاضر صغير تقام به الجمعة وقد اتخذ قسم كبير من فنائه مقابر عامة وتسمى مقبرة الصحراء وكانت تسمى مقبرة الجامع العتيق.
ومن الجوامع أيضا الجامع النوري الذي بناه نور الدين محمود زنكي عندما دخل الموصل عام 566هـ / 1171 م وكان في المدينة جامع واحد يجمع به. وقد ضاق بالمصلين خاصة وأن المدينة قد ضاقت بسكانها. وذكروا له أن في وسط الموصل خربة واسعة تصلح أن تكون جامعا كبيرا لوقوعها في وسط أسواق المدينة. فركب نور الدين إلى محل الخربة وصعد منارة مسجد أبي حاضر، وأشرف على الخربة، وأمر أن يضاف إليها ما يجاورها من الدور والحوانيت، وأن تؤخذ من أصحابها برضاهم، بعد أن يدفع إليهم أثمانها.
وقد قام ببناء الجامع شيخ نور الدين وهو معين الدولة عمر بن محمد الملا وبقي يشتغل في عمارة الجامع ثلاث سنوات. وعندما زار نور الدين الموصل مرة ثانية عام 568هـ / 1173 م صلى بجامعه بعد أن فرشه بالبسط والحصر وعين له مؤذنين وخدما وقومة ورتب له كل ما يلزمه. كما أن نور الدين أوقف له أوقافا كثيرة لصيانته وأدامته والصرف على من يتولى أموره. وبن ى به نور الدين مدرسة.
ومن الجوامع أيضا الجامع المجاهدي الذي بناه أبو منصور قيماز بن عبد الله الزيني الملقب مجاهد الدين من أهل سجستان أحد كبار الدولة الأتابكية. وكان في الموصل على عهده جامعان يجمع بهما: الجامع الأموي والجامع النوري. وكان الربض الأسفل كالمدينة بعمرانه وأسواقه ويلاقي سكانه صعوبة في الذهاب إلى أحد الجامعين لأداء صلاة الجمعة. فقرر أن يبني جامعا في هذا الربض ليريح الناس. وفي عام 572هـ / 1177 م باشر بعمارة الجامع واستخدم في بنائه أمهر البنائين والفنانين وصرف عليه مبلغا كبيرا واستمر العمل به خمس سنين فكان من الجوامع المعدودة في بلاد الجزيرة. وأقيمت فيه صلاة الجمعة عام 575هـ / 1180 م قبل أن تكمل عمارته. ولما كملت عمارته عام 576هـ / 1181 م اعتنى مجاهد الدين في تزيينه بكتابات مختلفة وزخارف متنوعة بعضها بالجبس وبعضها بالآجر وبالمرمر المطعم بالصدف. والجامع في الوقت الحاضر أصغر مما كان عليه في العهد الأتابكي ويسمى جامع الخضر أو الجامع الأحمر.

الحمامات:

كان في المدينة العديد من الحمامات التي كان يرتادها أهل الموصل. فقد كان بها 200 حمام للرجال تجاورها 200 حمام للنساء، و 10 حمامات خاصة بالبنات فقط. كما تميزت أيضا الموصل بحمامات الاستشفاء. فقد كان في الموصل حمام العليل، وكان من المحلات التي يرتادها أهل الموصل في فصلي الربيع والصيف، وخاصة أصحاب الأمراض الجلدية، فكانوا يستشفون بمائها المعدني الحار. ويكون حمام العليل في الصيف مزدحمة بالسكان، فيبنون لهم عرائش على شاطئ دجلة يسكنونها. ولم يزل حمام العليل على ما ذكرنا حتى وقت قريب.

الأسواق:




كانت أسواق الموصل الرئيسة في العهد الأموي حول الجامع الأموي وهو مركز المدينة في ذلك الوقت يجاوره دار الإمارة. ثم إن إسماعيل بن علي بن عبد الله العباسي نقل الأسواق إلى خارج المدينة عام 137هـ / 755 م وبنى في وسطها مسجد أبي حاضر ويعرف بمسجد الشالجي في الوقت الحاضر.
كما أن الخليفة المهدي كان قد وسع الجامع الأموي عام 167هـ / 784 م وأضاف إليه ما كان يحيط به من الأسواق. وهكذا انتقلت معظم الأسواق الكبيرة إلى قرب الجامع النوري وأخذت تتوسع هذه بتوسع المدينة حتى صارت الأسواق التجارية المهمة تحيط بالجامع النوري وهو في وسط مدينة الموصل على عهد الدولة الأتابكية.
على أن بعض الأسواق بقيت في محلها القديم في شرقي الموصل خاصة الأسواق التي يحتاجها الفلاحون كسوق القتابين وسوق الشعارين وسوق الأربعاء. ونشأت أسواق أخرى قريبة من باب الجسر وهي الأسواق التي كان يمتار منها الفلاحون الذين يقصدون الموصل من الجهة الشرقية.

ويعد سوق الشعارين وسوق القتابين من أقدم أسواق الموصل ويعود تاريخهما إلى القرن الأول للهجرة / السابع الميلادي ولم يزالا معروفين إلى اليوم بهذا الاسم. وسوق الأربعاء وتسمى أيضا المربعة- جهار سوك. فسوق الأربعاء كانت تقع على الأرض التي يطلق عليها "سوق الميدان" في الوقت الحاضر. والتي تمتد إلى قرب باب الجسر بما فيها القسم المجاور لها وتقع على النهر. وسوق الأربعاء من الأسواق القديمة في الموصل ورد ذكرها في أوائل القرن الثاني للهجرة. وبقيت سوق الأربعاء إلى القرن السابع للهجرة تعرف بهذا الاسم.
وهنالك أسواق أخرى كانت في أحيائها الداخلية وفي أرباضها. ففي الربض الأسفل السوق الذي بناه مجاهد الدين قيماز وهو من الأسواق الكبيرة المعلومة في الموصل ومحط التجار الذين يأتون من الجهة الجنوبية.
ومن أسواقها الكبيرة داخل المدينة "جهار سوك" وهو يقع في وسط المدينة أيضا في المحلة التي لم تزل تسمى باسمه. ولقد ظل هذا السوق إلى عهد قريب. ثم هدمت أكثر دكاكينه، وأضيفت أرضها إلى شارع الفاروق.
وقد كانت أسواق الموصل ملتقى تجارة الشرق والغرب حيث كانت تصلها القوافل التجارية من العراق محملة ببضائع الهند، وتصلها قوافل إيران ومعها بضائع الصين وفارس، وتحط بها قوافل أذربيجان وترسو فيها مئات الفلك المحملة بحاصلات جزيرة ابن عمر وما يجاورها من بلاد الأناضول. ومن الموصل تخرج القوافل العديدة إلى بلاد سورية محملة ببضائع الشرق وحاصلاته، وتسير إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط.

كما كانت الصنائع في الموصل متقدمة وصارت المصنوعات الموصلية تصدر إلى الهند شرقا وإلى أوروبا غربا ، ومن هذه الصنائع النسيج الموصلي المعروف (بالموسلين) وصناعة التكفيت في المعادن ، وترصيع الخشب والرخام، وصناعة الخزف و الزجاج والزخارف الجبسية وغير ذلك. ونبغ في الموصل كثير من الفنانين الذين كان يرجع إليهم ، وكانت بعض تحفهم التي يبتكرونها مثالا لفناني الشرق يعكفون على درسها وتقليدها.
ولقد انتشرت ا لقيسريات في الموصل ومنها قيسرية خاصة لبيع الروائح العطرية وتسمى قيسرية المسك وفيها (12) دكانا. ومن القيسريات الكبيرة الشهيرة قيسرية الجامع النووي، وكان فيها (699) دكانا. والقيسرية التي بناها مجاهد الدين قيماز الرومي المتوفى عام 595هـ / 1199 م.

المكانة العلمية

تميزت الموصل منذ إنشائها بمكانة علمية عالية فقد انتشرت بها المدارس والمكتبات العامة، كما استوطن بها كثير من العلماء وإليها نسبوا.

المدارس:

لقد كان في الموصل العديد من المدارس التي كان لها دور كبير في ازدهار الحركة العلمية فيها. ومن هذه المدارس المدرسة النظامية التي بناها نظام الملك الوزير المشهور في القرن الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي على غرار التي بنيت في بغداد . وقد درس فيها من العلماء أبو حامد الشهرزوري، وأبو العباس الأنباري المعروف بالشمس الدنبلي. ومن الآثار الباقية لهذه المدرسة محراب نفيس من المرمر الأزرق المطعم بمرمر أبيض وحول المحراب مكتوب بخط كوفي البسملة وآيات من القرآن الكريم.
وكان هناك المدرسة الأتابكية العتيقة التي بناها سيف الدين غازي بن عماد الدين زنكي بن آق سنقر في منصف القرن السادس الهجري. وقد جعلها وقفا على الفقهاء الشافعية والحنفية نصفين. ووقف عليها الوقوف الكثيرة، وبعد موته دفن بمدرسته هذه. وممن درس فيها أبو البركات عبد الله بن الحسين المعروف بابن الشيرجي الذي درس على ابن شداد العالم المشهور.
وكذلك المدرسة الكمالية التي بناها زين الدين أبو الحسن علي بن بكتكين في القرن السادس الهجري. وبناية المدرسة في الوقت الحاضر تسمى جامع شيخ الشط وهي تتألف من غرفة كبيرة مثمنة الشكل فوقها قبة تستند إلى مقرنصات وهي على ما يظهر كانت مزينة بزخارف جبسية من الداخل وزخارف وكتابات آجرية من الخارج. ولم يزل بعض هذه الزخارف باقيا إلى اليوم. وقبة المدرسة مبنية من الآجر وهي بحالة يمكن صيانتها والمحافظة عليها. وفي عام 1219هـ / 1804 م رمم القبة وجدد بابها وبنى أروقة أمامها أحمد باشا بن بكر أفندي الموصلي، وأقام منبرا داخل المدرسة واتخذها جامعا كان يعرف بجامع الشهوان لأنه يقع في المحلة التي تسكنها قبيلة الشهوان. وفناء المدرسة واسع، كما أن عددا من الدور التي تحيط بالمدرسة مبنية على أرض فناء المدرسة نفسها فهي عرصات وقفية.
وهناك مدرسة الجامع النوري التي بناها نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي. وهي عبارة عن مدرسة وجامع في نفس الوقت إذ رأى نور الدين إنه من المفيد أن يجمع بين الدين والعلم في نفس المبنى. وفي الجامع النوري خزانة كتب كانت في المدرسة وهي الكتب التي أوقفها السيد محمد بن الملا جرجيس القادري النوري الذي سعى في ترميم الجامع واتخذ له فيه تكية عام 1281هـ / 1864 م. وكذلك بعض الكتب الأخرى أوقفتها عائشة خاتون بنت أحمد باشا الجليلي. ولم يكن التدريس مستمرا في المدرسة فقد تعطل بها بعد العهد الأتابكي، ثم درس بها في فترات متباينة. ولم يبق لها أثر في الوقت الحاضر.

المكتبات:

انتشرت بالموصل عدد من المكتبات العامة كان من أشهرها المكتبة التي أنشأها أبو القاسم جعفر بن محمد بن حمدان الموصلي السحام في نهاية القرن الثالث الهجري وبداية القرن الرابع الهجري، وتعتبر هذه المكتبة هي أول مكتبة عامة توقف لهذا الغرض وحده. وكانت تحتوي على كتب في جميع فروع المعرفة البشرية، كما كانت وقفا على كل طالب علم لا يمنع أحد من دخولها، وإذا جاءها غريب يطلب العلم وكان معسرا قدم له المال والورق وكانت المكتبة تفتح كل يوم وكان هناك مكانا لمبيت الغرباء المحتاجين.

العلماء:

ينتسب للموصل عدد كبير من العلماء وكان فيها جماعة من المؤرخين من أهل الموصل أو من الذين نزحوا إليها واتخذوها دار إقامة لهم وكتبوا عنها. ومن أشهر من ينتسبون إلى الموصل ابن شداد الموصلي صاحب كتاب تاريخ حلب وهو من علماء عصره المعدودين، كان إماما في الدنيا والدين وكان يشبه القاضي أبا يوسف في عصره، وأيضا المبارك بن الشعار الموصلي صاحب كتاب عقود الجمان ، وأبو الحسن الهروي الرحالة الشهير وله كتاب الإشارات إلى معرفة الزيارات .
كما اشتهر منها من علماء الدين الفخر الموصلي وكان بصيرا بعلل القراءات وله كتاب في مخارج الحروف ، وأبو عبد الله محمد بن الحنبلي الموصلي المعروف بشعلة كان شيخ القراء في الموصل ، متضلعا بالعربية والنظم والنحو وله كتاب كنز المعاني في حرز الأماني .
واشتهر من المحدثين أبو زكريا يحيى بن سالم بن مفلح البغدادي الموصلي الحنبلي. حدث بالموصل وتوفي بها ودفن بمقبرة الجامع العتيق.
والحافظ زين الدين عمر بن س عيد الحنفي الموصلي له كتاب المغني في علم الحديث رتبه على الأبواب وحذف الأسانيد. ومن فقهاء الحنابلة أبو المحاسن المجمعي الموصلي الحنبلي جمع كتابا اشتمل على طبقات الفقهاء من أصحاب الإمام أحمد. كما اشتهر من فقهاء الحنفية أولاد بلدجي.
واشتهر بها من الأطباء أبو الحسن علي ابن أبي الفتح بن يحيى كمال الدين الكباري الموصلي عاش ما يقارب مائة سنة. وكان من أطباء زمانه. والمهذب علي بن أحمد بن مقيل الموصلي وكان أعلم أهل زمانه بالطب له تصنيف حسن.
ومن الأعلام الذين سكنوا الموصل وكتبوا عنها وعن رجالها ابن المستوفي الأربلي، وياقوت الحموي الرومي، و عبد اللطيف البغدادي ، والسمعاني صاحب الأنساب . والعز ابن عبد السلام وله كتاب الفتاوى الموصلية . وابن الصلاح الشرخاني الشهرزوري الملقب تقي الدين، كان أحد فضلاء عصره في التفسير والحديث والفقه وأسماء الرجال وما يتعلق بعلم الحديث واللغة وله مشاركة في فنون كثيرة وهو من فقهاء الشافعية في عصره.