ولاً : تعريف الكلمتين المكونتين للعنوان
أ – اللغة : عرَّف ابن سيده اللغة بأنها "أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم"([1]). وقـال غير ابن سيده إن اللغة هي الكلام المصطلح عليه بين كل قبيل.([2]) أما علم اللغة الحديث فيعرِّفها بأنها نظام صوتي أساسا يتكون من رموز اصطلاحية يستعمله أفراد جماعة ما لتبادل الأفكار والمشاعر.([3]) ولنا ثلاث وقفات سريعة مع هذا التعريف ، أولها مع عبارة "صوتي أساساً" التي تشير إلى أن اللغة إما أن تكون منطوقة ، وهو ما يشير إليه التعريف ، أو مكتوبة برموز تشير إلى الأصوات. أما كلمة "الاصطلاحية" فمعناها أنه ليس هناك سبب أو علاقة سببية لارتباط صيغة كلمة أو تركيب ما بدلالته. إذ لو كانت هناك مثل هذه العلاقة السببية ، فإننا لو أمسكنا قلما مثلا وأريناه لعربي ، وصيني ، وروسي ، وأمريكي وطلبنا منهم أن يذكروا اسم هذا الشيء ، لنطقوا بشيء متطابق أو على الأقل متشابه ، ولكن الواقع يكذِّب ذلك. بل إن الشيء نفسه قد يُطلق عليه اسمان مختلفان في لهجتين من لهجات اللغة نفسها (على سبيل المثال "مرسمة" في اللهجة السعودية ، و "قلم رصاص" في اللهجة المصرية). وقد تبدو فكرة عدم وجود علاقة سببية بين الشيء واسمه غريبة بعض الشيء. ويرجع سبب الغرابة إلى شدة الارتباط بين الشيء واسمه في أذهاننا. أما وقفتنا الثالثة والأخيرة مع كلمات التعريف فهي مع عبارة "الأفكار والمشاعر". وأشير هنا سريعا إلى أن للغة وظائف أخرى غير نقل الأفكار والمشاعر أو تبادلها (الوظيفية الاتصالية) ومن بينها – أو لعل من أهمها – استخدامها في التفكير (الوظيفة الذهنية) وهو ما نأمل إيضاحه في هذه المقالة.
وقد يكون من المناسب هنا أن نشير إلى ما يعرف باسم "لغة التفكير" وهي اللغة التي يفكر بها الشخص حين يكون وحيدا مع نفسه ودون أن يخاطب أحدا. وليس ضروريا أن تتطابق لغة التفكير لدى الشخص مع لغته الأولى. فقد تكون اللغة الأولى لشخص ما هي العربية ، ولكنه يفكر بالإنجليزية بسبب هيمنة هذه اللغة لديه أو لأنه عاش مدة طويلة بين أهلها أو لأنه تلقى معظم تعليمه بواسطتها.([4]) وأحسب أن هذا هو ما يحدث لمن تخصص في علم معين ودرسه بلغة أجنبية عندما يفكر في مسائل هذا العلم. كما أحسب أن عكس هذا هو ما يحدث لطلابنا وطالباتنا الذين قد يفكرون بالعربية عندما يُكلفون بكتابة مقال بالإنجليزية مثلا ، ثم يقومون بترجمة في أذهانهم لما فكروا فيه بلغتهم. بل إن بعض الطلاب قد يكتبون المقال بالعربية ثم يقومون بترجمته.
ب – الفكر : يُعَرِّف (المعجم الوسيط) الصادر عن مجمع اللغة العربية بالقاهرة "الفكر" بأنه "إعمال العقل في المعلوم للوصول إلى معرفة مجهول". بينما يُعَرِّف "التفكير" بأنه "إعمال العقل في مشكلة للتوصل إلى حلها". وربما كان في هذين التعريفين ما يشير إلى أن "الفكر" أعم وأشمل من "التفكير". كما يشير المعجم نفسه إلى الفعل "فَكَّرَ" باعتباره مبالغة في "فَكَرَ" ، ويذكر أنه أشيع في الاستعمال من "فَكَرَ". وهذا هو ما يشير إليه (معجم ألفاظ القرآن الكريم) الذي أصدره مجمع اللغة العربية بالقاهرة أيضا ، والذي يورد "فَكَّر" مرة واحدة " إنه فَكَّر وقدَّر" 18 المدثر ، و "تتفكرون" ثلاث مرات ، ومَثَلها "لعلكم تتفكرون" 19 البقرة ، و"تتفكروا" مرة واحدة ، ومثلها "ثم تتفكروا" 46 سبأ ، و "يتفكرون" إحدى عشرة مرة ، ومثلها "ويتفكرون في خلق السموات والأرض" 191 آل عمران ، و "يتفكروا" مرتين ، ومثلها "أو لم يتفكروا" 184 الأعراف.
جـ – الواو : تأتي الواو المفردة على نحو خمسة عشر وجها ، ومن بينها العاطفة ، ومعناها : مطلق الجمع ، فتعطف الشيء على مصاحبه ، نحو "فأنجيناه وأصحاب السفينة" ، كما تعطفه على سابقه ، نحو "ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم" ، أو تعطفه على لاحقه ، نحو "كذلك يوحى إليك وإلى الذين من قبلك".([5])
ولعله من حسن الحظ أن الواو العاطفة تنفرد عن سائر أحرف العطف بخمسة عشر حكما، منها احتمال معطوفها معاني ثلاثة ، هي : عطف الشيء على مصاحبه ، وعلى سابقه، وعلى لاحقه كما أسلفنا. أما سبب حسن الحظ فهو أن هذه الحقيقة يمكن أن تعطينا مدخلا إلى سؤال رئيسي في موضوع مقالنا ، ألا وهو : هل تصاحب اللغة الفكر أم تسبقه ، أم تلحقه ؟ وهو سؤال حاول بعض علماء اللغة وعلماء النفس الإجابة عنه. وسوف نستعرض فيما يلي بعض هذه المحاولات استعراضا سريعا.
ثانيا : أيهما أسبق : اللغة أم الفكر ؟
اختلف علماء النفس في الإجابة عن هذا السؤال. فيرى بعضهم – مثل جلبرت رايل Gilbert Ryle – أن التفكير لابد من أن يسبقه تعلم الإنسان الكلام بصوت عال. ويستدل على صحة رأيه بأن الطفل يكتسب اللغة أولاً قبل أن يتعلم في مرحلة لاحقة التفكير مع نفسه.([6])
في حين يرى آخرون مثل عالم النفس جين بياجيه Jean Piaget أن النمو الذهني للطفل يتقدم مستقلا ، وبصفة عامة يتبعه النمو اللغوي.([7]) ويوضح بياجيه أنه يستحيل على الأطفال فهم التعبير اللفظي قبل أن يتمكنوا من إتقان المفهوم الأساسي الذي يقوم عليه هذا التعبير ، بمعنى أنهم لا يفهمون عبارات أو كلمات مثل "الأسبوع القادم" و "مال" و "الموت".([8])
أما عالم النفس فيجوتسكي Vygotsky([9]) فيرى أن التفكير واللغة يبدآن كفعاليتين منفصلتين ، وأن تفكير الأطفال صغار السن يشبه تفكير الحيوان لأنه يحدث بدون لغة. ومن الأمثلة على ذلك الطفل الذي لم يتعلم الكلام بعد والذي يحل مشكلات بسيطة مثل تناول الأشياء وفتح الأبواب (أي تفكير بدون كلام).
ومن ناحية أخرى ، فإن أصوات المناغاة (البأبأة) عند الطفل هي كلام بدون تفكير موجه نحو تلبية أغراض اجتماعية مثل جذب الانتباه إليهم ، وجلب السرور للكبار (أي كلام بدون تفكير).
أما النقطة الحرجة في علاقة التفكير باللغة فتحدث عندما يبلغ الطفل حوالي السنتين من عمره. ففي هذا العمر نجد أن منحنى التفكير الذي يسبق اللغة ومنحنى اللغة التي تسبق التفكير يلتقيان ويترابطان لكي يبدأ نوع جديد من السلوك يصبح فيه التفكير لفظيا والكلام معقولا. (وهذا لا يحدث للحيوان الذي يظل "التفكير" و "اللغة" عنده نظامين مستقلين([10]) ، وهو ما سنتناوله عند تناول موضوع : هل يفكر الحيوان ؟).
ومن المفيد أن نعرف أنه حتى سن السابعة فإن الطفل يكون غير قادر على التمييز بين الوظيفتين الداخلية (التفكير) والخارجية (الاتصال) للغة ، ولذا تبرز ظاهرة "الكلام المتمركز حول الذات" ego-centric speech.([11]) وقد يكون من الطريف أن نشير إلى أن بعض الكبار الذين يعيشون بمفردهم يتحدثون أحيانا إلى أنفسهم بتعليقات عن أفعالهم ونواياهم.
ثالثا : هل يمكن أن نفكر بدون لغة ؟
مثلما انقسم العلماء في الإجابة عن أيهما يسبق الآخر : اللغة أم الفكر ، نجد أنهم انقسموا أيضا حول الإجابة عن هذا السؤال إلى فريقين ، لكل منهما حججه وبراهينه. الفريق الأول يمثله أفلاطون Plato من القدماء ، والعالم الأمريكي جون واتسون John Watson من المحدثين. ويرى هذا الفريق أن التفكير يتم في لغة صامتة بألفاظها وتراكيبها كما لو كان الإنسان يحاور شخصا آخر.([12]) وهذا يعني أن اكتساب الإنسان للغة شرط لقدرته على التفكير.
أما الفريق الآخر والذي يمثله العالم هوتسينو فندلر فإنه يرى أن اكتساب اللغة ليس شرطا حتميا لحدوث التفكير.([13]) ويدلل على هذا بأن الشخص الأصم الأبكم قادر على التفكير لأنه يشعر بما حوله ويتخذ قرارات وقد يغير رأيه. وهو يقوم بهذا كله بالرغم من أنه لا يعرف كلمة واحدة من اللغة ، ولم يسمع لفظة واحدة منذ ولادته، فضلا عن النطق بها. ويضرب فندلر مثلا بالأمريكية هيلين كيلر Helen Keller الصماء البكماء العمياء التي استطاعت بمساعدة مربيتها أن تتعلم القراءة والكتابة وحصلت على البكالوريوس وعملت محاضرة وباحثة وكاتبة.
ويشير فيرث Firth في كتابه (التفكير بدون لغة : الدلالات النفسية للصمم) الصادر سنة 1966 م إلى أن الأطفال الصم لا يختلفون اختلافا كبيرا عن الأطفال العاديين في أدائهم الذهني ، وأن نموهم الذهني يتبع في كلتا الحالتين المراحل الأساسية نفسها ، بالرغم من أنه في بعض الحالات قد يكون معدل النمو أبطأ بالنسبة للصم. ولكن من المحتمل أن هذا البطء قد يرجع ليس إلى نقص اللغة بقدر ما يرجع إلى نقص عام في الخبرة إزاء نوع البيئة أو الظروف التي ينمو فيها كثير من الأطفال الصم. وقد توصل فيرث إلى نتائج مشابهة فيما يتعلق بالصم البالغين.([14])
ويشير اللغوي الأمريكي لانجاكار Langacker إلى أن أنواعا معينة من الفكر يمكن أن تحدث مستقلة تماما عن اللغة. ومن الأدلة على ذلك الرغبة في التعبير عن فكرة ما مع عدم القدرة على صوغها في كلمات. (ويشبه هذا محاولتنا تذكر اسم شخص نعرفه). فلو كان التفكير مستحيلا بدون لغة لما ظهرت هذه المشكلة أبدا.([15]) (وقد تحدث مشكلة عكسية عندما يبدأ الإنسان في الكلام قبل أن يفكر ، وما قد يسببه ذلك من إحساس مزعج).([16])
ويؤيد هذا ما قاله علماء وفنانون كبار عن فكرهم الإبداعي ، من أن هناك فترة من "الحضانة" لفكرة أو مشكلة ، يتبعها حل مفاجئ ، بعدها يواجه المبدع صعوبة هائلة في وضع نتائج تفكيره في كلمات. يقول ألبرت أينشتاين Albert Einstein إن "كلمات اللغة ، كما هي مكتوبة أو منطوقة ، لا يبدو أنها تقوم بأي دور في آلية التفكير الخاصة بي". ويتحدث عن علامات أو إشارات معينة وصور واضحة أو غير واضحة يمكن فيما بعد إعادة صياغتها والربط بينها بوصفها عناصر تفكيره.([17]) كما يذكر بعض الموسيقيين أنه بإمكانهم "الاستماع" إلى الموسيقى التي يقومون بتأليفها ، وذك قبل أن يعزفوها على إحدى الآلات الموسيقية ، بـل وقبل أن يكتبوها على الورق. ويمكننا أن نطلق على هذا النوع من النشاط الذهني تفكيرا غير لغوي أو قبل لغوي. ولعل هذا النوع من التفكير هو الذي مكنَّ الموسيقى بيتهوفن من الاستمرار في التأليف الموسيقي بعد إصابته بالصمم في أواخر حياته.([18])
غير أن العلماء يتفقون بصفة عامة على أن اللغة أو الكلمات تسهل إلى حد كبير أنواعا معينة من التفكير ، وذلك عن طريق تقديم مقابلات أو رموز يمكن تناولها بسهولة. فنحن جميعا لدينا فكرة جيدة عن ماهية علم الحساب ، ونعرف كيف نجمع ونطرح ونضرب ونقسم. ونحن أيضا نعرف كلمة "علم الحساب" ، التي تُستخدم كعلامة على هذا الإطار المفاهيمي المركب. وعندما نفكر في الحساب فإننا يمكن أن نستخدم كلمة "حساب" كرمز في عمليات تفكيرنا. إذن فاستخدام الرموز اللفظية يجعل الفكر أسهل في كثير من الحالات. بل قد يذهب المرء إلى أن بعض أنواع التفكير قد يكون مستحيلا بدون وجود هذه المقابلات السهلة للتعامل معها، خاصة في مجال الأفكار المجردة مثل "العدل" و "الحرية" و "التربية" ، مثلا. بل إن مثل هذه المفاهيم ربما لم تكن لتوجد على الإطلاق لو لم تكن هناك كلمات تعبر عنها.([19])
ولكن ، ما العلاقة بين الفكر أو الفكرة من ناحية ، والكلام أو الكلمات التي نستخدمها للتعبير عن هذا الفكر أو هذه الفكرة من ناحية أخرى ؟ يجيب فيجوتسكي عن هذا التساؤل قائلا إن الفكر ، خلافا للكلام ، لا يتكون من وحدات منفصلة. فعندما أريد أن أنقل فكرة أنني رأيت اليوم طفلا حافي القدمين يرتدي قميصا أزرق يجري في الشارع ، فإنني لا أرى كل جزئية على حدة ، بل أرى كل هذا في فكرة واحدة ، ولكني أضعها في كلمات منفصلة. وغالبا ما يأخذ المتكلم عدة دقائق لكي يعبر عن فكرة واحدة. فالفكرة كلها متواجدة في ذهنه في الحال ، ولكن عند التعبير عنها بالكلام لابد من تطويرها أو تقديمها تباعا. ويمكن تشبيه الفكرة بسحابة يتساقط منها مطر من الكلمات.([20])
وفي مجال استعراض العلاقة بين اللغة والفكر يقول أحمد عبد المعطي حجازي[21]: "لا نستطيع أن نعرف اللغة معرفة حقيقية إلا إذا كنا نشعر ونفكر. العاطفة التي نحسها أو الفكرة التي تراودنا تبحث عن كلمات تظهر فيها وتتجسد. ونحن في البداية نحاول التعبير عن مشاعرنا وأفكارنا بلغة بسيطة محدودة ، لكنا ندرك حينئذ أن ما نقوله لا يعبر بالضبط عما نقصد ، لهذا نعاود التفكير ونعاود القراءة والمناقشة ، وبهذا تنمو ثروتنا اللغوية وتتميز تعبيراتنا بالدقة كلما تميزت أفكارنا بالعمق والخصوصية ، حتى نصل إلى المستوى الذي لا نكتفي فيه بالدقة ، بل نسعى إلى أن تتميز لغتنا بالأناقة والجمال".
رابعا : بعض الأبحاث والتجارب الخاصة بالعلاقة بين اللغة والفكر
(1) قام العالمان كيرتز Kurtz وهوفلاند Hovland بتقسيم مجموعة من الأطفال إلى قسمين ، قامت إحداهما بوضع دائرة على استمارة حول أسماء مجموعة من الأشياء عُرضت عليهم ، في حين قامت المجموعة الأخرى بوضع دائرة حول صور الأشياء المعروضة عليهم. وبعد مضي أسبوع ، وجدا أن المجموعة الأولى كانت أفضل مـن المجموعة الثانية في تذكر الأشياء التي عرضت عليهم والتعرف عليها. وقد توصلا من ذلك إلى أن اللغة أو الكلمات تسهل أنواعا معينة من التفكير.([22])
(2) قام العالمان الأمريكيان براون Brown ، ولينيبرج Lenneberg بتجربة على طالبات إحدى الكليات. وكانت تعرض على الطالبات أربعة ألوان في وقت واحدة لمدة ثلاث ثوان. ثم بعد نصف دقيقة كان عليهن أن يعثرن على هذه الألوان في جدول كبير يضم 120 لونا مرتبة حسب نظام معين. وعندما سئلت الطالبات كيف أمكنهن التعرف على الألوان ، قلن إنهن كن يسمين الألوان الأربعة لأنفسهن عندما كانت تُعرض عليهن. ثم استخدمن الأسماء التي تذكرنها في العثور على الألوان الأربعة المطلوبة. وتدل التجارب على أنه لو لم تكن الأسماء معروفة لكان الأمر أصعب.([23])
(3) أيضا وجد لينيبرج وعالم الأنثروبولوجيا روبرتس Roberts أن بعض الألوان في اللغة الإنجليزية لم يكن لها أسماء في لغة الزوني Zuni (وهي لغة يتكلمها الهنود الحمر في المكسيك) والعكس صحيح. وقد وجد المتحدثون بلغة الزوني صعوبة أكبر في التعرف على الألوان التي لم يكن لها أسماء في لغة الزوني وذلك بالرغم من أن لها أسماء في اللغة الإنجليزية ، والعكس أيضا صحيح ، بمعنى أنهم تعرفوا تعرفا أفضل على الألوان التي لها أسماء في لغتهم ، وإن لم يكن لها أسماء في الإنجليزية.([24])
(4) أجرى كوفر Kofer في سنة 1960 م تجربة على عالم متطوع اسمه سميث Smith أُعطي عقارا نتج عنه شلل عضلي تام ومؤقت بطبيعة الحال بحيث تطلَّب الأمر إمداده بالأكسجين وبالتنفس الاصطناعي. وبعد فترة لم يتكن سميث من القيام بأية استجابات حركية أو صوتية. ولكنه قرر ، بعد أن عاد إلى وعيه ، أنه كان متنبها تماما ، وأنه كان يدرك ما يدور حوله. وكان تذكره للأشياء التي قيلت له أو عملت له خلال فترة الشلل التام ممتازا. وكان باستطاعته على ما يبدو حل بعض المشكلات البسيطة طالما كانت هناك وسيلة اتصال معه ، عن طريق الإشارة بالسبابة مثلا ، وذلك بعد أن احتبس الكلام. كما كان رسم المخ أو موجات الدماغ EEG الخاص به عاديا طوال فترة التجربة.([25]) وتحسم هذه التجربة مسألة عدم التلازم بين الكلام والتفكير ، ولكن ليس بالضرورة بين اللغة والتفكير. فالكلام عملية فيزيائية ملموسة ينتج عنها إصدار أصوات كلامية ، أما اللغة فهي نظام غير ملموس من المعاني والتراكيب اللغوية.
ويمكن أن نخلص من هذه التجارب والأبحاث إلى أنه لا يمكن القول بالتطابق أو بالتـلازم بين الفكر واللغة في جميع الحالات ، أو على الأقل لا يمكن القول بالتطابق بين الفكر والكلام. ولكن لا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا أن اللغة تقوم بدور لهم مهما في التفكير وفي بعض العمليات الذهنية وفي النمو الذهني.
خامساً : هل تشكل اللغات المختلفة طرق تفكير المتحدثين بها ؟
ما هي العلاقة بين التفكير واللغة ، أو بالأحرى بين طريقة التفكير أو أسلوبه وبنية اللغة الأم للمتحدث ؟ وبمعنى آخر : هل المتحدثون بلغات مختلفة يفكرون بطرق مختلفة ؟
يرى بعض العلماء مثل سابير Sapir ، وورف Whorf أن لغتنا تحدد الطريقة التي نفكر بها ، وأن اللغات التي يتحدث بها البشر تؤدي بهم إلى فهم العالم الذي يحيط بهم أو تصوره بطرق مختلفة. ولنا أن نتساءل : هل البشر يتصورون الأشياء بطرق مختلفة أم أنهم فقط يتكلمون عن الأشياء بأشكال مختلفة ؟
ولنضرب بعض الأمثلة في محاولة للإجابة عن هذا السؤال:([26])
· يستعمل أفراد قبيلة الهوبي الهندية الحمراء كلمة واحدة للتعبير عن الحشرة ، والطائرة، وقائد الطائرة.
· في مقابل هذا تستعمل قبائل الإسكيمو كلمات متعددة لأنواع الجليد المختلفة.
· كما لا توجد لدى قبيلة الزوني كلمتان مختلفتان للتعبير عن اللونين الأصفر والبرتقالي. ولا توجد في بعض اللغات سوى كلمة واحدة للونين الأخضر والأزرق. وبينما نجد ست كلمات مختلفة في الإنجليزية والعربية للألوان الأرجواني والأزرق والأخضر والأصفر والبرتقالي والأحمر ، نجد أن المتحدثين بلغة الشونا Shona في روديسيا لديهم أربع كلمات فقط ، أما المتحدثون بلغة باسَّا Bassa في ليبيريا فلديهم كلمتان فقط.
· وفي الإنجليزية تترجم كلمة uncle إلى أربع كلمات في العربية ، هي العم ، والخال، وزوج العمة ، وزوج الخالة ، ومثلها كلمة aunt التي تترجم إلى العمة ، والخالة ، وزوجة العم ، وزوجة الخال. أما كلمة cousin فتترجم إلى ثماني كلمات هي : ابن العم وابن العمة وابن الخال وابن الخالة ، وبنت العم وبنت الخال وبنت العمة وبنت الخالة.
هذا على مستوى المفردات. أما على مستوى الفصائل النحوية فإن المتحدثين بالإنجليزية مثلا يميلون إلى التفكير في الأسماء كأشياء ، وفي الأفعال كأحداث ، بينما يعبر أفراد قبيلة الهوبي عن أشياء مثل وميض البرق وألسنة النار ونفثات الدخان كأفعال.([27])
ومن بين الفصائل النحوية الأخرى التي تختلف فيها اللغات فصيلة النوع. ففي الفرنسية ، كما هو الحال في العربية ، يُصنف كل اسم باعتباره مذكرا أو مؤنثا. فكلمة "جبن" مثلا مذكَّرة في الفرنسية ، أما كلمة "لحم" فمؤنثة. وفي الألمانية فإن كلمة "جبن" مذكَّرة أيضا ، ولكن كلمة "لحم" جماد. وكلمة "الشمس" مؤنثة في العربية والألمانية ، في حين أن كلمة "القمر" مذكرة في هاتين اللغتين ، ولكنهما عكس ذلك في الفرنسية وفي لغة الشعر في الإنجليزية المعاصرة.([28])
ومن أوجه الاختلاف بين اللغات استخدام ضمائر الخطاب. فالضمير you في الإنجليزية يقابل : أنتَ ، أنتِ – أنتما (حيث لا تفرقة في النوع) وأنتم ، وأنتن . بل إن أوجه الاختلاف قد توجد بين لهجتين من لهجات اللغة نفسها. وعلى سبيل المثال استخدام بعض التونسيين للضمير "أنتِ" في مخاطبة المفرد المذكر أحيانا !
والآن ننتقل إلى مثال يوضح كيفية اختلاف اللغات عن بعضها ، أو كيفية اختلاف نظرة المتحدثين باللغات المختلفة إلى حدث بسيط.([29]) عندما نلاحظ جسما من النوع الذي نسميه "حجرا" يتحرك في الهواء في اتجاه الأرض ، فإننا نحلل الظاهرة بين هاتين الفكرتين معا تحليلا شكليا أو نحوية معينة مناسبة للغة العربية أو الإنجليزية ، ونقول إن "الحجر يسقط" The stone falls.
ولكن لا ينبغي أن نفترض أن هذا هو التحليل الوحيد المناسب. إذ إننا لو نظرنا إلى الطرق التي تعبر عنها بعض اللغات الأخرى عن هذا الحدث البسيط ، فإننا سرعان ما ندرك أنه من الممكن الإضافة إلى شكل تعبيرنا ، أو أن نحذف منه ، أو أن نعيد تنظيمه ، دون تغيير جوهري لوصفنا للحقيقة.
· ففي الألمانية والفرنسية والعربية لابد من أن نحدد ما إذا كانت كلمة "حجر" مذكَّـرة أو مؤنثة ، فنقول "الحجر يسقط" وليس "الحجر تسقط".
· أما في لغة التشيبوا Chippewa – وهي إحدى لغات الهنود الحمر – فلا يمكن أن نعبر عن هذا الحدث دون الإشارة إلى أن الحجر جماد.
· أما الروس فإنهم قد لا يجدون أهمية لتحديد ما إذا كان الحجر معرفة أو نكرة ، بمعنى أنهم قد لا يبالون بالفرق بين "حجر يسقط" و "الحجر يسقط"
· أما هنود الكواكيتول في كولومبيا فلابد من أن يشيروا إلى ما إذا كان الحجر مرئيا أو غير مرئي للمتكلم في لحظة الكلام ، وإلى ما إذا كان أقرب إلى المتكلم أو المخاطب، أو لشخص ثالث. كما أنهم يمكن أن يعمموا فيستخدموا جملة يمكن أن تنطبق على حجر واحد أو عدة أحجار ، غير أنهم لا يحددون زمن السقوط.
· أما الصينيون فإنهم يكتفون بالحد الأدنى من التعبير فيقولون : "حجر يسقط" أو ما يقابل Stone fall بالإنجليزية.
· وأخيرا ، في لغة النوتكا Nootka ليس هناك ضرورة للإشارة تحديدا إلى الحجر ، ولكن تكفي كلمة واحدة عبارة عن فعل يتكون من جزءين :
الأول يشير إلى شيء يشبه الحجر ، بينما يشير الثاني إلى الاتجاه إلى أسفل.
ويوضح لنا هذا المثال أن الفصائل النحوية الإجبارية للغة التي نتكلمها تجعلنا ننتبه بشكل خفي إلى مكونات أو خصائص مختلفة للمواقف ، وإلى أن نلقي بالا إلى جوانب معينة من الواقع من حولنا ، على الأقل عندما نتكلم.
ومن الأمثلة الأخرى للاختلاف بين اللغات ، والذي قد يؤدي إلى بعض الصعوبات في التواصل والتفاهم ، ما يعانيه اليابانيون عندما يزورون فرنسا ، مثلا. إذ أن اليابانيين يضعون الفعل في نهاية الجملة ، ولذا لابد من الاستماع للمتحدث حتى النهاية لفهم ما يريد قوله. أما الفرنسيون فيضعون الفعل بعد الاسم مباشرة في الجملة ويفهم المستمع معنى الجملة بسرعة وقد لا يتورع لهذا السبب عن مقاطعة محدثه. بالإضافة إلى ذلك فإن الياباني عندما يرد على سؤال يبدأ بتقديم مختلف الآراء قبل أن يختم بتقديم رأيه الخاص. فإذا كان الياباني لا يجيد الفرنسية فإن الفرنسي قد يقاطعه بسرعة معتقدا أنه يساعده بذلك. وتكون النتيجة أن يشعر الياباني بالإحباط لأنه قدَّم رأيا غير رأيه ، كما يشعر بالتوتر لأنه لم يجد الوقت الكافي للتعبير عن نفسه أو حتى فهم ما يقوله الفرنسي.([30])
سادساً : هل "يفكر" الحيوان والطير ، وكيف يختلف "تفكيرهما" عن تفكير الإنسان ؟
يرى بعض العلماء مثل ويتجنستاين Wittgenstein أن الحيوان لا يستطيع التفكير مثل الإنسان لأنه ليست لديه لغة يتكلمها.([31]) غير أن علماء آخرين مثل كارول Carrol ، وجريـن Greene يرون أنه يمكن للحيوانات أن تؤدي مهام كثيرة يبدو أنها تتطلب "التفكير" أو على الأقل عملية داخلية.([32]) ففي إحدى التجارب بجامعة إنديانا الأمريكية شاهد أحد القرود الباحث وهو يضع طعام القرد المفضل داخل صندوق ، ثم أغلقه بمفتاح ووضع المفتاح في صندوق آخر وحزمه بحبل. وكان ذلك بمثابة تحدٍ للقرد. ومع هذا استطاع حل المشكلة ، إذ وجد قطعة من الصخر فأخذ يدقها على الأرض الخرسانية بشدة ، وصنع بهذه الطريقة ما يشبه مدية صغيرة استطاع بها قطع الحبل وإخراج المفتاح وفتح الصندوق المغلق وتناول طعامه المفضل!([33])
وفي تجارب تُجرى بجامعة أطلانطا الأمريكية أصيبت شمبانزي أنثى بالشلل وأخذت تنظر بعينها إلى القرود الأخرى. وأدركت ابنتها حاجة أمها فكانت تجمع لها الطعام وتضعه إلى جوارها ، مع أن الأم لم تطلب منها شيئا. ولكن الابنة فهمت من نظرات أمها ماذا تريد. وهذا يدل على أن هناك نوعا من أنواع الوعي أو الإدراك لدى الشمبانزي.([34])
أما طائر الهيرون Heron أو "مالك الحزين" فإنه يقف جامدا على حافة الماء بانتظار مرور سمكة. وعندما تأتي سمكة فإنه يضرب بمنقاره وعنقه الطويل ، وبسرعة فائقة تنساب السمكة إلى بلعومه ثم إلى معدته. ولكن هناك طائرا آخر أذكى منه أو ربما نافد الصبر يستعمل "الطعم" لجذب الأسماك ، مثل القش أو الورق أو الريش أو الحشرات أو الديدان أو كسرات الخبز بل وقطع من البلاستيك.([35])
وقد أصدر العالم الأمريكي دونالد جريفين مؤخرا كتابه (عقول الحيوانات) الذي يضم بين دفتيه مجموعة من الأبحاث العالمية التي أجريت في مجال تفكير الحيوان ، وهل تفكر بوعي ، بمعنى هل تعرف أو تدرك أنها تفكر ؟ وقد شملت هذه الأبحاث القردة الكبيرة والشمبانزي والببغاوات والقضاعة أو ثعلب الماء Otter والقُنْدُس أو السمور (وهو حيوان قاضم ذو فراء). ويحكى لنا جريفين عن قردة أم من فصيلة الكابوسين صنعت بيديها أدوات بسيطة لمعالجة جروح أصيب بها وليدها في رأسه ، بل إنها أدخلت بعض التعديلات عليها ثم أخذت مواد نباتية واستعملتها كعلاج للجروح.([36]) ويؤكد لنا هذا العالم المشتغل بهذا الفرع من الدراسات العلمية التي يطلق عليها "السلوكية التعريفية لدى الحيوان" أن بعض أنواع الحيوانات قادرة على بعض أنواع التفكير الواعي. ومن الأدلة والمؤشرات على ذلك ما يُطلق عليه "اتصال الحيوان Animal Communication بمعنى أن الحيوانات تحاول التعبير عما تفكر فيه. ولعل من أحدث الجهود في إلقاء الضوء على تفكير الحيوان حديقة الحيوان التابعة لمؤسسة سميثونيان Smithonian في واشنطون والتي تضم مبنى يجري إعداده حاليا بعنوان "كيف يفكر الحيوان ؟"([37])
ويحكى لنا د. حسن ظاظا هذه الحكاية عن القطط : "كنت أعمل في جامعة بيروت وأسكن في الجبل. وكنت أترك بقايا الطعام في صحن مهمل ، وأضعه جنب باب البيت ، فتأتي قطة ، فتأكل ما فيه ، وذات يوم ، وأنا جالس في بهو الدار جاءت تحمل في فمها قطة صغيرة وضعتها أمامي ، وأعادت الكرة حتى صفت بين يديَّ أربعا من مواليدها. ففهمت أنها تستجدي لهم حليبا. فأتيت بأطباق صغار خفاف وملأتها حليبا ، فانقض عليها هذا الجيل من مواليدها ولم يبقوا منها شيئا. وكانت هي تنظر إليَّ نظرة شكر صامت أبلغ من أي كلام !"([38])
كما لا يفوتنا أن نذكر في مجال تكلم الطير والحشرات ما ورد في القرآن الكريم عن الهدهد والنمل وعن إدراكهما لما حولهما وتكلمهما.([39]) ويحدثنا علماء الحشرات عن أن النمـل عظيم الحيلة في طلب الغذاء ، فإذا وجد شيئا أنذر رفاقه ليأتوا إليه. ومن طبعه أن يدخر من قوته في الصيف للشتاء. وله في الادخار من الحيل أنه إذا ادخر ما يخاف أن ينبت قسمه نصفين ما خلا الكبيرة فإنه يقسمها أرباعا ، ولما أُلهم من أن كل نصف منها ينبت. فإذا خاف العفن على الحب أخرجه إلى ظاهر الأرض ونشره ، وإذا أحس الغيم رده إلى مكانه خوفا من المطر. فإذا ابتل شيء منه بسطه يوم الصحو في الشمس.
وفي محاولة للإجابة عن السؤال الثاني المتعلق باختلاف "تفكير" الحيوان عن تفكير الإنسان ، لابد لنا من أن نذكر أن للغة وظيفتين رئيسيتين على القدر نفسه من الأهمية ، أولهما الاتصال الخارجي للإنسان مع بقية أبناء جنسه من البشر ، والثانية التحكم في أفكاره الداخلية، أو تسهيل التفكير والسلوك للفرد (أي اتصال داخل الفرد نفسه ، أو اتصال الفرد مع نفسه إذا جاز التعبير ، مثلما يحدث عندما يفكر الإنسان في الالتحاق بكلية معينة أو في شراء منزل أو سيارة مثلا).([40])
وتكمن معجزة الإدراك المعرفي للإنسان في أن هذين النظامين يستخدمان الشفرة أو الرموز اللغوية نفسها مما يجعلهما قابلين للتحويل أو للترجمة من أحدهما إلى الآخر بنجاح نسبي. ولكن ليس من الضروري أن تظهر هذه المقدرة على التحويل أو الترجمة بين الاتصال الخارجي والداخلي لدى الحيوانات.
وتلخص العالمة الأمريكية جرين الفرق بين تفكير الإنسان وتفكير الحيوان قائلة إن "الشيء الوحيد الذي لم يستطع أي حيوان أن يفعله حتى الآن هو أن يخرج من تجربة في علم النفس مثلا ويقول للحيوان الذي بعده في الصف وليكن قردا مثلا: "يُوجَد في هذه الغرفة عالم مجنون يعطيك موزة إذا استطعت أن تميز الشيء المختلف في مجموعة أشياء تعرض عليك".([41])
سابعاً : هل هناك حدود للتفكير ؟
للقوى الإدراكية للإنسان حدود. فلو حاولنا تصور شيء مستدير ومربع في الوقت نفسه ما أمكننا ذلك ، وهذا شيء يختلف عن الانتقال السريع بين تخيل شكل دائري وآخر مربع ، كما يختلف عن تخيل شكل مربع موضوع فوق شكل دائري.([42]) (للجاحظ رسالة عنوانها "التربيع والتدوير" يقول فيها إن الشكل المربع والدائري في الوقت نفسه شيء لا وجود له ، بل لا يمكن التفكير فيه.
وهل يمكننا تخيل جذر –1 (الجذر التربيعي للعدد ناقص أو سالب واحد) ؟ إن بعض المفاهيم خيالية ، بمعنى أنها لا يمكن أن تحدث في الواقع.
وهل يمكننا تصور أن آخر ما اكتشفه الإنسان من مجرات يقع على مسافة ثلاثة مليارات من السنين الضوئية ؟ والسنة الضوئية الواحدة هي حصيلة ضرب ثلاثمائة وخمسة وستين يوما في أربع وعشرين ساعة في ستين دقيقة في ستين ثانية في ثلاثمائة ألف كيلو متر – وهي سرعة الضوء في الثانية الواحدة – وعندئذ نضرب هذا الناتج في ثلاثة مليارات.([43])
وهل يمكننا تخيل أن هناك أكثر من مائة ألف مليون مجرة نجمية في كل منها مائة ألف مليون شمس بتوابعها ؟([44])
وهل يمكننا بسهولة تخيل عدد الذرات التي يحتوي عليها جرام واحد من غاز الهيدروجين، وهو 600 ألف مليار مليار ذرة ؟
وهل يمكننا تخيل عدد الملائكة الذين يتعبدون في البيت المعمور كل يوم وعددهم 70 ألفا يخرجون ثم لا يعودون ؟ ما عددهم في ألف عام أو مليون مثلا ؟
وهل يتخيل أحدنا أن قلبه يضخ 000ر22 جالون من الدم يوميا ، أي 000ر8030 جالون في السنة ، أي 000ر800ر481 جالون خلال 60 سنة ، وهو ما يزن نحو 000ر345 طن ؟ وأن هذا القلب ينبض مليارين ومائتين وسبعة ملايين وخمسمائة وعشريـن ألف نبضة في 60 سنة ؟ وهل نتخيل أن عدد الحويصلات الهوائية في رئتي الإنسان البالغ أكثر من 375 مليون حويصلة ؟ وأنه خلال ساعات اليوم الواحد يسحب الإنسان نحو 180 مترا مكعبا من الهواء في عمليات التنفس ؟ وأنه يتولد عن ذلك طاقة تكفي في مجموعها لرفع قاطرة سكة حديدية إلى ارتفاع مترين ؟
وكما يصعب على الإنسان تخيل الأشياء المتناهية في الكبر أو العدد ، فإنه بالمثل يصعب عليه تخيل الأشياء المتناهية في الصغر أو تصورها. من ذلك مثلا المللي مكرون. ولتقريبه إلى أذهاننا فإننا نقول إن الملليمتر هو واحد من ألف من المتر ، بينما المكرون هو واحد من الألف من الأخير ، وعلى هذا فإن المكرون واحد على مليون من المتر ، بينما المللي مكرون هو جزء من المليار من المتر الواحد.([45])
وهل نتخيل أن حركة الجزيء لابد من أن تكون أسرع ألف مرة أي بسرعة واحد على مليون من البليون من الثانية. وهذا الزمن يعرف باسم فامتوسكند. وهل نتخيل أن علاقة هذا الزمن بالثانية الواحدة مثل علاقة الثانية الواحدة بـ 32 مليون سنة ؟([46])
وإزاء كل الحقائق السابقة لا يملك الإنسان إلا أن يتذكر قول الله سبحانه وتعالى : {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت: 53].
وبسبب قصور قوانا الإدراكية فإننا مطالبون – كمسلمين – بالتفكير في خلق الله وليس في ذاته ، لأن عقل الإنسان قاصر عن إدراك كنه الذات الإلهية. والأصل في الإسلام هو المعرفة والسؤال ، باستثناء الأسئلة عن ذات الله تبارك وتعالى لسبب بسيط هو أن ذات الله تتجاوز العقل البشري وقدرة الفكر الإنساني. يضيع العقل ويتبدد ولا يصل إلى شيء حين يحاول الدنو من تصور الذات الإلهية قبل خلق الوجود أو بعده ، مثلما يضيع الطفل لو رسم مركبا على الورق وحاول بها عبور المحيط.
وإذا كان الإسلام أكثر العقائد احتراما للعقل ومخاطبة له ، فإنه قد بيَّن أن للعقل حدوده التي يتوقف عندها. وفي دنيا الغيب لا يلجأ المسلم إلى العقل إنما يلجأ إلى الوحي يأخذ عنه ويكتفي به ، ويصدق رسوله الذي أُنزل عليه. يقول الله سبحانه وتعالى : {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ". ويقول : "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الأنعام: 103-104].
وقد قال الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : تكلموا في خلق الله ، ولا تكلموا في الله. وذلك لأن التكلم في الله لا يزيد صاحبه إلا تحيرا. وقال عليه الصلاة والسلام : "تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في ذاته". ورُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا : خلق الله الخلق فمن خلق الله ؟ فمن وجد من ذلك شيئا فليقل آمنت بالله.
والسؤال عمن خلق الله خطأ أصلا ، وهو بتعبير عصرنا غير علمي ، لأنه يفترض أن قوانين الحياة الإنسانية يمكن تطبيقها على الله سبحانه وتعالى. نحن نعرف أن الأسماك تعيش في الماء وتتنفس فيه. هذا قانونها الخاص. ونعرف أن الطيور تعيش في الهواء وتطير فيه. وهذا قانونها الخاص. ولكن لو سألت سمكة سمكة أخرى : لماذا لا تسبح الطيور مثلنا تحت الماء ؟ فهذا هو نفسه سؤال من يسأل : خلق الله الخلق فمن خلق الله ؟ إذن على المسلم أن يدرك أن لكل كائن في الوجود قانونه الخاص أو ناموسه. ومن صفات البشر أنه يجيء من طريق الولادة ومن صفات الله أنه "لم يلد ولم يولد".([47])
وقد أشرنا فيما سبق إلى أن اللغة قد تسهل التفكير عن طريق تمكينه من أن يكون أكثر تفصيلاً وكفاءة ودقة. غير أن اللغة يمكنها في بعض الأحيان أن تحول بين التفكير أو أن تضلله. فاللغة يمكن أن تؤدي إلى استنتاجات خاطئة. ولننظر إلى هذا الجدل الخاطئ على سبيل المثال المأخوذ بتصرف من لانجاكار :([48])
- كان أيمن يبحث عن حيوان وحيد القرن.
- إذا كان أيمن يبحث عن وحيد القرن ، إذن لابد أن هناك وحيد القرن يبحث عنه أيمن.
- إذن فهناك على الأقل وحيد قرن واحد.
وهذا استنتاج خاطئ لأن وحيد القرن حيوان خرافي لا وجود له ، كما أنه ليس ضروريا أن كل ما يبحث عنه الإنسان له وجود.
كما يشير أحمد عبد المعطي حجازي إلى أننا لم نعد نتحرى الصدق أو نراعي الموضوعية في طريقة استخدامنا للغة. ويضرب مثلا بأنه في عام 1948 حين خسرنا فلسطين سمينا ما حدث "نكبة" نسبناها للدهر. كما أطلقنا على هزيمة 1967 "نكسة".([49])
ومن طريف ما يروى عن إمكانية استخدام اللغة في الجدل الخاطئ أن أحدهم شكا إلى طبيب أو حكيم أن حلقه يؤلمه فنصحه الطبيب أن يأكل أشياء إما شديدة الملوحة أو شديدة الحلاوة ، فقال المريض : إذن فأنت تريد أن تقنعني أن المالح يساوي الحلو ! ما هذا الهراء ؟! فردَّ الطبيب :هل أنت حي ؟ قال المريض : نعم. سأله الطبيب : والكلب ؟ قال المريض : هـو حي أيضا. ومغزى الطرفة لا يخفى على القارئ الكريم.
ثامناً : هل يفكر الطفل حديث الولادة أو الجنين في رحم أمه ؟
منذ حوالي نصف قرن لم يكن أحد يتصور أن الطفل الحديث الولادة يستطيع التفكير. ولكن منذ حوالي أربعين عاما نشأ علم جديد مختص بدراسة كل ما يتعلق بالطفل الرضيع. وأعلن المتخصصون في هذا العلم أن الطفل حديث الولادة يفكر.([50])
يقول البروفسير روجيه لوكيه الباحث في معمل علم نفس الطفل في باريس : قبل أن نقول إن الطفل عند ولادته يفكر ، يجب أن نتوصل إلى الأشياء التي يفكر فيها. فالمعروف أن الطفل عقب ولادته مباشرة يستطيع التعرف على صوت أمه لأنه كان قد التقطه منذ الشهر الخامس من الحمل. فالطفل الوليد يسمع إذن ، ويرضع لبن أمه بلذة ، ويلمس الأشياء حوله باهتمام شديد ، ويحاول إبقاء الشيء الذي يعجبه في يديه لفترات طويلة.([51])
ويقول رينيه بابارجون الباحث في كيبيك بكندا إن الطفل منذ سن خمسة شهور لديه المبادئ الأساسية لعلم الفيزياء ، فلا شيء يمكن أن يقنعه مثلا بأن يُترك معلقا في الهواء أو أن يُحمل بطريقة لا تشعره بالأمان ، ولذا فإنه يتشبث على الفور بمن يحمله.([52])
ويقول العلماء المتخصصون في هذا العلم الجديد أو الفرع الجديد من علم النفس إن الأصوات الأولى التي يسمعها الطفل عند ولادته تظل مسجلة في ذاكرته لا تمحى إطلاقا ، كما لو كانت مسجلة على شريط ممغنط مثل ذلك الذي نسجل عليه الأصوات والمعلومات في الحاسب الإلكتروني.([53]) ولا يمكن للمرء إزاء هذا إلا أن يتذكر سنة التكبير في أذن الوليد اليمنى فور ولادته ، والإقامة في أذنه اليسرى ، وهو ما لم يدرك كنهه العلماء غير المسلمين إلا منذ نحـو أربعين عاما ، بينما أدركه رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أربعة عشر قرنا من الزمان ، بما علمه الله إياه ، وأوحى به إليه.
لم يقتصر العلماء على دراسة تفكير الوليد ، بل تعدوا ذلك إلى القيام بأبحاث لقياس "ذكاء" الجنين ، والتكهن بالقدرات الذهنية والدراسية للطفل المقبل. ويتابع علماء في مركز دراسة سلوك الجنين في جامعة كوينز في بلفاست بأيرلندا ملاحظة مجموعة من المواليد الجدد ، بعد أن أجروا سلسلة اختبارات عليهم عندما كانوا أجنة في أرحام أمهاتهم. وقد شملت هذه الاختبارات تعريضهم لمنبهات معينة من أصوات وموسيقى وغيرها. ولاحظ العلماء أن الجنين يتجاوب مع هذه المنبهات بتغير طفيف في ضربات القلب ، وهو ما يعده العلماء شكلا أوليا من أشكال التعلم.([54])
ويؤكد البروفيسور بيتر هيبر الذي يقود فريق الباحثين في هذا المجال أن الإناث متفوقات على الذكور في هذه المقدرة ، بمعنى أن الجنين الأنثى يحفظ أي معلومة تقدم له قبل أسبوعين من الجنين الذكر حسبما ظهر في اختبار استمر أربعة وعشرين أسبوعا. ومفهوم "الحفظ" هنا أن تجاوب الجنين مع المنبهات يتوقف بعد لحظات عندما يتكرر المنبه أو الصوت نفسه ، وهذا يعني أن الجنين التقط المعلومة أو "حفظها" وأنه مستعد لتلقي غيرها.([55])
وبالرغم من أن معظم العلماء والباحثين يتفقون على هذه الآراء العلمية الجديدة ، فإن بعض المتخصصين يرفضونها ومن بينهم على سبيل المثال باسكال برونكس الذي يرفض فكرة أن الطفل يفكر منذ لحظة ولادته. ويقول مبررا رأيه إن الطفل يشعر ويتأثر فحسب ، ولكنه لا يفكر لأن إنسانيته أو الإنسانية لديه تبدأ باللغة ، ولأنه ليست هناك أفكار حقيقية بدون كلمات.([56])
ويضيف باسكال شيئا يدعو إلى التوقف إزاءه طويلا لتأمله. يقول : "إنه من حسن حظ الإنسان أنه مهما بلغ من آفاق العلم ، فإن هذه المرحلة من العمر سوف تظل دائما شبه لغز يحير كل العلماء".([57]) وهذا القول يذكرنا على الفور بقوله سبحانه وتعالى : {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 85]. ولعل بداية قوله "إنه من حسن حظ الإنسان" أن تظل بعض الأمور لغزا ، تشير إلى أن للبحث حدودا ، كما أن للتفكير وللعقل حدودا ينبغي عدم تجاوزها، كما أشرنا آنفا.
تاسعاً : هل تختلف اللغة والفكر عند النساء عنهما عند الرجال ؟
نقدم فيما يلي خلاصة لأحدث ما توصل إليه "علم المخ" أو "علم دراسة المخ" كما جاء في مجلة نيوزويك Newsweek الأمريكية مؤخرا ، والتي طالعتنا على غلافها بعنوان رئيسي يقول : العلم الجديد للمخ أو للدماغ The New Science of the Brain ، مع عنوان فرعي على شكل سؤال يقول : لماذا يفكر الرجال والنساء تفكيرا مختلفا ؟ Why Men and Women Think Differently ?([58])
يؤكد العلماء الأمريكيون أن هناك اختلافا كبيرا بين مخ الرجل ومخ المرأة ، وأنهما نتيجة لذلك يفكران بطريقتين مختلفتين اختلافا كبيرا. وقد توصل العلماء إلى ذلك بعد أن قاموا بفحص أمخاخ أكثر من ألف رجل وألف امرأة بأجهزة تصوير المجال الوظيفي المتردد للأعصاب FMRT وجهاز الأشعة المغناطيسية النووية PET في جميع مراحل التفكير والتذكر والتعلم والأحاسيس والمشاعر.
وقد توصل البروفيسور ريتشارد هير بجامعة كاليفورنيا ومعه البروفسير روبين جون من جامعة بنسلفانيا اللذين أشرفا على أول بحث علمي من نوعه إلى الحقائق العلمية التالية التي يعرفها العالم لأول مرة :
· أنه من المستحيل أن يسترخي المخ فترة طويلة بدون تفكير في شيء حتى إذا تعمد الإنسان ذلك.
· عندما يسترخي الرجل فإنه عادة يثبت تفكيره في العمل أو كرة القدم مثلا ، أما المرأة فيتجه تفكيرها إلى نسج مجموعة من الكلمات.
· أن الرجال يستخدمون الجانب الأيسر من المخ وهو المسئول عن اللغة بينما تستخدم النساء الجانب الأيمن مع الجانب الأيسر.
ومن المعروف أن الجانب الأيمن هو المسئول عن العواطف وهو ما يفسر سر عاطفة النساء !
· كانت النساء أقدر على مزج اللغة بالمشاعر مما ساعدهن على التعبير واستخدام الكلمات التي تعبر عما يجيش في صدورهن.
· أن الجانب الأيسر من المخ المسئول عن الكلام والقدرات اللغوية يحتوي على أحزمة عصبية في مخ المرأة أكثر من مخ الرجل([59]) ، مما يساعد المرأة على التعبير بالكلمات بشكل أفضل من الرجل.
كما أثبتت تجربة أخرى أجرتها لورا آلان ، وروجر جورسكي على 146 رجلا وامرأة ما يلي :
· أن الجانب الأيسر من المخ عند الرجل لا يكاد يعرف ماذا يحدث في الجانب الأيمن من المخ. ولكن على العكس من ذلك فإن حوارا عصبيا – أي من خلال الأعصاب – يدور باستمرار بين الجانبين الأيمن والأيسر من المخ عند المرأة.
· أن مخ المرأة كالغرفة الواحدة ، ومن ثم فإنه يستطيع أن يركز في موضوع واحد بكفاءة عالية مما يحقق إنجازا كبيرا ، لكن مخ الرجل كالبيت مقسم إلى عدة غرف فهو يأخذ شيئا من كل ألوان النشاط.
وقد أثبتت الدراسات التشريحية أن هرمونات الجنس ذات تأثير كبير على الاختلافات في المخ عند الرجال والنساء وأنها تجعل كلا منهما يستخدم المخ استخداما مختلفا. إلا أن عالم النفس الأمريكي مارك بريدلث يؤكد أن أجزاء من مخ الإنسان تنكمش أو تنمو وفقا للخبرات الاجتماعية التي يتعلمها ووفقا للمعاملة التي يتلقاها من المحيطين به ، لذلك فإن التفاعلات الاجتماعية المعقدة حول البشر تساهم في تطوير الجهاز العصبي للإنسان وبالتالي نمو جزء معين من المخ أو تقلصه. كما أن المعاملة التي يتلقاها الشخص في المجتمع تختلف إذا كان رجلا أو امرأة وهذا بدوره يؤثر في تطور مخ الإنسان.
ونحن لو تأملنا بعض هذه الاختلافات ، ونتائج التجارب التي أثبتت أيضا أن النساء أقدر على كشف المشاعر ، خاصة مشاعر الحزن ، وأقدر على تجاوز الحزن والخروج من الأزمات ، لأدركنا أن تلك الاختلافات ربما كانت تُوَحِّد أكثر مما تفرق ، وتنفع أكثر مما تضر ، ولتذكرنا على الفور قوله سبحانه وتعالى :{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]. صدق الله العظيم.
عاشرا : خاتمة
في عالم اليوم تحظى الظواهر العالمية للغة (بمعنى الملامح المشتركة بين اللغات المختلفة) بنصيب أوفر من الاهتمام عما تحظى به نظرية وورف المعروفة باسم النسبية اللغوية linguistic relativity والتي سبق الإشارة إليها. وقد أشار عالم اللغة الأمريكي الشهير نعوم تشومسكي Noam Chomsky إلى أن وورف كان معنيا أكثر مما ينبغي بالتراكيب أو البنيات السطحية للغات ، بينما في مستوياتها الأعمق فإن اللغات كلها تتشابه أكثر مما تختلف. (ولا يعني هذا أن ننسى أو نتناسى أن اللغات والثقافات المختلفة قد يكون لها بالفعل تأثيرات مهمة في سلوك البشر).
كل ما في الأمر أنه قد يكون من الأسهل للمتحدثين ببعض اللغات أن يتكلموا أو يفكروا في أشياء معينة لأن لغتهم تسهل لهم ذلك. ويشير اللغوي الأمريكي تشارلز هوكيت Charles Hockett إلى أن اللغات تختلف فيما بينها ليس فيما يمكن قوله بها ، بقدر ما تختلف فيما هـو سهل نسبيا قوله بها. إذن فالفروق بين اللغات ليست كامنة فيما هي قادرة على التعبير عنه ، بقدر ما هي كامنة فيما تعبر عنه عادة بالفعل ، وفيما هو مطلوب منها أن تعبر عنه.
ومن المحتمل أن الوظائف الأساسية للغة تؤديها جميع اللغات ، مثل إعطاء المعلومات ونفيها ، وتوجيه الأسئلة ، وإصدار الأوامر ، وهكذا. كما يتفق البشر على مجموعة من البديهيات والمسلمات والأحداس التي تحكم عملية التفكير ، ومنها على سبيل المثال ، أن أقصر مسافة بين نقطتين هي الخط المستقيم الواصل بينهما ، وأن الجزء أقل من الكل ، وأن القيمتين اللتين تساوي كل منهما قيمة ثالثة متساويتان ، وهكذا.
ولعل في إمكانية الترجمة بين اللغات ما يشير ضمنا إلى وجود معرفة عامة بالعالم يشترك فيها جميع البشر ، وأن هذه المعرفة مستقلة عن لغاتهم الخاصة التي يعبرون بها عن تلك المعرفة.
خلاصة القول أن هناك أوجه تشابه أكثر مما هناك أوجه اختلاف في كيفية قيام النظم اللغوية بالرمز إلى المفاهيم ، وذلك لأن هذه المفاهيم نتاج لتفاعل المجتمعات الإنسانية مع البيئة الطبيعية والاجتماعية التي تتسم بالتشابه الكبير في جميع أنحاء العالم. وحتى في حالة وجود فروق فإن ذكاء الإنسان يكفي عادة لفهمها وللتغلب على المشكلات التي قد تنتج عنها.
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) انظر تاج العروس للزبيدي.
([2]) المرجع نفسه ، وأيضا المعجم الوسيط ، مجمع اللغة العربية بالقاهرة ، الطبعة الثانية ، 1972م.
([3]) انظر ، على سبيل المثال ، محمد علي الخولي ، معجم علم اللغة النظري ، مكتبة لبنان ، 1982م.
([4]) الخولي ، المرجع نفسه.
([5]) المعجم الوسيط.
([6]) أحمد شوقي رضوان ، عثمان بن صالح الفريح. الرياض : عمادة شؤون المكتبات – جامعة الملك سعود. الطبعة الثالثة 1411 هـ (1991م) ، ص7.
([7]) Dan I. Slobin, Psycholinguistics, Glenview, Illinois: Scott Foresman and Co., 1961, p. 99.
([8]) جوديث جرين ، التفكير واللغة ، ترجمة عبد الرحمن عبد العزيز العبدان ، الرياض : دار عالم الكتب 1410 هـ (1990م) ص 111.
([9]) جرين ، المرجع نفسه ، ص113.
([10]) جرين ، المرجع نفسه ، ص119.
([11]) عبد العزيز محمد الذكير. "التفكير بصوت مسموع". جريدة الرياض ، 3/1/1416 هـ (1/6/1995م)، ص8. يذكر الذكير أن الطفل أو الطفلة دون السادسة قد يتخذ صديقا أو صديقة في مثل عمره ولكن من الخيال imaginary friend ويعطيه اسما يحبه ، ويرجع إليه في مهام واستفسارات ويعمل على إرضائه ، ويشغل هذا الصديق حيزا كبيرا من حياة الفتى أو = = الفتاة.
([12]) أحمد شوقي رضوان ، عثمان بن صالح الفريح. مرجع سابق ، ص6.
([13]) المرجع نفسه ، ص ص. 7- 8.
([14]) Slobin, Op. Cit., pp. 116-117.
([15]) Ronald W. Langacker, Language and its Structure, San Diego: Harcourt Brace Jovanovich, Publishers, Second Edition, 1973, p. 36.
([16]) جرين ، مرجع سابق ص 116.
([17]) Slobin, Op. Cit., p. 100.
([18]) John B. Carroll, Language and Thought, Englewood Cliffs, New Jersey: Prentice Hall Inc., 1964, p. 76.
([19]) Langacker, Op. Cit., p. 37.
([20]( Slobin, Op. Cit., p. 100.
[21] أحمد عبد المعطي حجازي ، "علموا أولادكم الشعر" ، الأهرام ، 14/6/1995 م ، ص16.
([22]) Carrol, Op. Cit., p. 95.
([23]) Carroll, Ibid.
([24]) Carroll, Ibid.
([25]) Slobin, Op. Cit., pp. 99-100.
([26]) جرين ، مرجع سابق ، ص 104.
([27]) المرجع السابق ، ص104.
([28]) Langacker, Op. Cit., p. 38.
([29]) Slobin, Op. Cit., pp. 126 - 127.
([30]) "باريس : مرض غريب يصيب سياح اليابان" ، الأهرام ، 24/12/1992 م ، ص17.
([31]) أحمد شوقي رضوان ، عثمان بن صالح الفريح. المرجع نفسه ، ص7.
([32]) Carroll , Op. Cit. ; p. 93 , جرين ، مرجع سابق ، ص103
([33]) محمد بنهان سويلم ، "هل تفكر الحيوانات". الفيصل ، العدد 205 رجب 1414 هـ – ديسمبر/ يناير 1993/1994 م ، ص 86.
([34]) أنيس منصور ، مواقف ، الأهرام ، 29/1/1994 م.
([35]) جريدة الرياض ، ملحق ثقافة اليوم ، الخميس 4 رمضان 1413 هـ (25/2/1993م) ص35.
([36]) السابق.
([37]) سمير حنا صادق ، "مؤسسة سميثونيان ومتاحف العالم" ، الأهرام ، 19/5/1995م ، ص9.
([38]) حسن ظاظا. الكشكول ، "سلاما أيها القطط" ، جريدة الرياض ، 3/1/1416 هـ (1/6/1995م) ، ص26.
([39]) (39) د. حسن ظاظا. الكشكول ، "اللسان والأدب واللهب" ، جريدة الرياض ، (25/5/1995م) ، ص22.
([40]) Carrol, Op. Cit. , p.4 ;جرين ، مرجع سابق ، ص4
([41]) جرين ، المرجع نفسه ، ص103.
([42] ( Langacker, Op. Cit., p. 96.
([43]) عبد السلام المسدي. "اللغة الأداة" ، جريدة الرياض ، ملحق ثقافة اليوم ، العدد 9691 ، 4 شعبان 1415 (5/1/1995م).
([44]) مصطفى محمود ، السر الأعظم ، دار العودة – بيروت ، ص102.
([45]) خالص جلبي ، "لو تحولت الكرة الأرضية إلى قرية تضم ألف شخص" ، جريدة الرياض ، 8 شوال 1415 هـ (9/3/1995م).
([46]) زينب عبد الرزاق ، "قنبلة علمية جديدة" ، الأهرام ، 26/5/1995 ، ص3. اكتشف هذا الزمن مؤخـرا العالم المصري د. أحمد زويل.
([47]) محمد إبراهيم ، "الكاتب الصحفي أحمد بهجت : ذات الله تجاوز طاقة العقل" ، الأهرام 22/2/1995 م، ص 12 ؛ محمد جواد مغنية ، "الله يُرى بالبصيرة لا بالبصر" ، الأهرام 8/2/1995 م ، ص12.
([48] ( Langacker, Op. Cit., p.37.
([49]) أحمد عبد المعطي حجازي ، "كلمة عن الأسماء" ، الأهرام ، 26/11/1995 ، ص16.
([50]) هبة لوزة ، "الطفل حديث الولادة يفكر ويحلم ويتفاعل" ، الأهرام ، 11/11/1994 م ، ص7.
([51]) السابق.
([52]) السابق.
([53]) السابق.
([54]) "الجنين يبدأ التعلم في رحم أمه" ، جريدة الرياض ، 6/11/1415 هـ (6/4/1995) ص34.
([55]) السابق.
([56]) هبة لوزة ، المقال نفسه.
[57])) هبة لوزة ، المقال نفسه.
([58]) عزت السعدني ، "وجعل بينكم مودة ورحمة" ، الأهرام ، 1/4/1995 م ، ص3.
([59]) جاء في برنامج "دنيا العلوم" بهيئة الإذاعة البريطانية (يونيو 1995م) أنه عُرف منذ عدة قرون أن حجم دماغ الرجل ووزنه يزيدان عن حجم دماغ المرأة بحوالي 100-150 جراما أو سم3. وتقول خبيرة في الفيزيولوجيا العصبية في أونتاريو بكندا إن هذا الفرق لا ينعكس على القدرات العقلية والذكاء والقدرة على التعلم وعلى الذاكرة بين الرجال والنساء. وقد تم فحص الخلايا العصبية في أدمغة 5 نساء و4 رجال ووجد أن الخلايا في أدمغة النساء أكثر كثافة أو تراصا بنسبة نحو 15%. وقد تم خلال هذه التجربة التي استغرقت 8 سنوات عد أكثر من 100 ألف خلية تحت المجهر. وإذا صح أن هذا ينطبق على جميع خلايا الدماغ وليس على خلايا القشرة الدماغية فقط ، فإن هذا قد يعني أن عدد الخلايا متساو في الرجال والنساء. وتتوصل الباحثة إلى أنه لا علاقة بين حجم الدماغ والذكاء ، بل ربما كان العكس هو الصحيح!
وتشير أمل عوض الله في مقال بعنوان "لماذا يختلف تفكير الرجل عن المرأة" (الأهرام 2/6/1995م ، ص6 بملحق الجمعة) إلى أن وجهة نظر الرجل تتسم غالبا بأنها أعمق وأكثر وضوحا في حين أن النساء عندهن قدرة أكبر على الاستماع. وتشير إلى أن الفتيات الصغيرات يتميزن بأنهن أكثر حساسية للأصوات خاصة أصوات أمهاتهن ، كما أنهن يبدأن أيضا في إصدار الأصوات العالية في سن مبكرة عن الأولاد. وتذكر أن نتائج إحدى الدراسات تشير إلى أن البنات يتحدثن مبكرا عن الأولاد ، وأن بعض المفردات لديهن تتطور تطورا أفضل ، كما يستطعن ترتيب = جمل متنوعة ذات معنى في سن مبكرة عن الأولاد. وتشير الكاتبة أخيرا إلى أن لغة الرجل تتسم بأنها جافة إلى حد ما أكثر من لغة المرأة. كما أن لغة الجسد عند الرجل تمتلئ بالتحدي. أما المرأة فتغلب عليها البراءة أو الطبيعة الأنثوية لحماية النفس