أرطغرل صاحب القصة المثيرة، الحكيم في آرائه، الهادئ في انفعالاته، المتَّزن في تصرفاته، كان مثالًا للقائد الحكيم الذي يُقَدِّر قوَّته، ولا يُهدرها فيما لا يفيد، فقد حافظ على وجود إمارته خمسين سنة كاملة على الرغم من كل القوى المحيطة به المتربصة له، وقد كانت شخصيَّته نقيَّةً طيِّبة، وكان زرعه صالحًا طاهرًا، وقد كتَب اللهُ للبذرة التي ألقاها البقاءَ لأكثر من ستَّة قرون، فلم تكن الدولة العثمانية التي أنبتها دولةً عادية؛ بل كانت دولةً مؤثِّرةً غاية التأثير، حتى ظلَّ تأثيرها باقيًا بعد سقوطها بمائة سنةٍ وأكثر.


أرطغرل والبداية

قصَّة أرطغرل من القصص المثيرة العجيبة، وتبدأ هذه القصَّة برَجُلٍ بسيطٍ يترأَّس عائلةً من العائلات التركيَّة التي كانت لا تزيد عن أربعة آلاف إنسانٍ على أكثر تقدير [1]، ولم يكن هذا الرجل مشهورًا في زمانه، وكان من الممكن أن تكون قصَّته من ضمن آلاف وملايين القصص التي تندرس مع مرور التاريخ، لولا أنَّ الله كتب لذريَّته البقاء والذكر.
هذا الرجل هو أرطغرل التركي، الذي تُنسج حول قصَّته آلاف الأساطير والحكايات؛ فقد جاء من أقصى شرق العالم، حيث الموطن الأصلي للأتراك، إلى أقصى غرب آسيا في منطقة الأناضول، ليُؤسِّس هناك النواة التي قامت على أكتافها الدولة العثمانية العملاقة.


تذكر بعض الروايات أنَّه كان من العائلات التي هاجرت من منطقة التركستان عند ظهور جنكيز خان والدولة المغولية هناك، واتَّجه نحو الغرب حتى وصل إلى الأناضول، وهناك وجد مصادفةً معركةً دائرةً بين سلطان سلاجقة الروم علاء الدين كيكباد الأوَّل وجيشٍ آخر، فانضمَّ أرطغرل بجيشه إلى علاء الدين، ولمـَّا حدث الانتصار لعلاء الدين أعطاه إقطاعيَّةً هديَّة [2]، وتذكر بعض الروايات الأخرى أنَّ هذه المعركة التي اشترك فيها أرطغرل كانت بين سلاجقة الروم المسلمين والجيش البيزنطي، وأنَّ أرطغرل انضمَّ إلى الجيش المسلم نخوةً وحميَّةً للدين [3]، وقد كانت الإقطاعيَّة التي أهداها علاء الدين إلى أرطغرل تقع في أقصى غرب الأناضول في منطقة سوجوت [4]، على حدود الدولة البيزنطيَّة [5]، وهكذا وضع أرطغرل حجر أساس الدولة العثمانية [6].


وقد ظفر أرطغرل بلقب "أوج بكي"؛ أي محافظ الحدود، وكان منح هذا اللقب يتماشى مع التقاليد التي درجت عليه الحكومة السلجوقيَّة، وهو مَنْحُ أيّ رئيس عشيرة يَعْظُم أمره ويَلْحَق به عددٌ من العشائر الصغيرة، لقبَ محافظ الحدود [7].

ماذا فعل أرطغرل في الإمارة الجديدة؟!

الواقع أنَّ المعلومات المتوافرة عن أرطغرل قليلة، ومع ذلك فإنَّنا نستطيع أن نُكَوِّن فكرةً عن طبيعته الشخصيَّة وطريقته في إدارة أموره وأمور عائلته من بعض الملاحظات التي نجدها في القَدْرِ اليسير الذي وصل إلينا..
كان أرطغرل في الأربعين من عمره عندما تسلَّم إقطاعيَّته الجديدة، وعاش طويلًا؛ إذ ظلَّ حاكمًا لهذه الإقطاعيَّة مدَّة خمسين سنةً كاملة! أي أنَّه مات في التسعين تقريبًا، وقد استطاع في هذه الفترة أن يُضاعف حجم إقطاعيَّته من ألفي كيلومتر مربع إلى أربعة آلاف كيلومتر مربع أو يزيد قليلًا [8]، وكانت كلُّ هذه الزيادة من الأراضي البيزنطيَّة حوله.

أرطغرل القائد الحكيم

كان أرطغرل حكيمًا في آرائه، هادئًا في انفعالاته، متَّزنًا في تصرُّفاته؛ فهو لم يندفع للتوسُّع داخل الدولة البيزنطيَّة أو في الإمارات الإسلاميَّة المجاورة له؛ إنَّما توسَّع ببطء شديد، مُقَدِّرًا في ذلك حجمه الصغير بالقياس إلى القُوَى العملاقة التي تُحيط به، فزادت مساحة إقطاعيَّته مرَّتين دون أن يُثير غائلة مَنْ حوله، فحافظ بذلك على وجوده خمسين سنةً كاملة.


وكان صاحب نزعة إسلاميَّة واضحة، وظهر ذلك في عدَّة أمور؛ منها:
- حُسن تربيته لابنه عثمان وإخوته على حبِّ الدين وأهله.
- عدم تعدِّيه على جيرانه المسلمين ولو رأى منهم ضعفًا.
- حرصه على بناء المساجد في القرى الصغيرة التي أسَّسها في إقطاعيَّته.

كان -أيضًا- في كلِّ حياته تابعًا لسلطان السلاجقة [9]، فظلَّ على ولائه لهم، ولم يرد أن يشقَّ عصا الطاعة ويُفَرِّق المسلمين، فكان مثالًا للقائد الحكيم الذي يُقَدِّر قوَّته، ولا يُهدرها فيما لا يفيد، ولكونه كان تابعًا طوال حياته لسلطان السلاجقة فإنَّ الدولة التي أسَّسها أولاده بعد ذلك لم تُنْسَب إليه قط؛ وإنَّما نُسِبَت إلى ابنه عثمان.


كان أرطغرل شخصيَّةً نقيَّةً طيِّبة، وكان زرعه صالحًا طاهرًا، وقد كتَب اللهُ للبذرة التي ألقاها هذا الرجلُ الصالحُ البقاءَ لأكثر من ستَّة قرون، فلم تكن الدولة العثمانيَّة التي أنبتها دولةً عاديَّةً عاشت على هامش التاريخ؛ بل كانت دولةً مؤثِّرةً غاية التأثير، حتى ظلَّ تأثيرها باقيًا في الدنيا حتى بعد سقوطها بمائة سنةٍ وأكثر، وكانت كالشجرة العظيمة التي انتشرت فروعها في السماء.. قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [إبراهيم: 24، 25].

وفاة أرطغرل

وبعد خمسين عامًا من الحكم تُوفي أرطغرل القائد العظيم، وكانت وفاته سنة (1281م=680هـ)، عن عمر يُناهز التسعين عامًا، تاركًا زعامة الإقطاعيَّة من بعده إلى ابنه عثمان[10].



[1] يلماز أوزتونا: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة عدنان محمود سليمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، تركيا، إستنابول، 1988م، 1/88.
[2] إسماعيل سرهنك: حقائق الأخبار عن دول البحار، مطابع الأميرية، بولاق، مصر، الطبعة الأولى، 1312ه، 1/483، وانظر: محمد فريد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1401ه=1981م، ص115، وإبراهيم بك حليم: تاريخ الدولة العثمانية العلية (التحفة الحليمية في تاريخ الدولة العلية)، مؤسَّسة الكتب الإثقافيَّة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1408ه=1988م، ص31.
[3] محمود شاكر: التاريخ الإسلامي، المكتب الإسلامي، الطبعة الرابعة، 1421ه=2000م، 8/60.
[4] انظر: صلاح ضبيع: مقال بعنوان: "العلاقات العثمانية – البيزنطية"، مجلة الاجتهاد، العددان 41، 42، 1419هـ= 1999م، ص178.
[5] أحمد شلبي: موسوعة التاريخ الإسلامي، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة السابعة، 1986م، 5/814.
[6] يلماز أوزتونا: تاريخ الدولة العثمانية، 1/87.
[7] محمد سهيل طقوش: تاريخ العثمانيين، دار النفائس، الطبعة الثالثة، 1434هـ= 2013م، ص25.
[8] يلماز أوزتونا: تاريخ الدولة العثمانية، 1/87.
[9] إسماعيل سرهنك: حقائق الأخبار عن دول البحار، 1/484.
[10] محمد سهيل طقوش: تاريخ العثمانيين، ص26.
قصة الإسلام