جهاد النفس ...
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾
صدق الله العلي العظيم
نتحدث هنا عن النفس المطمئنة في محورين:
في بيان قوى النفس.وفي بيان حقيقة جهاد النفس.المحور الأول: قوى النفس.
الفلاسفة يقولون: هناك عالم خلق وهناك عالم أمر، وهذا مأخوذ من القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾، عالم الخلق هو الموجود الذي يوجد ضمن مادة ومدة، مثل الجسم، جسم الإنسان لا يوجد إلا في مادة وفي مدة معينة، الموجود الذي يوجد في مادة ومدة من عالم الخلق، أما الموجود الذي يوجد بنفس الأمر الإلهي، بدون واسطة مادة ولا مدة، هذا يسمى بعالم الأمر، ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، الذي يكون بعد كن بلا مادة وبلا مدة فهو من عالم الأمر، الروح - النفس الإنسانية - من عالم الأمر، النفس الإنسانية توجد بإفاضة إلهية منه تبارك وتعالى، ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾، نفخ الروح إفاضة الحياة، النفس توجد بإفاضة الحياة، بالنفخ، وهذه الإفاضة الدفعية هي التي جعلت النفس من عالم الأمر.
ولذلك نلاحظ أن القرآن الكريم عبّر عن النفس بالأمر، قال:﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ ولم يقل: من خلق ربي، إذن الروح من عالم الأمر الذي يوجد بلا مدة ولا مادة. هذه الروح الجوهر المجرد الذي يتعلق بهذا البدن تعلق الشعاع بالمصباح، تعلق الطاقة الكهربائية بالأدوات الكهربائية، تحرك هذا البدن، تبث فيه الحياة، تبث فيه الطاقة، تبث فيه الحيوية، هذه النفس التي تصرّف هذا البدن لها عدة قوى، هناك تقسيمان عند علماء العرفان لقوى النفس.
التقسيم الأول: النفس تنقسم إلى نفس أمارة ونفس لوامة ونفس مطمئنة.
النفس الأمارة هي مجموعة شهوات وغرائز تلح على الإنسان أن يشبعها وأن يغذيها، شهوة الجنس، شهوة الطعام، الشهوة وراء المال، ﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾، الشهوات والغرائز يعبّر عنها بالنفس الأمارة.
القسم الثاني: النفس اللوامة، القرآن الكريم يقول: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾، هناك محكمة داخلية في الإنسان كما أن هناك محكمة خارجية، المحكمة الخارجية التي ستحاسب الإنسان، ستحاكم الإنسان على تصرفاته وعلى أعماله هي يوم القيامة، قدّمها في الذكر، ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ المحكمة الخارجية، وهناك محكمة داخلية، هناك ضمير ينادي داخل الإنسان، هناك نزعات وميول داخل الإنسان، إذا عمل الإنسان حسنة شجعته، وإذا عمل سيئة وبّخته، هذه الميول والنزعات التي توبّخ الإنسان تسمى بالضمير، تسمى بالنفس اللوامة، هي المحكمة الداخلية التي أشار إليه القرآن الكريم: ﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾.
القسم الثالث: النفس المطمئنة، النفس التي وثقت بالله، واثقة بأن الله لا يصنع معها إلا ما هو صالح لا، لا يفعل معها إلا ما هو صالح لها، ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾، المؤمن هو من يتوكل على الله، هو من يثق بالله، هو من يطمئن بأن الله لا يفعل معه إلا ما هو صالح له، النفس المطمئنة هي النفس الواثقة بالله، الراضية بقضاء الله وقدره، المرضية عند الله لقربها منه وثقتها به، ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾، والنفس المطمئنة هي التي عبّر عنها القرآن الكريم: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، ليس عندهم أي حزن، ليس عندهم أي قلق، ليس عندهم أي تردد وأي تأرجح، لأنهم واثقون بربهم ألا يصنع بهم إلا ما هو صالح لهم.
عندنا تقسيم آخر لقوى النفس: النفس لها عدة قوى: القوة السبعية، والقوة الشهوية، والقوة العاقلة.
القوة الأولى: القوة السبعية.
هي قوة الانتقام، الإنسان إذا أثير يستثير، إثارة الإنسان تحركه، تولد عنده استثارة، تولد عنده انتقامًا، هذه القوة التي تحرّك الإنسان إذا استثير تسمى بالقوة الغضبية أو القوة السبعية، هذه القوة لها إفراط ولها تفريط، إذا أفرط الإنسان في الغضب كان متهورًا. وإذا فرّط الإنسان بأن لم يغضب من أي شيء فهو إنسان جبان، كما أن الغضب.. كما ورد عن النبي محمد : ”الغضب جمرة الشيطان، توقد في قلب ابن آدم“، وكما ورد عن الإمام أمير المؤمنين : ”إن لم تكن حليمًا فتحلّم“، كذلك الإنسان الذي لا يغضب أصلًا، هذا إنسان مذموم، ورد عن أمير المؤمنين : ”من أُغْضِب فلم يغضب فهو حرام“، فالقوة السبعية تعيش بين إفراط وتفريط، المطلوب من الإنسان المنطقة الوسط، وهي الشجاعة، لا تهور ولا جبن.
القوة الثانية: القوة الشهوية.
شهوة الجنس، شهوة الطعام، شهوة المال، هذه المجموعة من الشهوات والغرائز هي قوة أخرى من قوى النفس تسمى بالقوة الشهوية، أيضًا لها جانبان: جانب إفراط، الإنسان يفرط في إشباع الشهوة، يفرط في الاسترسال وراء الشهوة، والانقياد للشهوة، كما ورد عن الرسول محمد : ”مثل الحريص على الدنيا - الذي يسترسل وراء شهواته وغرائزه - كمثل دودة القز، كلما ازدادت على نفسها لفًا كان أبعد لها من الخروج“، الإنسان الحريص على الدنيا، كما ورد عن الإمام
على الدنيا المفرط في الاسترسال وراء شهواته، هذا قد بلغ مرحلة الشره، هذا إفراط.
وأما التفريط، وهو أن الإنسان لا يشتهي شيئًا، لا ينجذب إلى شيء، لا يستمتع بشيء، هذا أيضًا مرض، هذا المرض الذي هو مقابل الشره يسمى بالخمود، وهناك منطقة وسطى هي المطلوبة ألا وهي مرحلة العفاف، العفاف مرحلة وسط، يشبع الإنسان غرائزه بالطرق المباحة، وبالطرق العقلائية المعروفة، ولا يسترسل وراء غرائزه، ولا يسحقها سحقًا تامًا.
القوة الثالثة: القوة العاقلة، القوة المفكرة.
القوة العاقلة أيضًا لها إفراط وتفريط، إذا أفرطت صار الإنسان يستخدم عقله في السحر، في الشعوذة، في تدمير البشرية، في تدمير الأمة التي تعيش على الأرض، هذا يسمى جربزة، وأما إذا فرّط في استخدام العقل، غلّف عقله، غلّف تفكيره، جعل تفكيره مغلّفًا جامدًا لا يتحرك، يسمع كل ما يقال له، يصدّق كل ما يُطْرَح عليه، لا يحاول أن يتأمل، لا يحاول أن يفكّر، هذا الإنسان يعيش مرحلة البلادة. إذن الإنسان يحتاج إلى مرحلة وسط، لا جربزة ولا بلادة، ألا وهي مرحلة الحكمة، أن يكون حكيمًا، أن يفكّر بالطرق المعقولة، أن يفكّر فيما ينفع الناس.
ليس من يطوي طريقًا بطلًا
فاتق الله فتقوى الله ما إنما يتقي الله البطل
جاورت قلب امرئ إلا وصل
البطولة ليست بأن تمتلك جسمًا مفتول العضلات، أن تمتلك جسمًا رياضيًا يحمل الحديد ويصارع الأعداء، البطولة أن تمتلك إرادة حديدية تقف أمام الشهوات، تقف أمام الغرائز، تقف أمام كل ما يدعوك إلى المعصية، وكل ما يدعوك إلى الرذيلة. إذن، وصول الإنسان إلى أن يكون نفسًا مطمئنة، راضية مرضية، وصول الإنسان إلى مرحلة العدالة، بأن يسيطر على القوة الشهوية، والقوة الغضبية، والقوة العاقلة، بأن يكون للإنسان عقلٌ فوق عقله، عقل يراقب عقله، عقل يراقب شهوته، عقل يراقب غضبيته، وصول الإنسان إلى هذه المرحلة يحتاج إلى أن يمتلك إرادة حديدية يستطيع من خلالها أن يوجّه النفس نحو العدالة والتقوى، نحو الطريق الوسط، ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾.
كيف يمتلك الإنسان قوة الإرادة؟ كيف يمتلك الإنسان القوة التي من خلالها يصارع الشهوات ويصارع الغرائز وينتصر على ميوله ونزعاته الشيطانية؟ كيف يجعل الإنسان من نفسه إنسانًا؟ هذا ما سنتحدث عنه في الحلقة القادمة، عن أدوات الجهاد، وعن أدوات الصراع مع النفس، وعن أدوات الانتصار على النفس الأمارة بالسوء.