الامام علي الهادي عليه السلام
الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام):
نبذة من حياة الإمام (عليه السلام):
يعدّ الإمام أبو الحسن عليّ الهادي (عليه السلام) الإمام العاشر للشيعة، وقد ولد في منتصف شهر ذي الحجة سنة ( 212 ) هجرية في محلّ واقع في أطراف المدينة يسمّى ( صريا ) ، وأبوه هو الإمام التاسع الجواد (عليه السلام) وأمّه هي السيدة الجليلة ( سمانة ) وكانت أمَةً ذات فضيلة وتقوى ( أعلام الورى ص355 إرشاد المفيد ص307).
وأشهر القاب الإمام العاشر هو ( الهادي ) و ( النقي )، ويسمى أيضاً بـ ( أبي الحسن الثالث ) ( أعلام الورى ص355)، ( وفي اصطلاح رواة الشيعة أبو الحسن الأول هو الإمام السابع موسى بن جعفر وأبو الحسن الثاني هو الإمام الثامن علي بن موسى الرضا (عليهم السلام)).
وقد استلم الإمام الهادي (عليه السلام) منصب الإمامة سنة ( 220 ) هجرية وذلك بعد استشهاد والده الكريم وقد كان عمره الشريف آنذاك ثمانية أعوام ، واستمرّت فترة إمامته ثلاثاً وثلاثين سنة، وعمّر واحداً واربعين عاماً وعدة شهور وفي سنة ( 245) هجرية استشهد سلام الله عليه.
وقد نقل من شاهد الإمام (عليه السلام) : إنَّهُ كان متوسط القامة وذا وجه أبيض اللون مشرّباً بحمرة وذا عيون كبيرة وحواجب واسعة، واسارير وجهه تبعث على الفرح والسرور (منتهى الامال ص 243).
وقد عاصر خلال حياته سبع حكومات من الخلفاء العباسيين، فكان قبل إمامته معاصراً للمأمون والمعتصم أخ المأمون، وفي أثناء إمامته عاصر ما تبقى من حكومة المعتصم، وحكومة الواثق ابن المعتصم، والمتوكل أخ الواثق، والمنتصر ابن المتوكل، والمستعين ابن عم المنتصر، والمعتز وهو الابن الآخر للمتوكل، ثم استشهد في عصر المعتز ( أعلام الورى ص355 إرشاد المفيد ص 307 ، تتمة المنتهى ص 201، 208).
وفي اثناء حكم المتوكل جاءوا بالإمام ـ بأمر من هذا الطاغية ـ من المدينة إلى سامراء التي كانت آنذاك مركز حكم العباسيين، وأقام فيها الإمام إلى آخر عمره الشريف ( أعلام الورى ص355، إرشاد المفيد ص307، تتمة المنتهى ص 201، 208).
وأبناء الإمام (عليه السلام) هم: الإمام الحادي عشر الحسن العسكري (عليه السلام) ، والحسين ومحمد وجعفر وبنت واحدة تسمى ( عليّة )، (أعلام الورى ص 366).
سلوك الخلفاء :
إنّ استمرار النضال والمعارضة من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للخلفاء الغاصبين الظالمين يعتبر من الصفحات الدموية المليئة بالفخر والاعتزاز من تاريخ الإسلام والتشيع. فأئمّتنا الكرام عليهم الصلاة والسلام كانوا مغضبين للحكام المستبدين واذنابهم الظالمين بما يتميزون به من مواقف صلبة غير متخاذلة ازاء الظلم، ومن مواقف شجاعة في الدفاع عن الحق والعدالة، ولمّا كان الخلفاء الغاصبون يعلمون انّ أئمّة الشيعة ينتهزون كلّ فرصة لهداية الناس واحقاق الحق والدفاع عن المظلوم والوقوف في وجه الظلم والفساد فانهم كانوا يشعرون بالخطر الجسيم يهددهم من جانب هذه الجماعة التي كرّست كلّ جهودها للهداية والإرشاد والصمود.
والخلفاء العباسيون ـ الذين حلّوا محلّ الخلفاء الامويين الظلمة بالتّآمر والخداع وحكموا الناس باسم الخلافة الإسلامية ـ هم كأسلافهم الغاصبين لم يدّخروا جهداً لقمع أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتلويث سمعتهم، وحاولوا بكل ما أوتوا من قوّة ان يشوهوا الصورة النقية لقادة المسلمين الحقيقيين ويسقطوهم عن منزلتهم الراقية، واستعملوا الدّسائس المختلفة لابعاد اولئك الكرام عن مقام قيادة الناس ومحو حبّ الأمّة لهم …
وحِيَل المأمون العباسي للوصول إلى هذا الهدف وخططه الجهنّميّة لاظهار حكومة بمظهر الشّرعيّة والقانونية واستلام منصب القيادة واخفاء شمس الإمامة، ليست مخفيّة على المطّلعين على تاريخ الأئمة (عليهم السلام) والخلفاء، وقد اشرنا إلى بعض جوانب هذا الموضوع خلال دراستنا لحياة الإمام الثامن والإمام التاسع (عليهم السلام).
فبعد المأمون استمر المعتصم العباسي في نفس تلك الخطط والمؤامرات التي كان ينفذها سلفه في أهل بيت النبوة والإمامة ومن هنا فقد استقدم الإمام الجواد (عليه السلام) من المدينة إلى بغداد وجعله تحت المراقبة الشديدة ثمّ بالتالي أدّى به إلى القتل، وسجن أيضاً بعض العلويين بذريعة انّهم لم يرتدوا الملابس السّوداء ( وهي الملابس الرّسميّة للعباسيين) حتى ماتوا في السدن ( أو قتلهم) ( مقاتل الطالبيين ص 589).
وقد مات المعتصم في سامراء عام (227) هجري ( المختصر في أخبار البشر ج1 ص34) فحلّ محلّه في الحكم إبنه الواثق، واقتفى اثر ابيه المعتصم وعمّه المأمون.
وكان الواثق مثل سائر الخلافاء المتظاهرين بالإسلام مرفّهاً وشرّاباً للخمر، وكان مفرطاً في هذه المجالات بحيث كان يلجأ لتناول بعض العقاقير الخاصّة لتوفّر له امكانيّة الاستمرار في لذّاته، وكانت هذه العقاقير هي التي أدّت به في نهاية الامر إلى الموت ( تتمة المنتهى ص 229 ـ 231) ، فمات في سامراء سنة (232) هجرية.
وسلوك الواثق مع العلويين لم يكن قاسياً ولهذا السبب تقاطر العلويون وآل أبي طالب على سامراء في زمانه واجتمعوا فيها وقد عاشوا في رفاه نسبي خلال تلك الفترة، ولكنهم تفرقوا خلال حكم المتوكل.
وبعد الواثق جاء اخوه المتوكل وأصبح خليفة، ويعتبر من اكثر الحكام العباسيين انحطاطاً وسقوطاً وأشدّهم جريمة، وقد عاصر الإمام الهادي (عليه السلام) المتوكل اكثر من سائر الخلفاء العباسيين، واستمرت فترة معاصرته له اكثر من اربعة عشر عاماً كانت هذه الفترة الطويلة من أصعب وأقسى السنين في حياة هذا الإمام الكريم واتباعه المخلصين، وذلك لانّ المتوكل كان من اكثر خلفاء بني العباس كفراً وكان رجلاً خبيثاً وساقطاً وكان قلبه مملوءاً بالحقد والعداوة لأمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) وأهل بيته الكرام وشيعته، وقد واجه العلويون في ظل حكومته القتل أودسّ السّم أوانّهم فرّوا وتواروا عن الأنظار ( مقاتل الطالبيين ص 597 ـ 632).
وكان المتوكل يحث الناس ـ بواسطة نقل احلام له ورؤى كاذبة ـ على اتّباع ( محمد بن ادريس الشافعي ) الذي كان ميتاً في زمانه ( تاريخ الخلفاء ص 351 ـ 352). وكان هدفه من هذا هو صرف الناس عن اتابع الائمة (عليهم السلام).
وفي سنة ( 236 ) هجرية أمر بهدم قبر سيدالشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) وهدم ما حوله من الدّور وان يعمل مزارع، ومنع الناس من زيارته، وخُرّب وبقي صحراء ( تاريخ الخلفاء ص 347).
وكان خائفاً من ان يغدو قبر الإمام الحسين (عليه السلام) قاعدة ضدّه، ومن ان يصبح نضاله واستشهاده (عليه السلام) ملهماً لتحرك ونهوض شعبي في مقابل ظلم خلافته، الا ان الشيعة ومحبي سيدالشهداء لم يكفّوا اطلاقاً وتحت أي ظرف من الظروف عن زيارة تلك البقعة الطاهرة، حتى انه قد نقل ان المتوكل قد هدم ذلك القبر الشريف سبع عشرة مرّة، وهدّد الزائرين بمختلف التهديدات وجعل مخفرين للمراقبة في اطراف القبر، ومع كلّ هذه الجرائم فانّه لم يفلح في صرف الناس عن زيارة سيد الشهداء، فقد تحمل الزائرون مختلف اصناف التعذيب والايذاء واصلوا الزيارة ( مقاتل الطالبيين ص 597 ـ599 تتمة المنتهى ص240 فما بعد). وبعد قتل المتوكل عاد الشية بالتعاون مع العلويين لتعمير واعادة بناء قبر الإمام الحسين (عليه السلام) ( مقاتل الطالبيين ص 599).
وقد أغضب المسلمين هدمُ قبر الإمام الحسين (عليه السلام)، فراح أهل بغداد يكتبون الشعارات المضادّة للمتوكّل على الجدران وفي المساجد، ويهجونه بواسطة الشعر. وهذه الابيات من الشعر من جملة الهجاء الذي قيل في ذلك الطاغية المستبدّ :
( بـالله ان كانت أميّة قـد أتت ******قتل ابن بنت نبيّها مظلوما
فلـقد أتـاه بنـو أبيـه بمثلـه ******هذا لعمري قبره مهدوما
أسفوا على ان لا يكونوا شاركوا ******في قتله فتتبّعوه رميما )
( تاريخ الخلفاء ص 347).
أجل ان الناس الذين لا تمتّد أيديهم إلى وسائل أعلام عصرهم ويرون المنابر والمساجد والاجتماعات والخطب في أيدي عملاء السلطة العبّاسيّة يعبّرون عن غضبهم واعتراضهم بهذه الصّورة.
وقد استغلّ الشّعراء الملتزمون الذين يشعرون بالمسؤوليّة مالديهم من فنّ وقريحة فأنشدوا قصائد ضدّ المتوكّل ونبهوا الناس على جرائم بني العباس، وفي المقابل فانّ المتوكلّ لم يتورّع عن ارتكاب ايّ جريمة في سبيل اسكات الأصوات المعترضة والمخالفة، وكان يقمع بعنف العلماء والشّعراء وسائر الفئات التي عجز عن تويعها واخضاعها للتّعاون معه والاستسلام له وكان يعرّضها للقتل بأفجع الصّور.
فمثلاّ يعقوب بن السّكّيت ـ وهو شاعر واديب شيعيّ مشهور بحيث يطلق عليه انّه الإمام في العربية ـ ندبه المتوكل إلى تعليم ولديه: ( المعتّز ) و ( المؤيّد )، فنظر المتوكّل يوماً إلى ولديه وقال لابن السّكّيت: من احبّ اليك هما أو الحسن والحسين؟ فقال ابن السّكّيت: قنبر ” يعني مولى أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ” خير منهما!
فأمر الأتراك فداسوا بطنه حتى مات، وقيل أمر بسلّ لسانه فمات ( تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 348 ـ تتمة المختصر في اخبار البشر ج1 ص 342 ـ المختصر في اخبار البشر ج2 ص 41 ( وهناك اقوال أخرى مذكورة في كيفية استشهاده)).
وقد اطلق المتوكل يديه في نهب بيت مال المسلمين كسائر الخلفاء، وكان مسرفاً كما كتب المؤرخون في تاريخ حياته، حيث بنى القصور المتعدّدة والمتنوعّة، وأنفق على ( برج المتوكل ) ” الذي لا يزال قائماً اليوم في سامراء ” مليوناً وسبعائة الف دينار من الذّهب ! … . ( تاريخ اليعقوبي ص491 ).
ومن المؤلم حقّاً إنّه إلى جانب هذا الاسراف والتّبذير يعيش العلويون وأهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ضيق وعسر بحيث أنَّ طائفة من النساء العلويّات في المدينة ما كن يملكن ملابس كاملة تتيسّر فيها اقامة الصلاة وإنّما كان لديهن ثوب رثّ بال يتعاقبن عليه اثناء اداء الصلاة ويعتمدن في امرار المعاش على الخياطة، واستمرت هذه الصّعوبة والضيق معهنّ حتى مات المتوكل ( تتمة المنتهى ص 238) وحقد المتوكل وعداؤه لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) قد دفعه إلى سقوط ورذالة لا تصدّق، حيث كان المتوكل يأنس إلى النّواصب واعداء أهل البيت وقد اصدر أوامره لأحد المضحكين والمثرثرين ان يسخر ويستهزأ في مجلسه بأمير المؤمنين (عليه السلام) بصورة مخجلة، والمتوكل يتفرج على طريقة ادائه واطواره ويشرب الخمر ويقهقه قهقهة السّكارى! ( تتمة المختصر في أخبار البشر ج1 ص338).
وصدور مثل هذه الاعمال من المتوكل ليس بالأمر العجيب وإنّما الغريب والمؤلم هو وضع الذين ينصبون أمثال هذه الخنازير المنحطّة الوسخة حكاماً ويعدّونهم خلفاء للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن جملة اولي الامر للمسلمين، ويشيحون بوجوههم عن الإسلام الحقيقي وأهل بيت نبيّه الطاهرين ويتبعون أمثال هؤلاء الخلفاء! أسفاً على الانسان كيف ينحدر في الضلال إلى هذه المستويات.
أجل انّ جنون المتوكّل في الايذاء والجريمة قد بلغ الذّروة حتّى انّه في بعض الاحيان كان هو بنفسه يعترف بذلك!
يقول الفتح بن خاقان ( وهو وزيره) :
“دخلت يوماً على المتوكل فرأيته مطرقاً متفكراً فقلت: يا أمير المؤمنين! ما هذا الفكر؟ فوالله ما على ظهر الارض أطيب منك عيشاً ولا أنعم منك بالاً. فقال: يا فتح أطيب عيشاً منّي رجل له دار واسعة وزوجة صالحة ومعيشة حاضرة لا يعرفنا فنؤذيه ولا يحتاج الينا فنزدريه … !!” ( تاريخ الخلفاء ص 353).
وقد بلغ ايذاء المتوكل وتعذيبه لأهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الحد الذي كان يعذب فيه الناس ويعاقبهم بذنب المحبّة والاتباع للأئمة الكرام، ولهذا فقد أصبح الأمر صعباً جدّاً على أهل بيت الطّهارة.
وعيّن المتوكّل عمر بن فرح الرخجي والياً على مكة والمدينة، وكان يكفّ الناس عن الاحسان إلى آل أبي طالب ويتشدّد كثيراً في هذا الامر فامتنع الناس خوفاً على أنفسهم عن بذل الرّعاية والحماية للعلويين وأمست الحياة صعبة جدّاً على أهل بيت أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) … . (تتمة المنتهى ص 238).
دعوة الإمام إلى سامرّاء :
كان الخلفاء الظّالمون يشعرون بالخوف من نفوذ الأئمة (عليهم السلام) في المجتمع واهتمام وحبّ الناس لهم، ومن البديهيّ عندئذ ان لا يكفّوا ايديهم عن الأئمة الكرام وان لا يتركوهم لحالهم، وبالنسبة للمتوكل فإنّه علاوة على هذا الخوف المستبدّ بجميع المتقدّمين عليه كان يشعر بحقد مرير وعداوة مضاعفة لأهل بيت أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) ممّا كان يدفعه للمزيد من التشّدد والتضييق عليهم، ومن هنا فقد عقد العزم على نقل الإمام الهادي (عليه السلام) من المدينة إلى مكان قريب منه حتى يراقبه عن كتب.
وهكذا أبعد المتوكل الإمام في عام ( 234) هجريه من المدينة إلى سامراء بصورة محترمة، وأسكنه في بيت مجاور لمعسكره، وأقام الإمام في هذا البيت حتى آخر عمره الشريف، أي إلى سنة ( 254) هجريّة، وقد احتفظ بالإمام دائماً تحت مراقبته الشديدة، وسار على منهجه هذا الخلفاء الذين جاءوا من بعده، فكلّ واحد منهم كان يراقب الإمام بصورة شديدة حتّى استشهاده (عليه السلام) ( الفصول المهّمة لابن صباغ المالكي ص 283).
وكان سبب شخوص أبي الحسن (عليه السلام) من المدينة إلى سرّ من رأى أن عبدالله بن محمد كان يتولّى الحرب والصلاة في مدينة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فسعى بأبي الحسن إلى المتوكل، وكان يقصده بالأذى، وبلغ أبا الحسن (عليه السلام) سعايته به فكتب إلى المتوكل يذكر تحامل عبدالله بن محمد عليه وكذبه فيما سعى به، فتقدم المتوكل باجابته عن كتابه ودعائه فيه إلى حضور العسكر على جميل من الفعل والقول فخرجت نسخة الكتاب وهي:
( بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فانّ أمير المؤمنين! عارف بقدرك راع لقرابتك موجب لحقّك، مؤثر من الامور فيك وفي أهل بيتك ما يصلح الله به حالك وحالهم ويثبت به عزّك وعزّهم ويدخل الأمن عليك وعليهم ويبتغي بذلك رضا ربّه واداء ما فرض عليه فيك وفيهم.
فقد رأى أمير المؤمنين صرف عبدالله بن محمد عمّا كان يتولى من الحرب والصلاة بمدينة الرسول، اذ كان على ما ذكرت من جهالته بحقّك واستخفافه بقدرك، وعندما قرفك به ونسبك إليه من الامر الذي قد علم أمير المؤمنين براءتك منه وصدق نيّتك في برّك وقولك وأنّك لم تؤهل نفسك لما قرفت بطلبه، وقد ولّى أمير المؤمنين ما كان يلي من ذلك محمد بن الفضل وأمره بالكرامك وتبجيلك والانتهاء إلى امرك ورايك، والتفرب إلى الله وإلى أمير المؤمنين بذلك، وأمير المؤمنين مشتاق اليك، يحبّ احداث العهد بك والنظر إلى وجهك.
فان نشطت لزيارته والمقام قبله ما احببت، شخصت ومن اخترت من أهل بيتك ومواليك وحشمك على مهلة طمأنينة ترحل اذا شئت وتنزل اذا شئت وتسير كيف شئت، فان احببت ان يكون يحيى بن هرثمة مولى أمير المؤمنين! ومن معه من الجند يرحلون برحيلك، يسيرون بمسيرك، فالامر في ذلك اليك وقد تقدّمنا إليه بطاعتك.
فاستخر الله حتى توافي أمير المؤمنين! فما احد من اخوته وولده وأهل بيته وخاصّته الطف منه منزلة ولا احمد له اثرة ولا هو لهم أنظر وعليهم اشفق وبهم أبّر وإليهم اسكن منه اليك والسلام عليك ورحمة الله وبركاته) ( البحار ج 50، ص 200).
ولا شكّ في انّ الإمام (عليه السلام) كان مطلّعاً على سوء نيّة المتوكل ولكنه لم يكن له بدّ من الرّحيل إلى سامرّاء، وذلك لانّ امتناعه عن تلبية دعوة المتوكل يغدو وثيقة بيد الساعين يثيرون المتوكل بها ويصبح ذريعةت مناسبة له، والشاهد على انّ الإمام (عليه السلام) كان عالماً بنيّة المتوكل وقد اضطر للسّفر هو ما كان يقوله (عليه السلام) فيما بعد في سامرّاء:
( أُخرجت إلى سرّ من رأى كُرهاً) ( بحار الانوار ج50 ص 129).
فلمّا وصل الكتاب إلى أبي الحسن (عليه السلام) تجهز للرحيل وخرج معه يحيى بن هرثمة حتى وصل سرّ من رأى، فلما وصل إليها تقدم المتوكل بان يحجب عنه في يومه، فنزل في خان يقاله له خان الصعاليك ( وهو مكان معدّ للمستجدين والفقراء ) وأقام به يومه، ثمّ تقدّم المتوكّل بافراد دار له فانتقل إليها ، واحترمه في الظاهر ولكنه في الخفاء حاول تشويه سمعة الإمام إلا أنه لم ينجح في ذلك ( الإرشاد للمفيد ص 313 ـ 314 ـ الفصول المهمة لابن صباغ المالكي، ص 279 ـ 281 ـ نور الابصار للشبلنجي، ص 182).
يقول صالح بن سعيد:
“دخلت على أبي الحسن (عليه السلام) يوم وروده فقلت له: جُعلت فداك في كل الامور أرادوا إطفاء نورك والتقصير بك، حتى انزلوك هذا المكان الاشنع خان الصّعاليك ، فقال: (ها هنا انت يا ابن سعيد؟) ثمّ أومأ بيده فاذا أنا بروضات أنيقات، وأنهار جاريات، وجنّات فيها خيرات عطرات، وولدان كأنّهنّ اللّؤلؤ المكنون، فحار بصري وكثر عجبي فقال (عليه السلام) لي: (حيث كنّا فهذا لنا يا ابن سعيد، لسنا في خان الصّعاليك)”( الإرشاد للمفيد ص 313 ـ 314).
وقد لقي الإمام الهادي (عليه السلام) أشدّ العناء والعذاب خلال فترة إقامته في سامرّاء، ولا سيما من المتوكل حيث كان يتعرض باستمرار للتهديد والايذاء منه ويواجه الخطر الجسيم والنماذج التي تذكرها لاحقاً تدل على الوضع الخطير. للإمام في سامراء وتصلح شاهداً على مدى تحمّله وصبره ومقاومته في مقابل الطّواغيت الظالمين.
يقول الصقر بن أبي دلف الكرخي:
“لمّا حمل المتوكل سيدنا أبا الحسن العسكري (عليه السلام) جئت أسأل عن خبره، قال: فنظر إليّ الزرافي ـ وكان حاجباً للمتوكل ـ فأمر ان ادخل إليه فأدخلت إليهن فقال: يا سقر ما شأنك؟ فقلت : خير أيّها الأستاذ، فقال: اقعد فأخذني ما تقدّم وما تأخّر، وقلت: اخطأت في المجيء.
قال: فوحى الناس عنه ثم قال لي: ما شأنك وفيم جئت؟
قلت: لخيرمّا، فقال: لعلّك تسأل عن خبر مولاك؟ فقلت له: ومن مولاي؟ مولاي أمير المؤمنين!، فقال: اسكت! مولاك هو الحق فلا تحتشمني فانّي على مذهبك، فقلت: الحمدلله.
قال: أتحبّ ان تراه؟ قلت: نعم، قال : اجلس حتى يخرج صاحب البريد من عنده.
قال: فجلست فلما خرج قال لغلام له: خذ بيد الصّقر وأدخله إلى الحجرة التي فيها العلوي المحبوس، وخّلّ بينه وبينه، قال: فأدخلني إلى الحجرة وأومأ إلى بيت فدخلت فاذا هو جالس على صدر حصير بحذاه قبر محفور، قال: فسلّمت عليه فردَّ عليّ ثمّ أمرني بالجلوس ثمّ قال لي: (ياصقر ما أتى بك؟) قلت: سيدي جئت اتعرف خبرك؟ قال: ثم نظرت إلى القبر فبكيت فنظر إليّ فقال: (يا صقر لا عليك لن يصلوا إلينا بسوء الآن) ، فقلت: الحمد لله ، ثم سألته عن حديث مرويّ عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأجانبي، ثم قال (عليه السلام): (ودّع واخرج فلا آمن عليك)”( بحار الانوار ج50 ص 195 ـ 194).
قال المسعودي في مروج الذهب:
“سعي إلى المتوكل بعلي بن محمد الجواد (عليهم السلام) انّ في منزله كتباً وسلاحاً من شيعته من أهل قم، وأنه عازم على الوثوب بالدولة فبعث إليه جماعة من الاتراك، فهجموا داره ليلاً فلم يجدوا فيها شيئاً ووجده في بيت مغلق عليه، وعليه مدرعة من صوف، وهو جالس على الرّمل والحصا وهو متوجه إلى الله تعإلى يتلو آيات من القرآن.
فحمل على حاله تلك إلى المتوكل وقالوا له: لم يجد في بيته شيئاً ووجدناه يقرأ القرآن مستقبل القبلة، وكان المتوكل جالساً في مجلس الشرب فدخل عليه والكأس في يد المتوكل، فلما رآه ها به وعظمّه وأجلسه إلى جانبه وناوله الكأس التي كانت في يده، فقال: والله ما يخامر لحمي ودمي قطّ، فاعفني فأعفاه، فقال: أنشدني شعراً، فقال (عليه السلام): (إنّيّ قليل الرواية للشعر) ، فقال: لابدّ، فانشده (عليه السلام) وهو جالس عنده:
باتوا على قلل الاجبال تحرسهم*** غلب الرجال فلم تنفعهم القلــل
واستنزلوا بعد عزّ من معاقلهم *** وأُسكنوا حفراً يا بئس ما نزلـوا
ناداهم صارخ من بعد دفنهـم *** أين الأساور والتيجان والحلــل
اين الوجوه التي كانت منعّمة *** من دونها تضرب الأستار و الكلل
فأفصح القبر عنهم حين سائلهم*** تلك الوجوه عليها الدّود تقتتــل
قد طال ما أكلوا دهراً وقد شربوا *** وأصبحوا اليوم بعد الأكل قد أُكلوا
قال: فبكى المتوكل حتى بلّت لحيته دموع عينيه، وبكى الحاضرون، ودفع إلى علي (عليه السلام) اربعة آلاف دينار، ثم ردّه إلى منزله مكرّماً ( البحار ج50 ص 211 ـ 212).
ومرّة أخرى هاجموا دار الإمام: فقد مرض المتوكل مرضاً اشرف منه على التّلف، فوصف له الإمام (عليه السلام) دواءً لعلاجه، وعوفي بسبب تناوله ذلك الدّواء. وبشّر امّ المتوكل بعافيته فحملت إلى أبي الحسن (عليه السلام) عشرة آلاف دينار تحت ختمها.
فلمّا كان بعد أيّام سعى البطحائي بأبي الحسن (عليه السلام) إلى المتوكل فقال: عنده سلاح وأموال، فتقدم المتوكل إلى سعيد الحاجب ان يهجم ليلاً عليه ويأخذ ما يجد عنده من الأموال والسّلاح ويحمل إليه.
فقال ابراهيم بن محمد: قال لي سعيد الحاجب: صرت إلى دار أبي الحسن (عليه السلام) بالليل، ومعي سلّم فصعدت منه إلى السطح، ونزلت من الدرجة إلى بعضها في الظّلمة، فلم ادر كيف اصل إلى الدار فناداني أبو الحسن (عليه السلام) من الدار: يا سعيد مكانك حتى يأتوك بشمعة، فلم ألبث أن آتوني بشمعة فنزلت فوجدت عليه جبّة من صوف وقلنسوة منها وسجّادته على حصير بين يديه وهو مقبل على القبلة فقال لي: دونك بالبيوت.
فدخلتها وفتشتها فلم أجد فيها شيئاً، ووجدت البدرة مختومة بخاتم امّ المتوكل وكيسا مختوماً معها، فقال أبو الحسن (عليه السلام):
دونك المصلّى فرفعت سيفا في جفن غير ملبوس، فأخذت ذلك وصرت إليه.
فلّمّا نظر إلى خاتم امّه على البدرة بعث إليها، فخرجت إليه، فسألها عن البدرة، فأخبرني بعض خدم الخاصة انها قالت له: كنت نذرت في علّتك ان عوفيت ان احمل إليه من مالي عشرة آلاف دينار فحملتها إليه وهذا خاتمك على الكيس ما حركّها. وفتح الكيس الاخر وكان فيه اربع مائة دينار، فأمر ان يضم إلى البدرة بدرة أخرى وقال لي: احمل ذلك إلى أبي الحسن واردد عليه السيف والكيس بما فيه، فحملت ذلك إليه واستحييت منه، وقلت: يا سيدي عزّ عليّ بدخول دارك بغير اذنك، ولكنّي مأمور به، فقال لي:
( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون)” ( احقاق الحق ج12 ص 452، 453، الفصول المهمة لابن صباغ المالكي ص 281 ـ 282).
وبعد معاناة طويلة انتهت الحكومة الغاشمة للمتوكل، فبتحريض من إبنه ( المنتصر ) قامت مجموعة من الاتراك المسلحين بقتله وقتل وزيره الفتح بن خاقان بينما كانا منهمكين في شرب الخمر واللهو وبذلك تطهّرت الارض من وجوده النحطّ ( تتمة المختصر في اخبار البشر ج1 ص 341 ـ 342).
واستلم المنتصر في صبيحة تلك الليلة التي قتل فيها المتوكل مقاليد الخلافة وأمر بهدم بعض قصور ابيه. ( تتمة المنتهى ص 243) .
ولم يؤذ العلويين وإنّما اظهر الرّأفه والعطف عليهم وأجاز زيارة قبر الإمام الحسين (عليه السلام)، وابدى للزائرين الخير والاحسان ( تتمة المختصر في اخبار البشر ج1 ص344).
وأصدر امره باعادة ( فدك ) إلى اولاد الإمام الحسن والإمام الحسين (عليهما السلام)، ورفع الحظر عن الاوقاف العائدة إلى آل أبي طالب، ( تتمة المنتهى ص 244) .
وكانت فترة خلافة المنتصر قصيرة فقد امتدّت ستة اشهر فحسب، وتوفي في عام ( 248) هجري ( تاريخ اليعقوبي ج2 ص 493 ـ تتمة المختصر في اخبار البشر ج1 ص 344).
وانتقلت الخلافة من بعده إلى ابن عمه ( المستعين ) وهو حفيد المعتصم، وقد سلك طريقة الخلفاء السابقين، وفي اثناء حكمه نهضت مجموعة من العلويين وانتهى بها الامر إلى القتل.
ولم يستطع المستعين الصمود في وجه تمرّد الأتراك من جيشه، فاستخرج المتّمرّدون المعتزّ من السجن وبايعوه. وبذلك ارتفع نجم المعتزّ واضطرّ المستعين ليبدي استعداده للصلح معه وصالحه المعتز بحسب الظاهر واستدعاه إلى سامراء ولكنه في وسط الطريق أمر به فقتل ( المختصر في اخبار البشر ج2 ص 42 ـ44).
وقد جرت سيرة المستعين على اطلاق ايدي بعض المقربين إليه وزعماء الاتراك في نهب بيت المال والعبث به حسب ما تقتضيه اهواؤهم ( المختصر في اخبار البشر ج2 ص 42 ـ 43 تاريخ اليعقوبي ج2 ص 499 ـ تتمة المنتهى ص 246).
ولكنه كان يسلك مع ائمّتنا المعصومين (عليهم السلام) سلوكاً مشينا جدّاً وقاسيا، وبناءً على بعض الروايات فانّه قد تعرض للعن من قبل الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) وانتهت حياته (بحار الانوار ج50 ص 249).
وبعد المستعين استلم الخلافة ( المعتزّ) وهو ابن المتوكل واخ المنتصر. وكان موقفه من العلويين سيئاً جداً. وخلال حكمه تعرضت طائفة من العلويين للقتل أو دُسّ إليها السم. وفي زمانه أيضاً استشهد الإمام الهادي (عليه السلام).
وأخيراً فقد واجه المعتز تمرّداً اشترك فيه زعماء الأتراك وآخرون وعزلوه عن الحكم وضرب وجرح على ايديهم ثم القوابه في سرداب واغلقوا عليه بابه حتى هلك في داخله ( تتمة المنتهى ص 252 ـ 254 ـ المختصر في اخبار البشر ج2 ص 45).
محاصرة الإمام (عليه السلام) واستشهاده :
إنّ كلّ باحث عندما يتأمّل في حاية الإمام الهادي (عليه السلام) يدرك ان هذا الإمام الجليل قد عاش حياته كلّها تحت الضغط والحصار المروع، ومن الواضح ان هذا الوضع لميكن مقصوراً على هذا الزمان وإنّما كان الأمر على هذا المنوال طيلة مرحلة بني أميّة وبني العباس سوى فترات محدودة، فقد كان الخلفاء الغاصبون يدوسون بأقدامهم على المجتمع ولا يهتمون بمصالحه ويتخذون الناس وسيلة لتحقيق مصالحهم الشخصيّة ومنا فعهم الذّاتيّة، وفي أثناء تسلط الخلفاء الظالمين كان الرعب والفزع مسيطراً بحيث لم يجرؤ الناس على القيام ضدّ الطغاة، والانتفاع بقيادة الأئمة المعصومين (عليهم السلام) وايجاد الحكومة الإسلامية الحقيقية، ومنهنا فقد كانت علاقة الأمّة بالإمام محدودة جداً، وكما مرّ علينا فان حكومة ذلك أجبرت الإمام الهادي (عليه السلام) على الرحيل من المدينة إلى مركزالخلافة حينذاك، أي سامراء، وجعلته (عليه السلام) تحت الرقابة الشديدة، ومع كلّ الضغوط المسلطة عليه فانّ الإمام (عليه السلام) تحمل الآلام والمحدوديات المفروضة عليه ولم يستسلم لرغبات الظالمين، ومن البديهي ان شخصيّة الإمام القوية ومركزه الاجتماعي الرفيع ونضاله السلبي وعدم تعاونه مع الخلفاء ـ كل هذه الامور ـ كانت مرعبة للطواغيت ومُرّة المذاق، وكان بنو العباس يعانون من هذا الامر كثيراً وباستمرار، وبالتالي فقد توصلوا إلى الحيلة الوحيدة لمعالجته وهو اطفاء نور الله وقتل ذلك الإمام الجليل.