“أبعد المنطق في ما يخص الكون هو أن يكون منطقيًّا”
أينشتاين
لكن الكون قابل للإدراك لأنه محكوم بالقوانين الفيزيائية، ويمكن التنبؤ بسلوكه ونمذجته. لكن ما هذه القوانين والنماذج؟
كانت أول القوى التي أمكن وصفها بلغةٍ رياضية هي قوة الجاذبية. لقد نشر نيوتن قانونه في الجاذبية عام 1687 وهو ينص على أن كل جسم في الكون يجتذب كل جسم آخر بقوة تتناسب طردًا مع كتلته. وقد كان لذلك وقعٌ عظيم على الحياة الفكرية لذلك العصر، لأنه أظهر وللمرة الأولى أنّ أحد خصائص الكون يمكن تمثيلها بدقة، وأرسى الدعائم الرياضية لذلك.
لقد تمخض عن فكرة أنّ للكون قوانينه التي تحكمه قضايا كتلك التي أُدين بسببها غاليليو بالهرطقة قبل 50 عامًا من نيوتن وقانونه في الجاذبية.
يروي إنجيل جوشوا قصة جوشوا الذي يطلب من الله إيقاف الشمس والقمر في مساراتهما ليحظى بالمزيد من ضوء النهار في حربه على العموريين، بالطبع ندرك اليوم الآثار المترتبة على ذلك، وأهمها استمرار كل ما يعلو الأرض بالحركة بالسرعة الأصلية للكوكب، لكن نيوتن كان ذلك المؤمن الذي لم يجد ضيرًا في ذلك.
نظرية كل شيء – من الجاذبية نحو الكهرومغناطيسية
ثاني خصائص الكون المقننة أو المنمذجة كانت القوى الكهربائية والمغناطيسية، وهي قوى لها سلوك الجاذبية مع فارق هام وهو الإدراك بأن الشحنات الكهربائية متماثلة الشحنة تتنافر، وكذلك الأمر بالنسبة للأقطاب المغناطيسية المتماثلة. في حين تتجاذب المتخالفة منها.
إنّ القوى الكهربائية والمغناطيسية أقوى بكثير من الجاذبية، لكننا لا نلحظها في حياتنا اليومية، والسبب أن الأجسام العيانية المرئية تحتوي أعداد متماثلة من الشحنات الكهربائية الموجبة والسالبة، وكذلك الأقطاب المغناطيسية، مما يعني أنها تفني بعضها بعضًا. لكن أثر الجاذبية تراكمي ومضاف.
لقد تطورت أفكارنا عن القوى الكهربائية والمغناطيسية على مدار مئة عام، حتى أدرك الفيزيائيون ارتباط القوتين ببعضهما البعض، إذ تؤثر الشحنات الكهربائية المتحركة بقوى على المغانظ، كذلك الأمر بالنسبة للمغانط المتحركة فهي تؤثر على الشحنات الكهربائية.
وكان العالم الدنماركي كريستيان أورستيد هو أول من صاغ عبارة
كهرومغناطيسية.
وبعد عدة سنوات، أدرك العالم البريطاني ميشيل فارادي، أنّه إن كان بالإمكان أن ينتج عن التيار الكهربائي حقل مغناطيسي، فينبغي أن يكون الحقل المغناطيسي قادرًا على توليد تيار كهربائي. أظهر ذلك عام 1831، وبعدها ب 40 عامًا اكتشف العلاقة بين الكهرومغناطيسية والضوء، حيث أظهر أن حقلًا كهرومغناطيسيًا قويًا من شأنه التأثير على طبيعة ضوء مستقطب.
وكما يعرف الكثيرون، لم يكن فارادي بالمتمكن رياضيًّا، فهو ابن بيئة لم تسمح له ظروفها بالتحصيل العلمي، لكنه تابع ابتكاراته والتي كان أعظمها هو فكرة حقول القوى.
خطوط الحقل المغناطيسي
حقول القوى
حاليًّا تُعد الفكرة بسيطة للكثيرين، لكنها لم تكن كذلك آنذاك، فقد كان أكبر غموض يكتنف الفيزياء هو فكرة أن قوانينها تشير إلى أن القوى فاعلة عبر الفراغ الفاصل بين الأجسام المتفاعلة (المتآثرة ببعضها بعضًا)، ولم يحب فاراداي ذلك لاعتقاده أنه لتحريك جسم على شيء ما أن يكون على تماس معه، وبالتالي تخيل أن الفراغ بين الشحنات الكهربائية والمغانط كما لو كان ممتلئًا بأنابيب غير مرئية هي التي تقوم بفعل الجذب والدفع فيزيائيًا.
بقي فهمنا قاصرًا عن الكهرومغناطيسية، باستثناء الارتباط بين الكهربائية والمغناطيسية، وتأثيرها على الضوء. إلى أن جاء جيمس كلارك ماكسويل، الذي وضع أفكار فارادي في قالب رياضي شرح العلاقة الغامضة والوثيقة بين القوة الكهربائية والمغناطيسية والضوء. نتيجة ماكسويل جاءت عبارة عن مجموعة معادلات تصف كلّا من القوى الكهربائية والمغناطيسية كمظاهر لنفس الكيان الفيزيائي، وهو
الحقل الكهرومغناطيسي.
وحّد ماكسويل القوتين بقوة واحدة، وأكثر من ذلك، لقد أظهر ماكسويل أن الحقول الكهرومغناطيسية يمكنها الانتشار في الفضاء على شكل موجة!
هيمن رقمٌ في جميع معادلاته على سرعة الموجة، قام بحساب الرقم من البيانات التجريبية السابقة وكانت تلك هي سرعة الضوء، والتي عُرفت فيما بعد نتيجة التجربة وكان الخطأ في الرقم 1% فقط. لقد اكتشف ماكسويل أن الضوء ذاته هو
موجة كهرومغناطيسية.
تصف معادلات ماكسويل الحقول الكهربائية والمغناطيسية، وهي أهم المعادلات فهي تحكم عمل كل شيء ابتداءً من الأجهزة المنزلية وحتى الحواسيب، كما أنها تصف الأمواج غير الضوئية أيضًا كالأمواج الميكروية والراديوية، التي تختلف عن الضوء بطول الموجة فحسب.
اختلاف أطوال موجات الأشعة الكهرومغناطيسية
في الطريق نحو النسبية
حددت معادلات ماكسويل سرعة الضوء بـ 300 ألف كيلومتر في الثانية، لكن تحديد سرعة لا يعني شيئًا ما لم يُحدد إطارًا مرجعيًّا لقياس هذه السرعة، وهو ما لسنا بحاجة التفكير فيه في حياتنا اليومية، فعند قراءة أن حدود السرعة هي 60 ميلًا في الساعة سندرك فورًا أنّ ذلك بالنسبة للطريق الذي نسير عليه وليس بالنسبة لثقب أسود واقع في مركز درب التبانة.
لكن في حياتنا اليومية نواجه مواقف نُضطر فيها إلى أخذ الإطار المرجعي في الحسبان، ومن هنا كان السؤال الطبيعي: ما هو الإطار المرجعي لمعادلات ماكسويل التي حسب وفقها سرعة الضوء؟
لا يوجد ما يدعو للاعتقاد بأن السرعة في معادلات ماكسويل مُقاسة بالنسبة للأرض، فهذه المعادلات تُطبق على الكون بأكمله، والإجابة البديلة حول الإطار المرجعي هي أن معادلات ماكسويل حسبت سرعة الضوء بالنسبة إلى وسطٍ سابق لم يتم اكتشافه يتخلل الفضاء بأكمله ويُدعى
الأثير الناقل للضوء Luminiferous Ether، واختصارًا الأثير، وهو تعبير أرسطو عن المادة التي اعتقد أنّها تملأ الفضاء خارج الكرة الأرضية. وإن وُجد هذا الوسط، سيكون الوسط الذي تنتشر عبره الموجات الكهرومغناطيسية، تمامًا كانتشار الضوء عبر الهواء. وسيكون هناك معيار قياسي للسكون، السكون عبر الأثير، وبالتالي طريقة مطلقة لتعريف الحركة عبر الكون بأسره.
بحث العلماء عن الأثير، ومنهم ماكسويل الذي اقترح إجراء تجربة. فإن وُجد الأثير ينبغي أن تتحرك الأرض عبره أثناء حركتها حول الشمس. وبما أنّ اتجاه انتقال الأرض في شهر يناير يختلف عنه في أبريل أو يوليو، لذا على المرء أن يلحظ اختلافات بسيطة في سرعة الضوء بأوقات مختلفة من العام، وإن كنا نتحرك عبر الأثير علينا أن نلحظ هذه الحركة بمشاهدة الاختلافات الموسمية في سرعة الضوء.
اختلاف مقادير الضوء التي تصل الأرض باختلاف الفصول
بوحي من تجارب ماكسويل، أجرى الأمريكيان ألبرت ميشلسن وإدوارد مورلي تجارب فائقة الحساسية لقياس السرعة التي تنتقل فيها الأرض عبر الأثير، وكانت فكرتهما قائمة على قياس سرعتي الضوء باتجاهين مختلفين من زوايا صحيحة. فإن كانت سرعة الضوء هي عدد ثابت بالنسبة للأثير، فعلى التجارب أن تكشف أن سرع الضوء المختلفة بالنسبة للأثير تعتمد على اتجاه الحركة، لكنهما لم يلحظا مثل هذا الاختلاف.
أدت تجاربهما إلى
استبعاد نموذج الأثير، لقد كان غرض ميشلسن هو قياس سرعة دوران الأرض بالنسبة للأثير وليس إثبات وجود الأثير من عدمه.
استمرت جهود الحفاظ على نموذج الأثير حتى كتب موظف مكتب براءات الاختراع في بيرن ألبرت أينشتاين مقالًا حمل عنوان On The Electrodynamics of Moving Bodies ” في الحركيات الكهربائية للأجسام المتحركة”. طرح أينشتاين في هذه الورقة افتراضه البسيط القائل بأن قوانين الفيزياء وخاصة سرعة الضوء، ينبغي أن تكون ثابتة بالنسبة لكل الراصدين المتحركين بشكلٍ موحد. وكما نعلم، تتطلب هذه الفكرة ثورة في فهمنا للزمان والمكان. والسبب: تخيل حدثين يجريان في المكان ذاته لكن بزمنين منفصلين، في طائرة نفاثة. بالنسبة لراصد على متن الطائرة ستكون المسافة الفاصلة بين الحدثين صفرًا، لكن بالنسبة لراصد أرضي ستفصل بين الحدثين المسافة التي قطعتها الطائرة في الزمن الفاصل بين الحدثين. ويُظهر ذلك أن راصدين يتحركان بالنسبة لبعضهما البعض لن يتفقا على المسافة الفاصلة بين الحدثين. رغم أنّهما يرصدان ظاهرةٍ فيزيائية واحدة.
لم يحاول أينشتاين تقديم تفسير لذلك، لقد رسم النتيجة المذهلة والمنطقية بأن قياس الزمن المأخوذ، كما قياس المسافات الفاصلة، يعتمد على الراصدين اللذين يجريان القياس.
النسبية الخاصة
كان هذا التأثير هو مفتاح أطروحة أينشتاين عام 1905 والمسماة بالنسبية الخاصة. ويُضاف هذا التأثير إلى أجهزة ضبط الوقت، إذ تنص النسبية الخاصة على أن الساعة ستعمل بشكل أسرع بالنسبة إلى راصدٍ ساكن وستعمل بشكل أبطأ بالنسبة إلى راصدٍ متحرك. ولا يعتمد التأثير على ساعةٍ بعينها، إنه ينطبق على كافة الساعات، بما فيها ساعتنا البيولوجية.
لقد أظهر عمل أينشتاين أنه وكما مبدأ السكون، لا يمكن للزمن أن يكون مطلقًا كما اعتقد نيوتن. أي لا يمكن أن ننسب جميع الأحداث إلى زمنٍ واحد يتفق عليه كافة الراصدين؛ فلكل راصد قياساته الخاصة للزمن.
لقد أدرك الفيزيائيون نتيجة عمل أينشتاين أن سرعة الضوء الثابتة بالنسبة لكل الأطر المرجعية تجعل من نظرية ماكسويل في الكهرومغناطيسية أمرًا يستحيل التعامل معه بشكلٍ منفصل عن اتجاهات الفضاء الثلاثة، بل إن الزمان والمكان أمران مرتبطان.
يشبه ذلك إضافة بعد رابع، هو ماضي/ مستقبل إلى الأبعاد المعتادة يمين/ يسار، أمام/ خلف، أعلى/ أسفل. لقد دعا الفيزيائيون هذا التزاوج بين الزمان والمكان بـ (
الزمكان Spacetime)، ولأن الزمكان يضم اتجاهًا رابعًا سموه بعدًا.
في الزمكان لم يعد الزمن منفصلًا عن اتجاهات الفضاء، وكما تعتمد الاتجاهات (الأبعاد) الثلاثة الأخرى على الراصد، كذلك يختلف اتجاه الزمن وفقًا لسرعة الراصد. فالراصدون الذين يتحركون بسرعٍ مختلفة، سيرصدون اتجاهات مختلفة للزمن في الزمكان. لقد تحلص أينشتاين من مفهوم الزمن المطلق، والسكون المطلق (السكون بالنسبة للأثير الثابت).
الجاذبية والنسبية
أدرك إينشتاين على الفور أنه ولتتفق الجاذبية مع النسبية كان ينبغي إجراء تغيير آخر. تنص نظرية نيوتن في الجاذبية أنّه وعند أي زمن تتجاذب الأجسام مع بعضها بعضًا بقوة تعتمد على المسافة الفاصلة بينها عند تلك اللحظة. لكن النسبية نسفت مبدأ الزمن المطلق، لذا لم يعد هناك من وسيلة لتحديد الزمن الذي ينبغي فيه قياس المسافة بين الكتلتين. استدعى ذلك تعديل نظرية نيوتن في الجاذبية لتتسق والنسبية الخاصة. وقد يبدو الخلاف مجرد عقبة تقنية، أو قد يبدو تفصيلًا يمكن التعامل معه دون كبير تغيير في النظرية. لكن الحقيقة هي أبعد من كل ذلك.
النسبية العامة
طور أينشتاين بعد ذلك نظريته في النسبية العامة، وهي نظرية في الجاذبية لا تشبه نظرية نيوتن في الجاذبية بشيء. لقد بُني مبدأ الجاذبية في النسبية العامة على الاقتراح الثوري بعدم تسطح الزمكان (كما افترض سابقًا)، فهو منحني ومشوه بالمادة والطاقة الموجودة به.
لتمثيل الانحناء، سنضرب الأرض مثالًا، فعلى الرغم من أن سطح الأرض ثنائي الأبعاد، لكننا سنستخدمه مثالًا لأن تصوره أسهل من تصور فضاء رباعي الأبعاد.
إن هندسة الفضاءات المتعددة كسطح الأرض ليست بالهندسة الإقليدية التي اعتدنا عليها، فأقصر مسافةٍ بين نقطتين- والتي هي خط مستقيم في الهندسة الإقليدية- هي الطريق الذي يصل بين النقطتين ونسميه
بالدائرة العظمى.
الدائرة العظمى هي دائرة ممتدة على كامل سطح الأرض ويتطابق مركزها مع مركز الأرض. خط الاستواء هو مثال عن دائرة عظمى، وكذلك الأمر بالنسبة لأية دائرة نحصل عليها من تدوير خط الاستواء حول أقطار مختلفة. وقد أدركت شركات الخطوط الجوية ذلك وأجادت استخدامه أينما سنحت الفرصة لذلك.
وفقًا لقوانين نيوتن في الحركة، تتحرك الأجسام كالقذائف الصاروخية والطائرات وفق خطوط مستقيمة ما لم تؤثر عليها قوى خارجية كالجاذبية. لكن الجاذبية في نظر أينشتاين ليست قوة كالقوى الأخرى، لكنها نتيجة لحقيقته أن الأجسام تشوه الزمكان مسببةً انحناءات.
في
نظرية أينشتاين، تتحرك الأجسام وفق حركةٍ جيوديسية، وهي أقرب الأشياء إلى الخطوط المستقيمة في فضاءٍ منحني. الخطوط هي جيوديسيات على مستوٍ مسطح، والدوائر العظمى هي جيوديسيات على سطح الأرض. وفي غياب المادة، تماثل الجيوديسيات في الزمكان رباعي الأبعاد الخطوط في الفضاء الثلاثي الأبعاد.
الدوائر العظمى، جيوديسيات الكرة الأرضية
لكن إن حضرت المادة مشوهةً الزمكان تنحني مسارات الأجسام في الفضاء ثلاثي الأبعاد المطابق لها بطريقةٍ فسرتها النظرية النيوتونية بأنها بفعل الجاذبية، وعندما يكون الزمكان غير مستوٍ، تبدو مسارات الأجسام منحنية، مخلفةً انطباعًا بأن قوةٍ تؤثر عليها.
تعيد نظرية أينشتاين في النسبية العامة إنتاج النسبية الخاصة بغياب الجاذبية. وهي تعطي تقريبًا نفس توقعات نظرية نيوتن في الجاذبية في ظل بيئة نظامنا الشمسي ضعيفة الجاذبية، لكن ليس تمامًا.
وفي الواقع، لو لم تؤخذ النسبية العامة في نظام تحدديد المواقع العالمي GPs لتراكمت أخطاء تحديد المواقع عبر العالم بمقدار 10 كم يوميًّا. فضلًا عن ذلك، تكمن أهمية النسبية العامة الفعلية في أنّها نموذج جديد عن الكون يتنبأ بتأثيرات جديدة كالثقوب السوداء والأمواج الثقالية. لقد حولت النسبية العامة الفيزياء إلى هندسة، وتتمتع التقنيات الحديثة بحساسية عالية لتمكننا من إنجاز العديد من الاختبارات الحساسة للنسبية العامة، وقد تجاوزت العديد منها بنجاح.
نحو عالمٍ كمومي
وعلى الرغم من أن كلًّا من ماكسويل وأينشتاين قد أحدثا ثورةً في الفيزياء بنظريتيهما في كلٍّ من الكهرومغناطيسية والنسبية العامة على الترتيب، لكنهما وكما فيزياء نيوتن، كانتا نظريتين تقليديتين؛ فهما نموذجين كان للكون فيهما تاريخٌ وحيد. فعلى المستويات دون الذرية لاتتفق هذه النظريات مع المشاهدات، وعوضًا عن ذلك علينا استخدام
النظريات الكمومية التي يمكن للكون من خلالها امتلاك أي تاريخ محتمل، لكل منها زخمه وسعته الاحتمالية.
بالنسبة للحسابات العملية التي تتضمن العالم اليومي، يمكننا الاستمرار باستخدام النظريات الكلاسيكية، لكننا إن رغبنا في فهم سلوك الذرات والجزيئات نحتاج إصدارًا كموميًا من نظرية ماكسويل في الكهرومغناطيسية، وإن أردنا فهم الكون المبكر، حين كانت مادة الكون وطاقته محصورة في حيز صغير جدًا، علينا الحصول على إصدار كمومي من نظرية أينشتاين في النسبية العامة،
ونحن بحاجة مثل هذه النظريات أيضًا لأننا إن كنّا نسعى إلى فهمٍ جوهري للطبيعة، فلن يكون هذا الفهم متسقًا إن كانت بعض القوانين كلاسيكية والأخرى كمومية. لذا علينا العثور على إصدارات كمومية لكل قوانين الطبيعة.
تُدعى مثل هذه النظريات
بنظريات الحقل الكمومي.
قوى الطبيعة الأربع
يمكن أن نقسم القوى المعروفة في الطبيعة إلى أربع:
كانت أول القوى التي أُنتج لها إصدارٌ كمومي هي الكهومغناطيسية. وتُسمى النظرية الكمومية للحقل الكهرومغناطيسي
بالكهروديناميكا الكمومية Quantum Electrodynamics QED ، وقد طورها ريتشارد فاينمان في أربعينيات القرن الماضي إلى جانب آخرين، وقد أصبحت نموذجًا لكل نظريات الحقل الكمومي.
وكما أسلفنا، وفقًا للنظريات الكلاسيكية تنتقل القوى بواسطة الحقول، لكن في نظريات الحقل الكمومي تُعد حقول القوى مؤلفة من جسيمات ابتدائية مختلفة تُدعى
البوزونات، وهي الجسيمات الحاملة للطاقة، وتنتقل جيئةً وذهابًا بين جسيمات المادة حاملةً القوى. وتُدعى جسيمات المادة
بالفيرميونات.
تعد الإلكترونات والكواركات أمثلةً عن الفيرميونات، أمّا الفوتونات فهي مثالٌ عن البوزونات، والبوزونات هي التي تنقل الطاقة الكهرومغناطيسية.
ما يحصل هو أن جسيم مادي كالإلكترون يصدر بوزونًا، أو جسيم طاقة، ومن ثم يحصل ارتداد له كارتداد المدفع بعد إطلاق القذيفة، يصطدم جسيم الطاقة بعد ذلك بجسيم مادي آخر ويتم امتصاصه، مغيرًا حركة الجسم.
وفقًا ل QED كل التفاعلات الحاصلة بين الجسيمات المشحونة- وهي الجسيمات التي تتأثر بالقوة الكهرومغناطيسية- توصف بعبارات تبادل الفوتونات.
لقد اختُبرت توقعات QED ووُجد أنها تتطابق مع النتائج التجريبية بدقة عالية. لكن إنجاز الحسابات الرياضية المطلوبة باستخدام QED يمكن أن يكون صعبًا، وتكمن المشكلة أنك حين تضيف إلى الإطار السابق من تبادل الجسيمات المقتضيات الكمومية والتي تتضمن كل التواريخ التي يمكن أن يحدث فيها التفاعل- أي كل الطرق الممكنة التي يمكن أن يحدث فيها تبادل الجسيمات- تصبح الرياضيات معقدة.
مخططان فاينمان
لحسن الحظ، إلى جانب ابتكار ما يخص التواريخ البديلة، طور فاينمان طريقةً بيانية أنيقة لحساب التواريخ المختلفة، وهي طريقة تطبق اليوم ليس على QED فحسب، وإنّما على كامل نظريات الحقل الكمومي.
مخططات فاينمان
تقدم طريقة فاينمان البيانية طريقة لتصوير كل صيغة في مجمل التواريخ. هذه الصورة والتي تسمى بمخططات فاينمان، هي واحدة من أكثر أدوات الفيزياء الحديثة أهمية؛ ففي QED مجمل التواريخ الممكنة يمكن تمثيله بملخص من مخططات فاينمان هذه.
يمثل هذا المخطط بعضًا من الطريق الممكنة لافتراق إلكترونين عن بعضهما بعضًا خلال الحقل الكهرومغناطيسي. في هذه المخططات، الخطوط المستقيمة تمثل الإلكترونات، أما الخطوط المنحنية فتمثل الفوتونات.
أما الزمن، فهو يسير متقدمًا من الأسفل نحو الأعلى، وأمكنة التقاء الخطوط تمثل الفوتونات المنبعثة التي تصدرها الإلكترونات أو تمتصها.
إن مخططات فاينمان ليست مجرد طريقة أنيقة لتصوير كيفية حدوث التفاعلات؛ فهي تأتي بقواعد تسمح باستنباط تعابير رياضية من الخطوط والقمم في كل رسم،ـ فاحتمالية أن تفترق الإلكترونات الداخلة بزخم ابتدائي محدد ولها زخم نهائي معين يمكن الحصول عليها بجميع التوزعات من كل رسم. سيتطلب ذلك عملًا مضنيًا، فهناك عدد لا منتهٍ من الرسوم تتضمن التواريخ المحتملة.
زد على ذلك أنه ورغم أن لهذه الإلكترونات الداخلة والخارجة زخمًا وطاقة محددين، كذلك جسيمات الحلقة المغلقة داخل المخطط يمكن أن يكون لها أي طاقة وأي زخم. وتكمن أهمية ذلك أنه وأثناء تجميع مخططات فاينمان لاينبغي جمع المخططات جميعها فحسب، لكن كذلك كل تلك القيم للطاقة والزخم.
لقد منحت مخططات فاينمان الفيزيائيين مساعدةً جمة في تمثيل الاحتمالات الخاصة ب QED وحسابها، لكنها لا تقدم علاجًا ناجعًا للعيب الأساسي الذي تعاني منه النظرية وهو: عندما نضيف التوزعات الناتجة من عددٍ لا متناهٍ لتواريخ مختلفة، سنحصل على نتائج لا متناهية، وبجمع مخططات فاينمان ستبدو الإلكترونات وكأنها ذات كتلة غير متناهية، وكذلك الأمر بالنسبة لشحنتها أيضًا، ولكن هذذا غير معقول، إذ بإمكاننا قياس الكتلة والشحنة وهما محدودتين.
لعلاج هذه اللامتناهيات طُورت عملية تُدعى
إعادة التطبيع.
إعادة تطبيع نحو التوحيد
تنطوي عملية إعادة التطبيع Renormalization على طرح الكميات السالبة واللامتناهية بطريقةٍ رياضية حذرة يؤدي فيها جمع القيم اللامتناهية السالبة مع القيم اللامتناهية الموجية الناتجة عن النظرية إلى إلغاء بعضها بعضًا، مخلفةً تذكارًا صغيرًا هو القيم المحدودة للكتلة والشحنة. لكن العملية ما زالت موضع شك رياضي.
بعد تثبيت كتلة الإلكترون وشحنته بهذه الطريقة، أصبح بالإمكان توظيف QED للحصول على العديد من التوقعات الدقيقة الأخرى التي تتفق جميعها مع المشاهدات، لذا تُعد إعادة التطبيع أحد مكونات QED الأساسية.
وينبغي القول أن تقسيم القوى الطبيعية إلى أربعة قوى هو أمر صنعي ونتيجة افتقارنا للفهم، لذا سعى الفيزيائيون نحو
نظرية لكل شيء توحد القوى الأربعة بقانون واحد يتفق والنظرية الكمومية، وسيكون ذلك بمثابة الكأس المقدسة الخاصة بالفيزياء.
أحد الدلائل على أن التوحيد كان هو النهج الصحيح أتى من نظرية القوى الضعيفة، فنظرية الحقل الكمومي التي تصف القوى الضعيفة لا يمكن إعادة تطبيعها بمفردها، إذ أنها تضم لا متناهيات لا يمكن إلغاؤها بطرح أعداد لكميات محدودة كالكتلة، مع ذلك اقترح كل من محمد عبد السلام وستيفن واينبرغ عام 1967 كل على حدى نظريةً اتحدت فيها الكهرومغناطيسية مع القوى الضعيفة ، ووجدوا أن التوحيد قد حل كارثة اللامتناهيات، وسميت القوة الموحدة بالقوة الضعيفة كهربائيا.
الديناميكا اللونية
يمكن إعادة تطبيع القوى القوية بمفردها بنظرية تدعى
الديناميكا اللونية QCD Quantum Chromodynamics. وفقًا لـ QCD تتألف البروتونات والنترونات والعديد من الجسيمات الابتدائية للمادة من الكواركات، والتي لها خاصية واضحة سماها الفيزيائيون اللون. ورغم الاشتقاق chromodynamics ، تبقى ألوان الكواركات مجرد علامات لا علاقة لها يالضوء المرئي. وتأتي الكواركات بما يُدعى ثلاثة ألوان هي الأحمر والأخضر والأزرق. ولكل كوارك شريكه من المادة المضادة، وتدعى ألوان هذه الجسيمات بالأحمر المضاد والأخضر المضاد والأزرق المضاد. والتركيبات ذات الألوان غير النقية هي التي يمكنها التواجد فقط كجسيمات حرة. وهنالك طريقتين لتحقيق مثل هذه التجمعات للكواركات المتعادلة هذه؛ إنها إلغاء اللون ولونه المضاد، لذا فإن الكوارك والكوارك المضاد يشكلان زوجًا عديم للون، إنه
الميزون.
كذلك، لدى اندماج كل الألوان الثلاثة ( أو الألوان المضادة الثلاثة) ستكون النتيجة عديمة اللون. وتؤلف كواركات ثلاثة من كل لون جسيمات مستقرة تدعى الباريونات، والبروتونات والنترونات هي أمثلة عليها ( كما أن الكواركات المضادة الثلاثة تؤلف جسيمات باريونات مضادة).
نماذج لونية من الجسيمات ومضاداتها
إن البروتونات والنترونات هي الباريونات المؤلفة لنوى الذرات وهي الأساس لكل المادة الاعتيادية في الكون.
نظريات التوحيد العظمى
بعد توحيد القوى الضعيفة والكهرومغناطيسية، تطلع الفيزيائيون في سبعينيات القرن الماضي إلى طريقةٍ لدمج القوى القوية في النظرية. وهنالك عدد مما يُسمى
بنظريات التوحيد العظمى Unified Theory توحد القوى القوية مع القوى الضعيفة والكهرومغناطيسية، لكن معظمها يتنبأ بأن البروتونات ينبغي أن تتحلل بعد 10 مرفوعة للأس 32 سنة تقريبًا. إن هذا عمر مديد جدًا، وهو يقود إلى أن عمر الكون هو 10 مرفوعة للأس 20 سنة فقط.
لكن، في فيزياء الكم، لدى القول بأن متوسط عمر الجسيم هو 10 أس 32 عامًا، لا نعني بذلك أن معظم الجسيمات تعيش هذه المدة تقريبًا، فبعضها يحيا أقل من ذلك، والآخر أكثر. ما نعنيه هو أن احتمال تحلل الجسيم كل عام هو واحد من 10 أس 32.
لقد تبين أن اكتشاف عمليات التحلل وتمييزها عن الأحداث الأخرى التي تسببها الأشعة الكونية التي تمطرنا باستمرار من الفضاء الخارجي ليس بالأمر السهل، ولتخفيف أثر ذلك، جرت التجارب في مناجم عميقة أسفل قمم الجبال، وهي محمية من الأشعة الكونية بطريقة ما.
وفي عام 2009، استنتج الباحثون أنه حتى وإن تحلل البروتون، فسيحدث ذلك في مدة تزيد عن ال10 أسي 32 عاما، ما شكل أنباء سيئة بالنسبة لنظريات التوحيد العظمى.
وبما أن الأدلة الرصدية المبكرة فشلت كذلك في دعم هذه النظرية، تبنى معظم الفيزيائيين نظرية بديلة
تسمى النموذج القياسي Standard Model، وهي تشمل النظرية الموحدة لقوى الكهرباء الضعيفة و QCD كنظرية للقوى القوية. لكن في النموذج القياسي تؤثر كل من قوى الكهرباء الضعيفة والقوى القوية بشكل منفصل، وهما ليسا متحدتين فعلًا.
النموذج القياسي ناجحٌ جدًا ويتوافق مع الأدلة الرصدية الحالية، لكنه غير مقنع؛ فهو لا يشمل الجاذبية؟
قد يبدو إثبات اندماج القوى القوية مع الكهرومغناطيسية والقوى الضعيفة صعبًا، لكنه لا شيء مقارنة مع دمج الجاذبية مع القوى الثلاث الأخرى، أو حتى مع خلق نموذج مفرد لنظرية كمومية في الجاذبية.
يرتبط سبب صعوبة خلق نظرية كمومية في الجاذبية بمبدأ الشك لهايزنبرغ، لكن تبين أنه وبأخذ هذا المبدأ بعين الاعتبار، فإن قيمة حقل ومعدل تغيره يلعبان الدور نفسه الذي يلعبه الموقع وسرعة الجسم.
نظرية لكل شيء؟
أي كلما حُدد أحدهما بدقة أكبر، يصبح الآخر أقل دقة.
ونتيجة هامة تترتب على ذلك هي عدم وجود ما يسمى فضاء خالي، فوجود فضاءٍ خالٍ يعني أن تلك القيميتين العائدتين للحقل ومعدل تغيره هما صفر تمامًا، وإن لم يكن معدل تغير الحقل صفرًا، لن يبقى الفضاء خاليًا. ولأن مبدأ الشك لا يسمح لكل من قيمتي الحقل ومعدل التغير بأن تكونا محدودتين فلن يكون الفضاء خاليًا أبدًا. يمكن أن يكون في حالةٍ صغرى تدعى الخلاء. لكن هذه الحالة معرضة لما يسمى بالتوتر الكمومي، أو تذبذبات الخلاء، حيث ترتعش كل من الحقول والجسيمات بين التواجد وعدمه.
قد يفكر البعض بتذبذبات الخلاء على أنها زوج من الجسيمات تظهر سويًّا في الوقت ذاته، ثم تفترق، ثم تعود لتلتقي لتفني بعضها البعض.
تسمى هذه الجسيمات
بالافتراضية، وخلافًا للجسيمات الحقيقية، لا يمكن رصد الجسيمات الافتراضية مباشرة بكاشف للجسيمات، لكن بعضًا من تأثيراتها غير المباشرة كالتغيرات الصغيرة في طاقة مدارات الإلكترون يمكن قياسها، وهي تتوافق مع التوقعات النظرية إلى حد كبير من الدقة.
تكمن المشكلة في أن للجسيمات الافتراضية طاقة، وبسبب وجود عدد غير منته من الأزواج الافتراضية، سيكون لها مقدار غير متناه من الطاقة. ووفقًا للنسبية العامة، يعني ذلك أنها ستسبب انحناء الكون إلى حجمٍ لا متناه في الصغرـ وهذا ما لا يحدث ظاهريًّا على مايبدو.
إن العيب المتمثل في اللامتناهيات تلك، مماثل للمشكلة الحاصلة في نظريات القوى القوية والضعيفة والكهرومغناطيسية، عدا أنه وفي هذه الحالات تزيل إعادة التطبيع هذه اللامتناهيات. لكن الحلقات المغلقة في مخططات فاينمان للجاذبية يتمخض عنها لا متناهيات لا يمكن امتصاصها عبر إعادة التطبيع، لإنها في النسبية العامة هي ليست بالبارمترات القابلة للتطبيع بما يكفي ( كقيم الكتل والشحنة)، بحيث تزيل كل اللامتناهيات الكمومية من النظرية.
لذا نبقى مع نظرية في الجاذبية تتنبأ بأن كميات محدودة، كانحناء الزمكان، هي كميات لا متناهية، وهي ليسيت بالطريقة التي يمكن لها لكون مأهول أن يعمل.
ويعني ذلك أن الإمكانية الوحيدة للحصول على نظرية منطقية ستكون بإلغاء كافة اللامتناهيات بطريقة ما، دون اللجوء إلى إعادة التطبيع.
الجاذبية الفائقة
في عام 1976 وُجد حل محتمل لهذه المعضلة، وتُدعى تلك
بالجاذبية الفائقة Supergravity، ولم تُضف البادئة super لاعتقاد الفيزيائيين بأن من الروعة أن تتمكن هذه النظرية في الجاذبية الكمومية من العمل تمامًا، لكن super تشير إلى نوع من التناظر تملكه النظرية ويُدعى
بالتناظر الفائق Supersymmetry .
في الفيزياء يُقال عن نظام أنه ذو تناظر، إذا لم تتأثر خواصه بانتقالات (تحولات معينة كتدويره في الفضاء أو أخذ انعكاس له في مرآة). على سبيل المثال، إن قلبت قطعة من النقانق رأسا على عقب، ستبدو نفسها ما لم يكن أعلاها مغطس بالشوكولاته، وهي الحالة التي تصلح فيها للأكل فقط.
والتناظر الفائق هو نوع طفيف من التناظر لا يمكن أن يرافقه تحول في الفضاء الاعتيادي.
أحد تطبيقات التناظر الفائق الهامة هو أن جسيمات المادة وجسيمات الطاقة، وبالتالي المادة والطاقة، ما هما إلا وجهان للشيء نفسه. وبالحديث بشكل أكثر عملية، يعني ذلك أن كل جسيم مادي كالكوارك، عليه امتلاك جسيم شريك هو جسيم طاقة، وكل جسيم من جسيمات الطاقة كالفوتونات، عليه أن يمتلك شريكًا من الجسيمات المادية.
وهنا توجد احتمالية حل مشكلة اللامتناهيات، وذلك لأنه وكما تبين، فإن اللامتناهيات من الحلقات المغلقة للجسيمات هي موجبة، بينما تكون اللامتناهيات من الحلقات المغلقة للطاقة سالبة. لذا تميل اللا المتناهيات الناشئة عن كل من جسيمات المادة والطاقة إلى إلغاء بعضها بعضًا.
كانت فكرة التناظر الفائق هي الأساس لخلق الجاذبية الفائقة، لكن المفهوم وُجد عمليًّا قبل سنوات من ذلك بواسطة النظريين الذين كانوا يدرسون نظرية وليدة تدعى
بنظرية الأوتار String Theory. ووفقًا لنظرية الأوتار، الجسيمات ليست نقاط، لكنها نماذج من موجات مهتزة لها أطوال، لكنها دون ارتفاع وعرض، كوتر بالغ الرفع من خيط. لقد قادت نظريات الأوتار إلى لا متناهيات أيضًا، لكن ساد الاعتقاد أنه في الإصدار الصحيح منها سيلغي بعضها بعضًا. لقد كان لهذه النظريات ميزة غير اعتيادية أخرى، إنّها متسقة فقط إن كان الزمكان بعشرة أبعاد، عوضًا عن أبعاده الأربعة المعتادة.
قد تبدو الأبعاد العشرة أمرًا مثيرًا، لكنها ستسبب البلبة في حال نسيان مكان ركن سيارتك.
وإن وُجدت هذه الأبعاد، ما المانع من رصدها؟
وفقًا لنظرية الاوتار، إنها منحنية داخل فضاء من حيز صغير جدًا. ولتصوير ذلك، تخيل انك تحدد أبعاد نقطة على سطح قشة الشرب، ولتحديد موضع النقطة على قشة الشرب، انت بحاجة معرفة موضع النقطة على طول القشة، إضافةً إلى موضعها على بعدها القطري. لكن إن كانت القشة رفيعة جدًا، ستحصل على تحديد تام للموضع باستخدام الإحداثي الذي يشير إلى موضع النقطة على طول القشة، وبالتالي قد تهمل البعد القطري. وإن كان قطر القشة هو جزء من مليون مليون مليون مليون مليون جزء من الإنش، فلن تلحظ البعد القطري على الإطلاق.
قشة الشرب
هذه هي الصورة التي لدى منظري الأوتار عن الأبعاد الإضافية، إنها منحنية على نحوٍ كبير، إنها ملتفة على مقياس بالغ الصغر ولا يمكننا مشاهدتها.
في نظرية الاوتار، تلتف الأبعاد الإضافية فيما يُسمى الفضاء الداخلي، خلافًا للفضاء ثلاثي الأبعاد الذي نختبره في حياتنا اليومية.
وإضافة إلى التساؤل حول الأوتار، عانت نظرية الاوتار من عيب آخر، لقد تبين أن هنالك ما لا يقل عن خمس نظريات مختلفة وملايين الطرق التي يمكن للأبعاد الإضافية أن تلتف عبرها.
مثلت هذه الإمكانيات إحراجًا للقائلين بنظرية الأوتار نظريةً فريدةً لكل شيء، ثم وفي عام 1994، بدأ الناس اكتشاف الثنائيات- وهي أن لنظريات الأوتار المختلفة أو الطرق المختلفة لالتفاف الأبعاد- هي ببساطة طرق مختلفة لوصف الظاهرة نفسها في أربعة ابعاد. ناهيك عن أنهم وجدوا أن الجاذبية الفائقة متصلة بالنظريات الأخرى بهذه الطريقة. لقد اقتنع منظرو الأوتار أن نظريات الأوتار الخمس المختلفة والجاذبية الفائقة ما هي إلا مقاربات مختلفة لنظرية أساسية، كل منها صالح في مواضع محددة.
M-Theory النظرية المحتملة لكل شيء
تُدعى هذه
النظرية الأساسية ب M-Theory ، ولا أحد يعرف دلالة الحرف M هنا، لكنه قد يكون إشارةً إلى كلمة Master أو Miracle أو Mystery.
ما زال الناس يحاولون فك شيفرة M-Theory لكن قد لا يكون ذلك ممكنًا، فقد تكون تلك ممثلة لآمال الفيزيائيين التقليدية بنظرية وحيدة ذات طبيعة لا يمكن الدفاع عنها، ولا توجد لها صيغة وحيدة.
ربما لنصف الكون علينا توظيف عدد من النظريات في مواضع مختلفة. ولربما كان لكل نظرية إصدارها الخاص للحقيقة، لكن وفقًا للواقعية المعتمدة على النماذج، تبقى هذه النظريات مقبولة كثيرًا طالما تتفق مع التوقعات أينما تداخلت، وأينما كان كل منها قابل للتطبيق.
ومهما كانت M-Theory سواء صيغة وحيدة او مجرد شبكة، فإننا نعرف بعضًا من خصائصها. بدايةً، ل M-Theory إحدى عشر بعدًا في الزمكان، وليس عشرًا، ولطالما كانت الأبعاد العشرة موضع تساؤل بالنسبة لمنظري الأوتار، كما أن الأعمال الاخيرة قد أثبتت أن بعدًا قد تم التغاضي عنه فعلًا.
M-Theory يمكنها أن تضم أيضًا ليس أوتار مهتزة فحسب، ولكن جسيمات نقطية كذلك وأغشية ثنائية الأبعاد، وفقاعات ثلاثية الأبعاد وأجسام أخرى يصعب تصورها وتشغل المزيد من الأبعاد في الفضاء، تصل حتى التسعة. تدعى هذه
الأجسام الأغشية p وتأخذ p قيمًا من 0 وحتى 9.
ماذا عن العدد الهائل من الطرق التي تلتف بها هذه الأبعاد الصغيرة؟؟
في M-Theory لا يمكن أن تلتف هذه الأبعاد المكانية الزائدة كيفما اتفق، إذ تشدد رياضيات النظرية على الطريقة التي يمكن وفقها لأبعاد الفضاء الداخلي الالتفاف. وإن الشكل الصحيح للفضاء الداخلي يحدد كلًّا من قيم الثوابت الفيزيائية، كشحنة الإلكترون وطبيعة التفاعلات بين الجسيمات الابتدائية. بكلمات أخرى؛ يحدد القوانين الظاهرية للطبيعة. ونقول ظاهريًّا لأننا نعني القوانين التي نرصدها في كوننا- قوانين القوى الأربعة- وبارامترات كالكتلة والشحنة التي تميز الجسيمات الأولية. لكن القوانين الأساسية هي قوانين M-Theory.
تسمح قوانين M-Theory بأكوان مختلفة بقوانين ظاهرية مختلفة تعتمد على كيفية انحناء الفضاء الداخلي. لدى M-Theory حلولًا تسمح بوجود العديد من الفضاءاتالداخلية تصل حتى 10 مرفوعة للأس 500، أي هذا العدد من الاكوان المختلفة لكل منها قوانينه. ولنحصل على فكرة عن مقدار ذلك، فكر كالآتي: إن استطاع كائن ما تحليل القوانين المتوقعة لكل من هذه الأكوان في غضون 1 ميللي ثانية، وبدأ العمل على ذلك لحظة الانفجار العظيم، سيكون مجموع ما درسه حتى الآن هو 10 مرفوعة للأس 20 دون استراحات شرب قهوة.
منذ قرن مضى، بين نيوتن ان المعادلات الرياضية يمكن أن تقدم وصفًا دقيقًا مذهلًا عن طريقة تفاعل الأشياء على الأرض وفي السماء.
لقد انقاد العلماء وراء الاعتقاد بان مستقبل الكون بأكمله يمكن الكشف عنه إن عرفنا فقط النظرية المناسبة، وكانت لدينا قوة حوسبة كافية. ثم أتى الشك الكمومي والفضاء المنحني والكواركات والأوتار والأبعاد الزائدة، وكانت نتيجة عملهم 10 بالأس 500 من الأكوان لكل منها قوانينه، ومنها كون واحد فقط يتفق مع الكون الذي نعرفه.
يبقى امل الفيزيائيين الأصلي هو التوصل إلى نظرية واحدة تشرح القوانين الظاهرة لكوننا، كما قد نتخلى عن النتائج الممكنة العديدة لافتراضات عدة.
أين يتركنا هذا؟ إن كانت M-Theory تسمح بوجود 10 بالأس 500 من المجموعات بقوانينها الظاهرية.
فما هي نهايتنا في هذا الكون مع قوانينه الظاهرة لنا؟ وماذا عن العوالم الممكنة الأخرى؟
منقول
من موقع اراجيك ـ نجوى بيطار
(اخر تحديث 28/11/2018)