الامام علي بن موسى الرضا عليه السلام
غريب طوس وأنيس النفوس الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام):
ولادته :
ولد الإمام (عليه السلام) في المدينة في اليوم الحادي عشر من شهر ذي القعدة عام (148) هـ .
وامه نجمه ( وتسمى تكتم ) وتوفي والده وعمره (35) سنة أي في سنة 183 هجرية ، وتولى منصب الإمامة آنذاك .
إمامته:
وقد كانت إمامته بتعيين وتصريح من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شأنه في ذلك شأن سائر الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، وقد أعلنها والده الإمام الكاظم (عليه السلام) فعندما القي القبض على الإمام الكاظم (عليه السلام) واودع السجن قام بتعيين ثامن أئمّة الحق وحجة الله بعده في الارض، حتى ينتشل أتباعه والطالبين للحق من الظلام ويحفظهم من الإنحراف والضلال.
يقول ( المخزومي ) :
لقد أحضرنا الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) عنده وقال: (أتعرفون لمإذا أحضرتكم ؟)
قلنا له : كلاّ!
قال : (أحببت ان تشهدوا على انّ إبني هذا ـ واشار إلى الإمام الرضا (عليه السلام) ـ هو وصيي وخليفتي … (عليه السلام)).
يقول ( يزيد بن سليط ) :
كنّا ذاهبين إلى مكة لأداء العمرة، فواجهنا الإمام الكاظم في اثناء الطريق، فقلت له (عليه السلام) :
أتعرف هذا الموضع؟
قال: (بلى وهل تعرفه أنت ؟)
قلت: بلى أنا ووالدي لقيناكم أنت ووالدك الكريم الإمام الصادق (عليه السلام) في هذا المكان وقد كان يرافقكما سائر اخوتك أيضاً، فقال أبي للإمام الصادق :
فداك أبي وأمي انتم جميعاً ائمتنا الطاهرون ولا يسلم احد من الموت فقل لي شيئاً انقله للآخرين حتى لا يضلوا.
فقال له الإمام الصادق (عليه السلام) : (يا أبا عمارة ! هؤلاء اولادي وهذا اكبرهم ـ واشار اليك ـ وقد اجتمع فيه الحكم والفهم والسخاء، وهو عالم بكل ما يحتاج إليه الناس، ومطلع على جميع الشؤون الدينية والدنيوية التي يختلف فيها الناس، وهو يتمتع بأخلاق رفيعة ويعد بأبا من ابواب الله …) .
وعندئذ قلت للإمام الكاظم (عليه السلام) : فداك أبي وأمي، علمني أنت أيضاً كأبيك ( بمعنى عرفني على الإمام الذي يليك ).
وبعد ان قام الإمام بتوضيح للإمامة وانها أمر آلهي وان الإمام يتم تعيينه من قبل الله تعالى والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال (عليه السلام) الأمر إلى ابني عليّ سَمِيّ عليّ وعليّ ).
وهو يقصد ان اسم هذا الوالد يشبه اسم علي بن أبي طالب واسم علي بن الحسين (عليهما السلام).
ولما كان الاضطهاد سائداً في المجتمع الإسلامي في ذلك الزمان فقد أكدَّ الإمام الكاظم (عليه السلام) في خاتمة كلامه على ( يزيد بن سليط ) بقوله: (يا يزيد! احتفظ بما قلته لك فهذه امانة ولا تكشفها الا لمن تعرف صدقه وتطمئن إلى إيمانه).
يقول ( يزيد بن سليط ) ذهبت إلى الإمام الرضا (عليه السلام) بعد استشهاد والده الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام)، وقبل ان اتحدث بشيء ابتدأني الإمام بقوله: (يا يزيد أتذهب معي إلى العمرة ؟)
قلت : فداك أبي وامي، ان الأمر اليك، لكنني لا املك نفقات السفر.
فقال : (أنا أتحمل نفقات سفرك).
فرافقناه (عليه السلام) في الطريق إلى مكة، ولما وصلنا إلى ذلك المكان الذي لقينا فيه الإمام الصادق والإمام الكاظم سابقا قمت بشرح قصة لقائنا للإمام موسى بن جعفر وما سمعته منه للإمام الرضا (عليه السلام) … . ( اعلام الورى ص 305 ، الكافي ج1 ص 316).
أخلاق الإمام الرضا (عليه السلام) وسلوكه :
لقد عاش أئمتنا الطاهرون (عليهم السلام) بين الناس ومعهم، وقد علَّموا الناس عملياً درس الحياة والطهارة والفضيلة، وكانوا قدوة واُسوة للآخرين، ومع ان مقام الإمامة الرفيع كان يميزهم من الآخرين، فهم الذين اصطفاهم الله وحججه في الارض لكنّهم في نفس الوقت لم يبتعدوا عن الأفق الاجتماعي ولم ينفصلوا عن الناس ولم يختصوا انفسهم بشيء كما يفعل الجبارون والمتسلطون ولم يدفعوا الناس اطلاقاً للعبودية والانحطاط ولم يشعروهم بالحقارة …
يقول ( ابراهيم بن العباس ) :
ما رأيت الإمام الرضا (عليه السلام) أبداً وهو يجفو في الحديث مع أحد، ولم اشاهده اطلاقاً يقطع حديث أحد قبل ان يتم كلامه، وما كان يرّد محتاجاً إذا كان يستطيع قضاء حاجته، ولم يمد رجله بحضور الآخرين، ولم اره اطلاقا يقسو في الكلام مع خدمه مغلمانه، ولا يضحك قهقهة وإنّما بصورة تبسم، وإذا فرشت مائدة الطعام فهو يدعوا إليها جميع افراد البيت وحتى الحارس والمشرف على الحيوانات، فهؤلاء جميعاً كانوا يتناولون الطعام مع الإمام. وكان لا ينام في الليل الا قليلاً، وأما اغلب الليل فقد كان مستيقظاً فيه، وكثير من الليالي يحييها حتى الصباح ويقضيها في العبادة، وكان يصوم كثيراً ولا يترك صيام الأيام الثلاثة من كل شهر، وكثيراً ما يقوم بأفعال الخير والانفاق بصورة سرّيّة، وفي الغالب كان يساعد الفقراء خفية في الليالي الحالكة الظلام ( اعلام الورى ص 314).
يقول ( محمد بن أبي عباد) :
كان فراشه (عليه السلام) حصيراً في الصيف وقطعة من السجاد الصوفي في الشتاء، وأما ملابسه فقد كانت غليظة وخشنة ـ في داخل البيت ـ ، وعندما كان يساهم في المجالس العامة فانه يجمل نفسه ويلبس الملابس الجيدة والمتعارفة ( اعلام الورى ص 315).
وفي إحدى الليالي نزل عنده ضيف، وفي اثناء الحديث طرأ خلل على المصباح الذي كانوايستضيئون به فمد الضيف يده لكي يصلح المصباح فلم يدعه الإمام وإنّما قام هو بالمهمة قائلاً : نحن أناس لا نستخدم ضيوفنا (الكافي ج6 ص 283).
وفي إحدى المرات استعان شخص بالإمام في الحمام ـ وهو لا يعرفه ـ في إزالة الاوساخ عن جسمه، فاستجاب الإمام (عليه السلام) وبدأ ينظف جسم ذلك الرجل، فجاء الآخرون إليه وبينوا له أن هذا هو الإمام، فأخذ الرجل يعتذر إليه وقد استولى عليه الخجل، الا ان الإمام مضى في مهمته غير ملتفت إلى اعتذاره وكان يسليه بانه لم يحدث أي شيء ( المناقب ج4 ص 362).
وجاء شخص للإمام قائلاً له: والله ليس هناك على الارض من يصل اليكم في الفضيلة وشرف الأبا ء.فردّ الإمام: (ان التقوى شرفتهم وطاعة الله سبحانه كرمتهم) ( عيون اخبار الرضا ج2 ص 174).
يقول رجل من أهل بلخ : كنت مرافقاً للإمام الرضا خلال سفره إلى خراسان، وفي احد الأيام جاءوا بالمائدة فدعا الإمام (عليه السلام) إليها جميع الخدم والغلمان وحتى ذوي البشرة السوداء ليشاركوه في الطعام، فقلت للإمام: فداك نفسي ، أليس من الافضل ان يجلس هؤلاء إلى مائدة منفصلة. فقال لي : (إلزم السكوت فربّ الجميع واحد وابونا واحد وأمنا واحدة، والثواب أيضاً يكون على الأعمال) ( الكافي ج8 ص 230).
يقول ( ياسر ) وهو خادم للإمام :
لقد أوصانا الإمام الرضا (عليه السلام) بأنني إذا وقفت على رؤوسكم (ودعوتكم لعمل من الاعمال ) وكنتم مشغولين بتناول الطعام فلا تنهضوا حتى تتموا طعامكم، ولهذا فكثيرا ما كان يصادف أن ينادينا الإمام فنجيبه بأننا مشغولون بتناول الطعام، فيقول (عليه السلام) : (دعوهم حتى ينتهوا من طعامهم) ( الكافي ج6 ص 298).
وفي احد الأيام جاء إلى الإمام غريب فسلَّم عليه وقال: أنا من محبيك ومحبي أبا ئك واجدادك وقد عدت من حج بيت الله الحرام ونفدت أموالي التي كنت أحملها معي، فإن كنت راغباً فتلطف عليّ بمبلغ من المال يوصلني إلى وطني، فإذا وصلت فسوف اتصدق على الفقراء بما يعادله بالنيابة عنك، لأنّني لست فقيراً في بلادي وقد ألَمَتْ بي الحاجة في السفر.
فنهض الإمام وذهب إلى غرفة أخرى وجاء بمائتي دينار وآخرج يده من فوق الباب ونادى ذلك الشخص قائلاً له: (خذ هذه المائتين من الدنانير واجعلها زاد سفرك وتبرك بها، وليس من الضروري ان تتصدق بما يعادلها…).
فأخذها الرجل وانصرف، وخرج الإمام من تلك الغرفة وعاد إلى مكانه الاول، ولما سُئل الإمام لمإذا تصرفت بهذه الصورة بحيث لايراك الرجل أثناء أخذه الدنانير؟
أجاب (عليه السلام): (حتى لا ارى في وجهه ذلّ السؤال وحياءه …) ( المناقب ج4 ص 360).
فأئمتنا المعصومون لم يكتفوا بالقول في مجال تربية اتباعهم وهدايتهم، وإنّما كانوا يهتمون بهم في مجال اعمالهم ويراقبوتهم بصورة خاصة، وينبهونهم على أخطائهم خلال مسيرة الحياة حتى يكفوا من الانحراف ويعودوا إلى الرشد، وحتى يتعلم الآخرون والمستقبليون أيضاً.
يقول ( سليمان الجعفري ) وهو من أصحاب الإمام الرضا (عليه السلام): كنت عند الإمام لبعض الشؤون، ولما انتهى غرضي اردت ان استأذن فقال لي الإمام: (كن معنا هذه الليلة).
فذهبت مع الإمام إلى البيت، وكان وقت الغروب، فوجدنا غلمان الإمام منهمكين في البناء ولاحظ الإمام بينهم شخصاً غريباً ، فسأل : (من هو الرجل ؟)فقيل له : جئنا به ليساعدنا وسوف ندفع إليه شيئا. فقال (عليه السلام): (هل عينتم أجره ؟) قالوا : كلا! انه يرضى بأي شيء نعطيه ، فغضب الإمام وتألّم وإتَجَهت إلى الإمام وقلت له: فداك روحي لا تؤذ نفسك… قال: (لقد نبهتهم عدة مرات على ان لا ياتوا بأحد لعمل الا إذا كانوا قد عينوا أجره من قبل واتفقوا معه على شيء محدد. فمن ينجز عملاً بدون اتفاق سابق وأجر معين فحتى لواعطيته ثلاثة اضعاف اجره فهو يتخيل إنك أعطيته أقل من أجرته، لكنَك إذا إتفقت معه على شيء فان اعطيته ذلك المقدار المعين فسوف يكون راضياً منك لانّك قد نفذت الاتفاقية، وان زدت في العطاء على المقدارالمعين ـ وان كان الزائد شيئا بسيطاً وقليلاً ـ فسوف يعرف انك قد زدته فيغدو شاكراً) ( الكافي ج5 ص 288).
ينقل أحمد بن أبي نصر البزنطي ـ وهو يعد من كبار أصحاب الإمام الرضا (عليه السلام) : لقد ذهبنا إلى الإمام أنا وثلاثة آخرون من أصحابه، وجلسنا عنده ساعة، ولما أردنا العودة قال لي الإمام:
(يا أحمد! اجلس انت) ، فذهب رفقائي وبقيت أنا عند الإمام، وكانت لدي بعض الأسئلة فانتهزت الفرصة وسألته عنها فأجابني ، وقد انقضى شطر من الليل، فأردت أن استأذن منه، فقال لي: (أتذهب أَم تبقى عندنا؟)
فقلت: كما تأمرني، ان احببت ان ابقى بقيت، وان أمرتني بالمغادرة غادرت ، قال: (ابق هنا، وهذا هو فراشك) ( وأشار إلى لحاف موجود هناك) ، وعندئذ نهض الإمام وذهب إلى غرفته ، فسجدت أنا من شدة الشوق وقلت: الحمد لله على ان حجة الله في الارض ووارث علوم الأنبياء قد اختصني بهذا المقدار من الحبّ واللطف من بين هؤلاء أشخاص الذين جاءوا لزيارته.
وكنت في اثناء السجود فعرفت ان الإمام قد عاد إلى الغرفة التي أنا فيها فنهضت ، وأمسك الإمام بيدي وضغط عليها قائلاً :
(يا أحمد ! ان أمير المؤمنين (عليه السلام) ذهب إلى عيادة “صعصعة بن صوحان” ( وهو من أصحابه المقربين ) ولما أراد الانصراف قال له: يا صعصعة! لا تفخر على إخوانك بأنني قد جئت إلى عيادتك “أي إنّ عيادتي لك لا ينبغي ان تدفعك لتعد نفسك افضل منهم ” ولا تنس الخوف من الله وكن تقياً وَرِعاً وتواضع لله وعندئذ يمنّ عليك الله بالرفعة والعلوّ) ( معجم رجال الحديث ج2 ص237، رجال الكشي ص 588).
فالإمام (عليه السلام) بهذا التصرف وهذا الكلام قد حذره بان أي عامل لا يمكن ان يحل محل صياغة الذات وتربية النفس والعمل الصالح، ولا ينبغي للانسان ان يستولي عليه الغرور بسبب أي امتياز يكسبه، وحتى القرب من الإمام وعنايته وحبه لا ينبغي ان يصبح وسيلة للتفآخر والمباهاة والاحساس بالعلو والارتفاع على الآخرين.
موقف الإمام في مقابل جهاز الخلافة : عاصر الإمام علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) خلال فترة إمامته خلافة هارون الرشيد وولديه “الأمين” و “المأمون” كانت عشر سنوات منها مقارنة للسنين الأخيرة من سلطة هارون، وخمس سنوات مع حكومة الأمين وخمس سنوات مع حكومة المأمون.
الإمام في زمان هارون : تجاهر الإمام الرضا (عليه السلام) بإمامته بعد استشهاد والده الإمام الكاظم واظهر دعوته وأعلن من دون خشية انه قائد للأمة.
وقد كان جو المجتمع السياسي في زمان هارون يتميز بالاضطهاد والضغط بحيث خاف على مصير الإمام اقرب أصحابه من هذه الصراحة والجرأة.
يقول ( صفوان بن يحيى ) :
لقد تحدث الإمام الرضا (عليه السلام) بعد استشهاد والده بحديث خفنا منه على روحه فقلنا له: انك اظهرت أمراً كبيراً ونحن خائفون عليك من هذا الطاغوت ( هارون ) ، قال (عليه السلام): ( مهما أراد فليحاول، فانه لا سبيل له عليّ) ( الكافي ج1 ص 487).
يقول ( محمد بن سنان ) : قلت للإمام الرضا (عليه السلام) في عصر هارون :
إنَّك شهرت نفسك بهذا الأمر “أي الإمامة” وجلست في مكان ابيك، بينما سيف هارون يقطر دماً!
فقال: (إن الذي جرّاني على هذا الفعل هو قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) :
( لو استطاع ابوجهل ان ينقص شعرة من رأسي فاشهدوا بأنني لست نبياً ) وانا اقول: ( لو استطاع هارون ان ينقص شعرة من رأسي فاشهدوا بأنني لست إماماً) ( الكافي ج8 ص 257).
وقد تحقق ما تنبأ به الإمام فهارون لم تسنح له الفرصة لتهديد حياة الإمام بالخطر، وبسبب حدوث اضطرأبا ت في شرق ايران فقد اضطر هارون ليقود جيوشه نحو خراسان وقد ألم به المرض في اثناء الطريق ومات في طوس عام 193 هجرية، وبذلك فقد تخلص الإسلام والمسلمون من هذا الرجل المنحط وأمنوا من فتكه.
الإمام في عصر الأمين :
وبعد موت هارون حدث صراع شديد على الخلافة بين الأمين والمأمون، فقد عيّن هارون الأمين خليفة من بعده، وانتزع منه عهداً على ان يكون المأمون خليفة بعده، واشترط عليه ان يسند للمأمون حكومة ولاية خراسان في زمان خلافة الأمين، الا ان الامين بعد موت هارون وفي عام (194) هجرية عزل المأمون عن ولاية عهده ورشح لها ابنه موسى ( تاريخ ابن الاثير ج6 ص227).
وبعد صراعات دمويّة حدثت بين الامين والمأمون، فقد قتل الأمين عام (198) هجرية وتسلم المأمون بعده مقاليد الخلافة.
واستغل الإمام الرضا (عليه السلام) هذه الاوضاع طيلة فترة الصراع القائم في بلاط الخلافة وانشغالهم فيما بينهم، وبراحة بال واطمئنان خاطر انصرف إلى ارشاد اتباعه وتعليمهم وتربيتهم.
الإمام في عصر المأمون :
يعتبر المأمون بين خلفاء بني العباس اعلمهم واكثرهم مكراً وخداعاً، فقد كان متعلماً ومطلعاً على الفقه وبعض العلوم الأخرى، كما انه قد شارك في بعض جلسات البحث والمناظرة مع بعض العلماء، ومن الواضح ان احاطته بعلوم عصره كانت وسيلة لتنفيذ سياساته اللاّ انسانية، والا فانه لم يكن مقيداً بالدين الإسلامي الحنيف ولم يقلّ عن سائر الخلفاء في مجال اللهو والفسق والفجور وسائر الأفعال الشنيعة، غاية الأمر انه كان اشد احتياطاً في سلوكه من سائر الخلفاء، ويتوسل بمختلف الحيل والرياء لخداع عامة الناس، ولكي تستكحم أسس سلطته فانه كان يجالس الفقهاء في بعض الأحيان ويحاورهم في المسائل والبحوث الدينية.
ومجالسة المأمون وصداقته الحميمة مع ” القاضي يحيى بن أكثم ” ( وهو رجل ساقط منحطّ فاجر ) تعتبر افضل شاهد على فسق المأمون وانحطاطه وعدم تقيده بالدين. فيحيى بن أكثم كان مشهوراً في المجتمع بأفظع الاعمال التي يستحي القلم من بيانها، ومثل هذا الشخص يقربه المأمون إليه بحيث يصبح ( رفيق المسجد والحمام والبستان)، والاعظم من هذا ـ وهو ما يدعو للاسف الشديد ـ انه قد عينه ( قاضيا للقضاة ) للأمة الإسلامية ويشاوره الرأى في شؤون الدولة المهمة !!
وعلى أي حال ففي عصر المأمون كان يتم ترويج العلم والمعرفة بحسب الظاهر، وكان العلماء يدعون إلى مركز الخلافة، ويبذل المأمون المهبات والمشجهات للباحثين وذلك لاعداد الارضية لانجذابهم نحوه، وكان يعقد مجالس الدرس والمباحثة والمناظرة، وبذلك راجت سوق الدراسة العلمية وارتفع نجمها.
وعلاوة على هذا فقد حاول المأمون جذب الشيعة واتباع الإمام إليه من خلال القيام ببعض الاعمال، فمثلاً كان يتحدث عن أن علياً (عليه السلام) أكثر أهلية وأولى بأن يصبح خليفة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد جعل لعن معاوية وسبه أمراً رسمياً، وأعاد للعلويين ما غصب من حق فاطمة الزهراء (عليها السلام) في ( فدك ) واظهر تعاطفاً مع العلويين وحبّاً لهم (الإمام الرضا محمد جواد فضل الله ص 91 نقلاً عن تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 284 و308 ).
وأساساً فإنّ المأمون من خلال إلتفاته إلى سلوك هارون وجرائمه والآثار السيئة التي تركتها في نفوس الناس كان يحاول القضاء على أرضية الثورة التمرد، ويبذل قصارى جهده لارضاء الناس حتى يستطيع بسهولة الاستقرار على مركب الخلافة، ومن هنا لابد من القول ان الوضع العام في ذلك الزمان كان يستوجب ان يهتم برفع النقائص وما يؤذي الناس، وان يظهر بأنَّه في صدد إصلاح الأمور وهو يختلف عن الخلفاء الآخرين … .
ولاية عهد الإمام الرضا (عليه السلام) :
إنّ المأمون بعد ما تخلص من أخيه الأمين واستقر على كرسي الحكم كان يواجه ظروفاً حساسة، لان مكانته في بغداد ( التي هي مركز السلطة العباسية ولا سيما بين أتباع العباسيين الذين يريدون الامين ولا يرون حكومة المأمون التي مركزها في ( مَرْو ) منسجمة مع مصالحهم ) كانت متزلزلة جداً، ومن ناحية أخرى فإنّ ثورة العلويين كانت تُشكل تهديداً جدّياً لحكومة المأمون، وذلك لأنَّه في عام ( 199) هجرية نهض ” محمد بن ابراهيم طباطبا ” وهو من العلويين المحبوبين والعظام، وأعانه في نهضته ” أبو السرايا ” وحدثت نهضات أخرى في العراق والحجاز قامت بها مجموعات أخرى من العلويين، واستغل هؤلاء الضعف الحاصل في بني العباس تنيجة للصارع بين المأمون والأمين وما ترتب على ذلك من تبعثر النظام، فتسلطوا على بعض المدن، والمنطقة الواقعة بين الكوفة واليمن كانت كلها تقريبا تعيش حالة الاضطراب والتمرد ولم يستطع المأمون التغلب على هذه الاضطرأبا ت إلا بعد جهد عسير … .
والمأمون رجل ذكي ومكار، ولهذا فكر في اسناد الخلافة أو ولاية العهد إلى شخص كالإمام الرضا (عليه السلام) حتى يساعده على تثبيت اسس حكومته المتزلزلة، فقد كان يأمل من وراء هذه المبادرة ان يستطيع التصدي لنهضة العلويين ويوفر لهم ما يرضي طموحاتهم.
ومن الواضح ان اسناد الخلافة أو ولاية العهد للإمام كان موقفاً سياسياً مدروساً، وإلا فان من يقتل أخاه من أجل التسلط ويعيش حالة الفسق والفجور في حياته الخاصة لا يمكن ان يتحول فجأة إلى متدين زاهد بحيث يتنازل حتى عن الخلافة والسلطان ، وأفضل شاهد على كون المأمون مكاراً وخداعاً هو عدم قبول الإمام ذلك العرض منه. ولو كان المأمون صادقاً في قوله وعمله لما رفض الإمام اطلاقاً استلام زمام الخلافة وذلك لأنَّه لا يوجد من هو أنسب من الإمام لها.
وهناك شواهد تاريخية أخرى تكشف بوضوح سوء نية المأمون، ونشير هنا إلى بعض الموارد بعنوان انها نموذج فحسب:
عيَّن المأمون بعض الجواسيس على الإمام حتى يراقبوا جميع الأمور وينقلوها إليه بواسطة التقارير، وهذا بنفسه دليل على عداوة المأمون للإمام وعدم إيمانه به وعدم حسن نيته معه ونلاحظ في الروايات الإسلامية هذا النص:
( كان هشام بن ابراهيم الراشي من اقرب الناس عند الإمام الرضا (عليه السلام) بحيث انه يسير أمور الإمام، لكنّه لما جيء بالإمام إلى مَرْو اتصل هشام بـ” الفضل بن سهل ذي الرياستين ،وزير المأمون ” وبالمأمون نفسه، وتوطدت العلاقات بينهما إلى الحد الذي لم يخف عنه شيئاً، فعينه المأمون حاجباً للإمام ( وهو الذي يتولى تنظيم الدخول عليه واللقاء به ) ، ولم يكن هشام يسمح لأحد بالدخول على الإمام إلا لمن يرغب وكان يتشدد مع الإمام ويضيق عليه. حتى انّ أصحاب الإمام وأتباعه المخلصين لم يكونوا قادرين على لقائه، وكل ما يتحدث به الإمام في بيته كان هشام ينقله إلى المأمون والفضل بن سهل … ) ( حياة الإمام الرضا، لجعفر مرتضى الحسيني ص 213،214 ، البحارج49 ص 139، ومسند الإمام الرضا ج1 ص 77،78، وعيون الاخبار ج2 ص 153).
يقول ( أبو الصلت ) في مجال عداوة المأمون للإمام:
كان الإمام (عليه السلام) يناظر العلماء ويتغلب عليهم ، فيقول الناس: والله انه أولى بالخلافة من المأمون، فيتلقف الجواسيس هذا الأمر وينقلونه إلى المأمون ( حياة الإمام الرضا ص 214 والبحار ج49 ص 290، وعيون الاخبارج2 ص 239).
ونلاحظ أيضاً ان “جعفر بن محمد بن الاشعث” كان يرسل إلى الإمام بعض الرسائل أيام كان الإمام في خراسان وعند المأمون، ويوصي الإمام ان يحرقها بعد الإطلاع عليها حتى لا تقع بيد الآخرين، والإمام يطمئنه ويقول: ” إنني احرق رسائله بعد قراءتها” ( حياة الإمام الرضا ص 214، كشف الغمة ج3 ص 92، ومسند الإمام الرضا ج1 ص 178، وعيون الخبار ج2 ص 219).
ونلاحظ أيضاً ان الإمام (عليه السلام) في تلك الأيام التي كان فيها عند المأمون ويعد في الظاهر ولياً للعهد يكتب في جواب ( أحمد بن محمد البزنطي) :
(وأما إنك طلبت الاذن في لقائي فان مجيئك إليّ صعب عسير، فهم يتشددون معي كثيراً، وهذا الأمر ليس ميسورا لي حالياً، وسوف يسهل اللقاء ان شاء الله قريباً ) ( حياة الإمام الرضا ص 215، ورجال المامقاني ج1 ص 97، وعيون الاخبار ج2 ص 212).
والأوضح من الجميع أن المأمون نفسه كان في بعض الأحيان يعترف لبعض المقربين إليه والمرتبطين به بأهدافه الواقعية لموافقه مع الإمام ويكشف بصراحة نياته الخبيثة:
يقول المأمون في جوابه ” حميد بن مهران ، وهو أحد افراد بلاطه ” وجماعة من العباسيين الذين جاءوا إليه معترضين عليه موضوع اسناد ولاية العهد للإمام الرضا :
( … إنَّ هذا الرجل كان مخفياً وبعيداً عنّا، وكان يدعوا لنفسه، ونحن أردنا أن نجعله ولي عهدنا حتى تصبح دعوته لنا، ويعترف بسلطاننا وخلافتنا، وحتى يدرك المعجبون به ان ما يدعيه لنفسه ليس فيه، وان هذا الأمر ـ وهو الخلافة ـ مختص بنا وليس له فيه نصيب ، وكنا خائفين اننا إذا تركناه وحاله ان يحدث اضطرأبا في البلاد بحيث لا نستطيع الوقوف في وجهه، فيوجد وضعاً نعجز عن مقابلته … ) ( حياة الإمام الرضا ص 364، وشرح ميمية أبي فراس ص 196، وعيون الاخبارج2 ص 170 ، والبحار ج49 ص 183، ومسند الإمام الرضا ج2 ص 96).
وبناءً على هذا فالمأمون لم يكن ذانية حسنة في اسناد الخلافة أو ولاية العهد للإمام، وإنّما كان يهدف إلى أشياء أخرى من وراء هذه اللعبة السياسية، فهو من ناحية كان يقصد ان يجعل الإمام بلونه ويلوث تقوله وقدسيّته، ومن ناحية أخرى لو أنًّ الإمام وافق على ايّ واحد من اقتراحيه ـ الخلافة وولاية العهد ـ كما أراد المأمون فانّ الأمر كان ينتهي لصالح المأمون، وذلك لأنَّه لو قبل الإمام الخلافة فسيصبح المأمون وليّ عهده ـ كما اشترط هو ذلك ـ وبهذا يؤمن لسلطته الشرعية والقانونية، ثم يتأمر في الخفاء ويقضي على الإمام، ولو قبل الإمام ولاية العهد فانه اعتراف بسلطة المأمون وابقاء لها على ما هي عليه … .
وقد اختار الإمام حلاً ثالثاً، فمع قبوله ولاية العهد بالضغط والاجبار لكنّه تصرف بأسلوبه الخاص بحيث حرم المأمون من تحقيق أهدافه في التقرب للإمام واكتساب الشرعية، وفضح للمجتمع ان هذه الحكومة طاغوت وليست حكومة إسلامية … .
من المدينة إلى مَرْو :
كما ذكرنا فالمأمون قد عزم على ان يأتي بالإمام الرضا (عليه السلام) إلى مرو لتحقيق أهدافه السياسية وارضاء العلويين الذين كان بينهم دائماً رجال شجعان وعلماء وزهاد ، وأظهر المأمون أنه محب للعلويين عموماً وللإمام (عليه السلام) بصورة خاصة، وقد تصرف المأمون بمهارة فائقة بحيث انطلى الأمر حتى على بعض الافراد من الشيعة الذين يتمتعون بقلوب طاهرة سليمة، ولهذا فان الإمام الرضا (عليه السلام) نبّه بعض أصحابه ممن يحتمل ان يتأثر بتظاهر وريائه بقوله:
( لا تغتروا بقوله ، فما يقتلني والله غيره، ولكنّه لابد لي من الصبر حتى يبلغ الكتاب أجله ) ( البحار ج49 ص 189).
أجل، لقد أمر المأمون ” فيما يتعلق بتنصيب الإمام ولياً للعهد ” عام (200) هجرية بحمل الإمام الرضا (عليه السلام) من المدينة إلى مرو (الكافي ج1 ص 498، منتهى الآمال ).
يقول رجاء بن أبي الضحاك، وهو المبعوث الخاص للمامون :
بعثني المأمون في أشخاص علي بن موسى الرضا (عليه السلام) من المدينة وأمرني ان أخذ به على طريق البصرة والأهواز وفارس، ولا أخذ به على طريق قم، وأمرني أن أحفظه بنفسي بالليل والنهار حتى أقدم به عليه فكنت معه من المدينة إلى مرو، فوالله ما رأيت رجلاً كان أتفى لله منه ولا اكثر ذكراً له في جميع اوقاته منه، ولا اشد خوفاً لله عزوجل … . (البحار ج49 ص 91، عيون اخبار الرضا ج2 ص 178).
ويقول أيضاً : عندما سرنا من المدينة إلى مرو لم نمر بمدينة الا خف أهلها إليه واستفتوه عن شؤونهم الدينية، وكان (عليه السلام) يجيبهم بأجوبة شافية كافية، ويحدثهم بكثرة مستنداً إلى أبا ئه الكرام ومنتهياً إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). ( عيون اخبار الرضاج2 ص 181، 182).
يقول أبو هاشم الجعفري :
(( لمّا بعث المأمون رجاء بن أبي الضحاك لحمل أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) على طريق الاهواز، لم يمر على طريق كوفة، فبقي به أهلها وكنت بالشرقي من ابيدج ” موضع ” فلما سمعتُ به سرت إليه بالأهواز وانتسبت له وكان أول لقائى له، وكان مريضاً، وكان زمن القيظ فقال: (ابغني طبيباً). فأتيته بطبيب فنعت له بقلة فقال الطبيب: لا اعرف احداً على وجه الارض يعرف اسمها غيرك، فمن أين عرفتها الا انها ليست في هذا الاوان ولا هذا الزمان، قال له: (فابغ لي قصب السكر)، فقال الطبيب وهذه أدهى من الاولى ما هذا بزمان قصب السكر، فقال الرضا (عليه السلام) : (هما في أرضكم هذه وزمانكم هذا، وهذا معك فامضيا إلى شاذروان الماء واعبراه فيرفع لكم جوخان ” أي بيدر ” فاقصداه فستجدان رجلاً هناك اسود في جوخانه فقولا له أين منبت قصب السكر واين منابت الحشيشة الفلانية ” لم يتذكر أبو هاشم اسمها ” فقال يا أبا هاشم دونك القوم فقمت وإذا الجوخان والرجل الاسود) قال: فسألناه فأومأ إلى ظهره فإذا قصب السكر فأخذنا منه حاجتنا ورجعنا إلى الجوخان فلم نرصاحبه فيه، فرجعنا إلى الرضا (عليه السلام) فحمد الله .
فقال لي المتطبب : ابن من هذا ؟
قلت : ابن سيد الانبياء .
قال: فعنده من اقاليد النبوة شيء؟
قلت: نعم ، وقد شهدت بعضها وليس بنبي.
قال: وصي نبيّ؟
قلت: اما هذا فنعم .
فبلغ ذلك رجاء بن أبي الضحاك فقال لأصحابه لئن اقام بعد هذا ليمدن إليه الرقاب فارتحل به)) ( بحار الانوار ج49 ص 118).
الإمام في نيشابور :
تقول السيدة التي نزل الإمام (عليه السلام) في دار جدها في نيشابور:
“جاء الإمام الرضا (عليه السلام) إلى نيشابور ونزل في دار جدي ( بسنده) الواقعة في المحلة الغربية في الناحية المعروفة بـ ( لاشأبا د )، وقد سمي جدي بهذا الاسم لان الإمام احبه ونزل في بيته.
وقد زرع الإمام بيده المباركة شجرة لوز في زاوية من بيتنا، ومن بركات الإمام انها اصبحت شجرة واثمرت خلال فترة عام واحد، وأخذ الناس يطلبون الشفاء بواسطة لوز هذه الشجرة، وكل مريض تناول منه شيئاً بقصد الشفاء فانه تحسنت صحته … ” ( عيون اخبار الرضا ج2 ص 131).
يقول ( أبو الصلت الهروي ) وهو من أصحاب الإمام المقربين:
“كنت برفقة الإمام علي بن موسى الرضا عندما أراد الخروج من نيشابور وكان راكباً على بغلة رمادية اللون وقد اجتمع حوله مجموعة من العلماء منهم ( محمد بن رافع ) و ( أحمد بن الحرث ) و ( يحيى بن يحيى ) و ( إسحاق بن راهويه) وقد امسكوا بعنان بغلة الإمام وهم يقولون: نقسم عليك بحق أبا ئك الطاهرين إلا ما حدثتنا بحديث سمعته من والدك.
فأخرج الإمام رأسه من المحمل وقال:
( حدثنا أبي، العبد الصالح موسى بن جعفر قال حدثني أبي الصادق جعفر بن محمد، قال حدثني أبي أبو جعفر بن علي باقر علوم الانبياء، قال حدثني أبي علي بن الحسين سيد العابدين، قال حدثني أبي سيد شباب أهل الجنة الحسين، قال حدثني أبي علي بن أبي طالب (عليهم السلام)، قال سمعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول سمعت جبرئيل يقول قال الله جل جلاله: إنِّي أنا الله لا اله إلا أنا فاعبدوني، من جاء منكم بشهادة أن لا اله إلا الله بالاخلاص دخل في حصني ومن دخل في حصني أمن من عذابي) ( عيون اخبار الرضا ج2 ص 132،133).
وفي رواية أخرى يقول ( إسحاق بن راهويه ) وهو احد الحاضرين ضمن هذه المجموعة :
أنَّ الإمام بعد ما ذَكَر أن الله تعالى قال: (لا اله إلا الله حصني فمن دخل حصني أمن من عذأبي ) سار قليلاً وهو راكب ثم قال لنا :
( بشروطها وأنا من شروطها ) ( عيون اخبار الرضا ج2 ص 134 ).
أي ان الإيمان بوحدانية الله ـ الذي يوجب النجاة من العذاب الالهي ـ مشروط بشروط من جملتها ولاية وإمامة الأئمة (عليهم السلام).
وهناك كتب تاريخية أخرى تنقل أن الإمام عندما كان يقرأ هذا الحديث أزدحم الناس في نيشابور ” التي كانت انذاك من مدن خراسان الكبيرة ومكتظة باسكان ومعمورة لكنّها قد تمّ تخريبها في هجوم المغول ” وكانوا بين صارخ وباك وممزق ثوبه ومتمرغ في التراب ومقبل خرام بغلته ومطول عنقه إلى مظلة المهد إلى ان انتصف النهار وجرت الدموع كالأنَّهار وسكنت الاصواب وصاحت الائمة والقضاة: معاشر الناس اسمعوا وعوا ولا تؤذوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في عترته وانصتوا فأملى صلوات الله عليه هذا الحديث وعد من المحابر أربع وعشرون ألفاً سوى الدوى … . ( البحار ج49 ص 127).
يقول ( الهروي ) :
لمّا خرج الرضا بن موسى ( (عليهما السلام) ) من نيشابور إلى المأمون فبلغ قرب القرية الحمراء، ” واسمها في اللغة الفارسية ( ده سرخ ) وهي واقعة على بعد نصف فرسخ من شريف أبا د وستة فراسخ من مدينة مشهد المقدسة ( منتخب التواريخ ص 544) ” قيل له يا ابن رسول الله قد زالت الشمس أفلا تصلي فنزل (عليه السلام) فقال: ( ائتوني بماء) فقيل: “ما معنا ماء” فبحث (عليه السلام) بيده الارض فنبع من الماء ما توضأ به هو ومن معه واثره باق إلى اليوم ( البحار ج49 ص125، عيون الاخبار ج2 ص 135).
فلما دخل سنأبا د اسند إلى الجبل الذي ينحت منه القدور فقال : ( اللَّهُم انفع به وبارك فيما يجعل فيما ينحت منه ثم أمر (عليه السلام) فنحت له قدور من الجبل ، وقال لا يطبخ ما آكله الا فيها). وكان (عليه السلام) خفيف الأكل قليل الطّعم (البحار ج 49 ص 125، عيون الاخبار 2 ص 135).
ثم دخل دار حميد بن قحطبة الطائي ودخل القبة التي فيها قبر هارون الرشيد “وهو نفس المكان الذي فيه مرقد الإمام الرضا (عليه السلام)” ثم خط بيده إلى جانبه ثم قال:
( هذه تربتي وفيها أُدفن وسيجعل الله هذا المكان مختلف شيعتي وأهل محبتي … ) ( البحار ج49 ص 125. عيون الاخبار ج2 ص 135 ـ 136).
وأخيراً فقد وصل الإمام إلى مرو وأنزله المأمون في دار خاصة معزولة عن الآخرين وبالغ في احترامه … . ( الارشاد للمفيد ص 290).
اقتراح المأمون :
أرسل المأمون رسالة إلى الإمام بعد دخوله إلى مرو يعلمه فيها أنه يريد التخلي عن الخلافة واسنادها إلى الإمام، ويطلب منه ابداء وجهة نظره.
فرفض الإمام ، فأعاد المأمون الكرَّة وأرسل راسلة أخرى يقول له فيها:
” لما كنت قد رفضت اقتراحي الاول فلابد لك من قبول ولاية عهدي” .
وتوقف الإمام تماماً من قبول هذا الاقتراح أيضاً، فأحضر المأمون الإمام عنده وخلي به في مجلس خاص وكان ( الفضل بن سهل ذوالرياستين ) حاضراً في هذا الاجتماع.
قال المأمون : “لقد استقر رأيي على ان اسند اليك الخلافة وشؤون المسلمين” فلم يقبل الإمام، وعندئذ كرر المأمون اقتراحه بولاية العهد فلم يوافق عليه الإمام أيضاً.
قال المأمون : ” لقد عيّن ( عمربن الخطاب ) للخلافة من بعده شورى تضم ستة اعضاء وكان جدك علي بن أبي طالب واحداً منهم، وقد أمر عمر بأن تضرب عنق كل من يخالف منهم، فلا مفرّ لك من قبول ما اردته منك، لانني لا اجد سبيلاً آخر ولا علاجاً آخر”.
وبهذه الطريقة فقد لوح المأمون للإمام بالموت، فاضطر الإمام لقبول ولاية العهد بالاكراه والاجبار قائلاً :
( إنّني أقبل ولاية العهد بشرط ان لا اكون أمراً ولا ناهيا ولا مفتيا ولا قاضيا وان لا اعزل ولا انصب احداً وان لا اغير شيئا ولا ابدّله).
ووافق المأمون على كل هذه الشروط ( الارشاد للمفيد ص 290).
وهكذا فرضت ولاية العهد على الإمام، والغرض من وراء هذه المؤأمرة هو ان يجعل الإمام تحت المراقبة حتى يتعذر عليه دعوة الناس إلى نفسه، والهدف الآخر هو تهدئة العلويين والشيعة حتى تستقر أسس حكومته.
يقول ( ريان بن الصلت ):
ذهبت إلى الإمام الرضا (عليه السلام) وقلت له: “يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول البعض انك قبلت ولاية عهد المأمون مع انك تظهر الزهد في الدنيا وتدعي عدم الرغبة فيها!”
قال: ( يشهد الله ان هذا الأمر لم يسعدني، لكنني وجدت نفسي بين قبول ولاية العهد والقتل فاضطررت للقبول … ألا تعرف ان ( يوسف ) كان نبي الله ولما اضطر قبل ان يكون اميناً على خزائن عزيز مصر، وهاهنا أيضاً اقتضت الضرورة ان اقبل انا ولاية العهد بالاكراه والاجبار، وعلاوة على هذا فانالم ادخل في هذا الأمر الا كمن هو خارج عنه) ” بمعنى انني بسبب تلك الشروط التي اشترطتها اكون كمن لم يتدخل في الحكومة )، اشكوا مرى إلى الله تعالى واطلب منه العون ” ( علل الشرايع ص 227 ـ 228، عيون اخبار الرضا ج2 ص 138).
يقول ( محمد بن عرفة ) : ” قلت للإمام (عليه السلام) : يا ابن رسول الله ! لمإذا قبلت ولاية العهد؟ “
قال: ( لنفس السبب الذي دعا جدي عليا (عليه السلام) للاشتراك في تلك الشورى) ( عيون اخبار الرضا ج2 ص 141).
يقول ( ياسر الخادم ) : ” لقيت الإمام (عليه السلام) بعد قبوله لولاية العهد وهو رافع يديه نحو السماء قائلاً:
( الهي انك تعلم انني قبلت بالاكراه والاجبار، فلا تؤأخذني كما لم تؤأخذ عبدك ونبيك يوسف عندما قبل ولاية مصر )” ( امالي الصدوق ص 72).
وفي مرة قال الإمام لأحد خواصه عندما لا حظ عليه السرور بسبب قبول الإمام ولاية العهد:
( لا تفرح ان هذا الأمر لن يتم وسوف لن يبقى على هذا الوضع) ( الارشاد للمفيد ص 292).
الموقف السّلبّي للإمام :
إنَّ الإمام حسب الظاهر وفي مجال القول قد قبل ولاية العهد، لكنّه لم يقبلها عملياً وفي واقع الأمر، لأنَّه قد اشترط ان لا تناط به أيّة مسؤولية وان لا يتدخل في الأمور ، وقد قبل المأمون شروطه إلا انه في بعض الاحيان كان يحاول فرض بعض الأمور على الإمام ليجعله وسيلة لتحقيق مآربه، لكن الإمام كان يقاومه بصلابة ولا يتعاون معه اطلاقاً.
يقول ( معمر بن خلاد ) : ” نقل لي الإمام الرضا (عليه السلام) ان المأمون قال لي سم لي بعض الافراد الذين تعتمد عليهم حتى اسند إليهم ولاية المدن الثائرة علي. فقلت له: ( إذا وفّيت بالشروط التي قبلتها فسوف افي انا بعهدي، فأنا قبلت هذا الأمر بشرط ان لا اكون أمراً ولا ناهياً وان لا اعزل ولا انصب وان لا اكون مستشاراً حتى يتوفاني الله قبلك، والله ما كنت افكر في الخلافة، وعندما كنت في المدينة كنت اركب على مطيتي واستخدمها في الذهاب والاياب، وكان أهل المدينة يعرضون عليّ حوائجهم فأقضيها لهم، وكنت معهم كالأعمام ( أي اننا كالاقارب يحب بعضنا بعضاً ويأنس إليه) وكانت رسائلي مقبولة ومحترمة في سائر البلاد، وانت لم تزد على النعمة التي انعم الله بها عليّ، وكل نعمة تريد اضافتها فهي أيضاً من الله تمنح لي) ، فقال المأمون : اني وفي للعهد الذي عاهدتك به ” ( عيون اخبار الرضا ج2 ص 164).
ولاية العهد :
بعد ان قبل الإمام (عليه السلام) منصب ولي العهد بالشكل المذكور سلفاً اقام المأمون حفلاً بهذه المناسبة لاعلام الناس والاستفادة من ذلك سياسيا والتظاهر بانه فرح جدّاً ومسرور، فعقد اجتماعاً في يوم الخميس مع حاشيته واعضاء بلاطه، ثم خرج ( الفضل بن سهل ) واعلن للناس رأي المأمون بالنسبة للإمام الرضا وولاية عهده، وابلغهم بأمر المأمون بان يلبسوا الملابس الخضر ( وهي الملابس المتعارفة للعلويين ) ويحضروا في يوم الخميس القادم لمبايعة الإمام … .
وفي اليوم المحدد حضر الناس بمختلف طبقاتهم اعم من اعضاء البلاط وقادة الجيش والقضاة وغيرهم وهم يرتدون الملابس الخضراء، وتقد جلس المأمون، واعدوا للإمام منصة خاصة كان يجلس عليها وهو مرتد للملابس الخضراء وعلى رأسه عمامة ويحمل معه سيفا، فأمر المأمون ابنه ( العباس بن المأمون ) ان يكون أول رجل يبايع الإمام ففعل، ورفع الإمام يده بحيث كان وجه كفه نحو وجهه وباطن كفه نحو المبايع.
فقال المأمون : “مدّ يدك للبيعة “.
قال الإمام: (هكذا كان يبايع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)).
وعندئذ بايع الناس الإمام، بينما يده كانت فوق الايدي، وقد قسمت في هذا الحفل أكياس من الاموال، وتحدث الخطباء وانشد الشعراء ما طاب لهم في مجال ذكر فضائل الإمام وفي مورد العمل الذي انجزه المأمون … .
ثم قال المأمون للإمام : “أنت أيضاً تحدث واخطب الناس “.
فقام الإمام وحمدالله واثنى عليه ثم خاطب الحاضرين : ( إن لنا حقاً عليكم من ناحية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وانتم أيضاً لكم حق علينا من اجل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والآن بعد ان أديتم لنا حقنا فعلينا أيضاً ان نحترم حقكم)، ولم يضف شيئاً آخر في ذلك المجلس.
وأمر المأمون بسكِّ الدراهم وضربها باسم ” الرضا ” ( الارشاد للمفيد ص 291،292).
إقامة صلاة العيد :
في أحد الأعياد الإسلامية كعيد الفطر أو عيد الاضحى وكان قد عُقد للرضا (عليه السلام) الأمر بولاية العهد بعث المأمون إليه في الركوب إلى العيد والصلاة بالناس والخطبة لهم فبعث إليه الرضا (عليه السلام): (قد علمت ما كان بيني وبينك من الشروط في دخول الأمر فاعفني من الصلاة بالناس) ،فقال له المأمون : ” إنّما اريد بذلك ان نظمئن قلوب الناس ويعرفوا فضلك ” ولم تزل الرسل تتردد بينهما في ذلك فلما ألحَّ عليه المأمون أرسل إليه: (إن أعفيتني فهو أحبُ إليّ وإن لمْ تعفني خرجت كما خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وامير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ) فقال له المأمون : ” أخرج كيف شئت ” وأمر القواد والحجاب والناس ان يبكروا إلى باب الرضا (عليه السلام) قال : ” فقعد الناس لأبي الحسن (عليه السلام) في الطرقات والسطوح واجتمع النساء والصبيان ينتظرون خروجه وصار جميع القواد والجند إلى بابه فوقفوا على دوابهم حتى طلعت الشمس فاغتسل أبو الحسن (عليه السلام) ولبس ثيابه وتعمّم بعمامة بيضاء من قطن القى طرفا منها على صدره وطرفا بين كتفه ومسّ شيئا من الطيب وأخذ بيده عكّازة وقال لموإليه : (افعلوا مثل ما فعلت) فخرجوا بين يديه وهو حاف قد شمر سراويله إلى نصف الساق وعليه ثياب مشمّرة فمشى قليلا ورفع رأسه إلى السماء وكبّر وكبّر موإليه معه ثم مشى حتى وقف على الباب فلما رآه القوّاد والجند على تلك الصورة سقطوا كلهم عن الدواب إلى الارض وكان احسنهم حالاً من كان معه سكين قطع بها نعله وتحفّى وكبّر الرضا (عليه السلام) على الباب وكبّر الناس معه فخيّل الينا ان السماء والحيطان تجاوبه وتزعزعت مرو بالبكاء والضجيج لما رأوا أبا الحسن (عليه السلام) وسمعوا تكبيره وبلغ المأمون ذلك فقال له الفضل بن سهل ذوالرّياستين: “يا أمير المؤمنين إن بلغ الرضا المصلّى على هذا السبيل افتتن به الناس وخفنا كلنا على دمائنا فانفذ إليه أن يرجع” فبعث إليه المأمون : ” قد كلفناك شططا واتعبناك ولسنا نحب أن تلحقك مشقة فارجع وليصلِّ بالناس من كان يصلي بهم على رسمه” ، فدعى أبو الحسن (عليه السلام) بخفه فلبسه وركب ورجع واختلف أمر الناس في ذلك اليوم” ( الارشاد للمفيد ص 213،214، عيون الاخبار ج2 ص 148، وعرف الناس نفاق المأمون وخداعه للعامة، وادركوا أن ما كان يفعله مع الإمام هو مجرد تظاهر ، وليس له من هدف سوى الوصول إلى اغراضه السّياسيّة … .
مجلس البحث والمناقشة : كان المأمون قد دبّر مؤامرة أخرى في سياسة المنافقة مع الإمام، فقد كان يتعذب من عظمة الإمام المعنوية في المجتمع ويحاول جاهداً ان يلحق به الهزيمة من خلال مواجهته للعلماء وبحجة البحث والمناقشة العلمية والانتفاع بعلم الإمام لعله بهذه الطريقة يخفض من حبّه في قلوب الناس ويقلل من أهميته في أعينهم، الا ان هذه المؤأمرة والمكر والخدعة لم تؤدّ الا إلى تجلّي عظمة الإمام للناس وفضيحة المأمون عندهم، واشرقت شمس العلم الالهي للإمام في المجالس العلمية بحيث دفعت خفّاشا خداعاً كالمأمون إلى عمى اشدّ بالتهاب نار الحسد في قلبه.
ينقل الشيخ الصدوق، وهو من اكبر فقهاء الشيعة ومحدثيهم وقد عاش قبل الف عام من الآن:
” إنَّ المأمون جمع من متكلمي الفئات المختلفة والمنحرفة افراداً وكان حريصاً على ان يحرزوا الغلبة على الإمام، وذلك بسبب ما كان يشعر به من حسد وغيظ في قلبه بالنسبة للإمام، الا ان الإمام (عليه السلام) لم يجلس مع احد للنقاشو الحوار الا واعترف في نهاية الأمر بفضيلة الإمام وانصاع لقوة استدلاله … .” ( البحار ج49 ص 175،176).
يقول النوفلي : ” أمر المأمون العباسي ( الفضل بن سهل ) أن يجمع رؤساء المذاهب المختلفة مثل ( الجاثليق ) و ( رأس الجالوت ) ورؤساء (الصابئين) و ( الهربذ الاكبر ) وأصحاب زردشت و( قسطاس الرومي ) والمتكلمين، ليسمع كلامه وكلامهم، فجمعهم الفضل بن سهل … ، وطلب المأمون من الإمام الرضا (عليه السلام) ” بواسطة ( ياسر ) الذي كان يتوّلّى شؤون الإمام ” أن يناقشهم إن أحب ذلك فأجاب الإمام : (بانه سوف يأتيهم غداً) “.
ولمّا عاد ( ياسر ) قال الإمام للنوفلي :
“يا نوفلي أنت عراقي ورقة العراقي غير غليظة، فما عندك في جمع ابن عمّك ( أي المأمون ) علينا أهل الشرك وأصحاب المقالات ؟ “
فقلت: جعلت فداك يريد الامتحان ويحب أن يرعف ما عندك، ولقد بنى على أساس غير وثيق البنيان وبئس والله ما بنى.
فقال لي: (وما بناؤه في هذا الباب ؟) ، قلت: “إنّ أصحاب البدع والكلام خلاف العلماء وذلك ان العالم لا ينكر غير المنكر، وأصحاب المقالات والمتكلمون وأهل الشرك أصحاب انكار ومباهتة، وان احتججت عليه أنَّ الله واحد قالوا: صحّح وحدانيته، وان قلت: ان محمداً رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قالوا: اثبت رسالته ، ثم يباهتون الرجل وهو يبطل عليهم بحجته ، ويغالطونه حتى يترك قوله، فاحذرهم جعلت فداك” ، قال فتبسم (عليه السلام) ثم قال: (يا نوفلي أتخاف ان يقطعوا عليّ حجتي؟) قلت : ” لا والله ما خفت عليك فطّ واني لأرجو ان يظفرك الله بهم ان شاء الله” ، فقال لي : (يا نوفلي أتحبُّ أن تعلم متى يندم المأمون؟) قلت : “نعم” ، قال : (إذا سمع احتجاجي على أهل التوراة بتوراتهم وعلى أهل الإنجيل بإنجيلهم وعلى أهل الزبور بزبورهم وعلى الصابئين بعبرانيتهم وعلى الهرابذة بفارسيتهم وعلى أهل الروم بروميتهم وعلى أصحاب المقالات بلغاتهم، فإذا قطعت كل صنف ودحضت حجته وترك مقالته ورجع إلى قولي علم المأمون ان الموضع الذي هو بسبيله ليس هو بمستحق له، فعند ذلك تكون الندامة منه، ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم …) .
وفي صباح يوم آخر جاء الإمام إلى مجلس هؤلاء والتفت (عليه السلام) إلى رأس الجالوت ( وهو عالم يهودي ) فقال له: (تسألني أو أسألك؟) قال: “بل اسألك، ولست أقبل منك حجة إلا من التوراة أو من الانجيل أو من زبور داوود أو مما في صحف إبراهيم وموسى” ،
فقال الرضا (عليه السلام): (لا تقبل منّى حجة إلا بما تنطق به التوراة على لسان موسى بن عمران والإنجيل على لسان عيسى بن مريم والزبور على لسان داوود )، واستدل الإمام (عليه السلام) بالتفصيل على نبوة نبي الإسلام الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) فصدّق كلامه ، وناقش الآخرين حتى اسكتهم. وبعد ان انسدت الأبواب في وجوههم قال الإمام (عليه السلام): ( يا قوم ان كان فيكم احد يخالف الاسالم وأراد ان يسأل فليسأل غير محتشم).
فقام إليه عمران الصابئ وكان واحداً من المتكلمين فقال: “يا عالم الناس لولا أنّك دعوت إليّ مسائلتك لم اقدم عليك بالمسائل ، ولقد دخلت الكوفة والشام والجزيرة ولقيت المتكلمين فلم اقع على احد يثبت لي واحداً ليس غيره قائماً بوحدانيته أفتأذن لي ان اسألك”.
فشرح له الإمام برهانا مبسوطاً يثبت أن الله واحدٌ، واقتنع عمران وقال: “يا سيدي قد فهمت وأشهد أن الله على ما وصفته ووحدته، وأن محمداً عبده المبعوث بالهدى ودين الحق، ثم خرّ ساجداً نحو القبلة وأسلم”.
قال النوفلي: فلما نظر المتكلمون إلى كلام عمران الصابئ وكان جدلاً لم يقطعه عن حجته احد قط لم يدنُ من الرضا (عليه السلام) أحدٌ منهم ولم يسألوه عن شيء، وأمسينا فنهض المأمون والرضا (عليه السلام) فدخلا وانصرف الناس ( توحيد الصدوق ص 417،440، اثباة الهداة ج6 ص 45،49).
استشهاد الإمام (عليه السلام):
وأخيراً فقد عزم المأمون على قتل الإمام، وذلك بعد ان تيقن أنَّه لا يستطيع اطلاقاً ان يطوّعه لأغراضه، وقد لاحظ أن عظمة الإمام في تزايد وأن التفات المجتمع إليها يتسع يوماً بعد آخر، وكلما حاول المأمون توجيه ضربة إلى شخصية الإمام الاجتماعية فان شخصيته واحترامه يتضاعف باستمرار، وادرك المأمون انه كلما مرّ الزّمن فان أحقية الإمام تظهر أكثر وتزوير المأمون ينفضح اكثر ، ومن ناحية أخرى فان العباسيين وأتباعهم لم يكونوا راضين باسناد ولاية العهد للإمام، وحتى انهم اقدموا على مبايعة “ابراهيم بن المهدي العباسي” في بغداد بعنوان المعارضة للمأمون في ذلك، وبهذه الصورة فقد اصبحت حكومة المأمون مهددة بالاخطار من جهات مختلفة، ولهذا فقد اتخذ قراراً بالتخلص من الإمام ودسّ إليه السم حتى يستريح من الإمام من ناحية ويجذب إليه بني العباس واتباعهم من ناحية أخرى، وبعد استشهاد الإمام كتب إلى بني العباس :
” كنتم تنتقدونني على اسنادي ولاية العهد لعلي بن موسى الرضا، فاعلموا انه قدمات، اذن عليكم ان ترضخوا للطاعة لي” ( الطبري ج11 ص 1030، البداية والنهاية ج10 ص 249، وقد نقلنا ذلك من كتاب حياة الإمام الرضا ص 349).
وبذل المأمون قصارى جهده لكي لا يطلع اتباع الإمام الرضا ومحبوه على استشهاد الإمام (عليه السلام) وحاول اخفاء جريمته النكراء بالتظاهر وخداع العامة، وأراد ان يوهم الناس ان الإمام قد توفي بصورة طبيعية، إلا ان الحقيقة قد تجلت وعرف أصحاب الإمام والمتعلقون به واقع ما حدث .
وننقل هنا حديثاً لأبي الصلت الهروي ” وهو من الأصحاب المقربين للإمام الرضا (عليه السلام) ” يشرح فيه كيفية تطور الأوضاع بين المأمون والإمام بحيث انتهت بالتالي إلى قتل الإمام (عليه السلام): ( عن أحمد بن علي الانصاري قال: سألت أبا الصّلت الهروي فقلت له : “كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضا (عليه السلام) مع اكرامه ومحبته له وما جعل له من ولاية العهد بعده؟ “
فقال : “إنّ المأمون إنّما كان يكرمه ويحبه لمعرفته بفضله وجعل له ولاية العهد من بعده ليرى الناس أنّه راغب في الدنيا فيسقط محله من نفوسهم ، فلما لم يظهر منه في ذلك للناس الا ما ازداد به فضلاً عندهم ومحلاً في نفوسهم جلب عليه المتكلمين من البلدان طمعاً في ان يقطعه واحد منهم فيسقط محله عند العلماء. وبسببهم يشتهر نقصه عند العامة، فكان لا يكلمه خصم من إليهود والنصارى والمجوس والصابئين والبراهمة والملحدين والدهرية ولا خصم من فرق المسلمين المخالفين الا قطعه والزمه الحجة وكان الناس يقولون: والله انه اولى بالخلافة من المأمون، وكان أصحاب الاخبار يرفعون ذلك إليه فيغتاظ من ذلك ويشتد حسده له، وكان الرضا (عليه السلام) لا يحابي المأمون من حق وكان يجيبه بما يكره في اكثر احواله فيغيظه ذلك ويحقده عليه ولا يظهره له فلما اعيته الحيلة في أمره اغتاله فقتله بالسّمّ ” . ( عيون اخبار الرضا ج2 ص 241).
ويقول أيضاً أبو الصلت (وقد كان مرافقاً للإمام ومساهماً في دفنه) : ” في طريق العودة من مرو إلى بغداد دسّ المأمون السّمّ للإمام بواسطة العنب في طوس بحيث أدّى إلى قتله” ( عيون اخبار الرضا ج2 ص 245).
وتمّ دفن الجسد الطاهر للإمام في نفس تلك البقعة التي كان هارون مدفوناً فيها، وبالضبط أمام قبر هارون.
وقد حدثت فاجعة استشهاد الإمام الرضا (عليه السلام) في آخر يوم من أيام شهر صفر عام (203) هجرية، وقد كان عمره الشريف آنذاك يناهز الخامسة والخمسين عاماً … صلوات الله والانبياء والملائكة والاولياء على روحه المقدسة.
ان سكوت كتب التاريخ وتحريفها أدّى لئّلا تتضّح جميع أبعاد جرائم بعض الظالمين ومن جملتهم المأمون العباسي لأبناء المستقبل، والمأمون بانحطاطه وحيلته لم يكتف بدسّ السم للإمام (عليه السلام) وقتله، وإنّما قضى على كثير من المرتبطين بالإمام والعلويين الكرام والشيعة المخلصين للإمام أو شردهم في الديار والوديان والجبال، وضيّق عليهم بحيث اضطروا للتخفي والهروب إلى أماكن يعيشون فيها خاملي الذكر، وبالتالي فقد استشهد بعضهم ، وعاش البعض الآخر بعيداً عن الاضواء، وليس في ايدينا اليوم أي شئ عن كثير منهم، وهناك أخبار متناثرة مبعثرة عن بعضهم قد سجّلها وحفظها الشيعة … .
بعض أقوال الإمام الرضا (عليه السلام) :
نذكر بعض اقوال الإمام (عليه السلام) للتبرك والانتفاع بعلمه الغزير :
1 ـ ( المرء مخبوء تحت لسانه ) .
2 ـ ( التدبير قبل العمل يؤمنك من الندم ).
3 ـ ( مجالسة الاشرار تورث سوء الظّنّ بالأخيار ) .
4 ـ (بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد ) .
5 ـ ( ما هلك أمرؤ عرف قدره ) .
6 ـ (الهديّة تذهب الضّغائن من الصدور ) ( مسند الإمام الرضا ج1 ص 291،294).
7 ـ ( أقربكم منّي مجلساً يوم القيامة أحسنكم خلقا وخيركم لأهله ) .
8 ـ ( ليس منّا من خان مسلماً).
9 ـ ( المؤمن إذا غضب لم يخرجه غضبه عن حقّ ) ، ( مسند الإمام الرضا ج1 ص 294 ،305).
10 ـ ( إنّ الله يبغض القيل والقال واضاعة المال وكثرة السّؤال) .
11 ـ ( التّودّد إلى الناس نصف العقل ) .
12 ـ ( أشدّ الاعمال ثلاثة اعطاء الحق من نفسك، وذكر الله على كل حال، ومواساة الأخ في المال ) .
( مسند الإمام الرضا ج1 ص 285،290).
13 ـ (السّخّي يأكل من طعام الناس ليأكلوا من طعامه )،( مسند الإمام الرضا ج1 ص 295).
14 ـ (القرآن كلام الله لا تتجاوزوه، لا تطلبوا الهدى في غيره فتضلّوا) ، (مسند الإمام الرضا ج1 ص 307).
149).