السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام


الزهراء البتول سيدة نساء العالمين (عليها السلام):
نسبها الشريف:
هي بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سيدة نساء العالمين (عليها السلام) أمها خديجة بنت خويلد أم المؤمنين، وكانت أصغر بنات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واحبهن إليه، وانقطع نسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا من فاطمة (عليها السلام) ولم يخلف له (صلى الله عليه وآله وسلم) من بنيه غيرها.
ولادتها:
ولدت (عليها السلام) بمكة يوم الجمعة العشرين من جمادى الآخرة بعد المبعث بسنتين.
كنيتها ولقبها:
تكنى (عليها السلام) أم أبيها لشدة رعايتها للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتلقب بالزهراء وبالبتول.
سيرتها:
عن عائشة أم المومنين، أنها قالت: ما رأيت أحدا كان أشبه كلاما وحديثا وهديا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، من فاطمة وكانت إذا دخلت عليه قام إليها فقبلها ورحب بها كما كانت تصنع هي به، وفي رواية لأبي داود، كان إذا دخلت عليه قام إليها فاخذ بيدها فقبلها وأجلسها في مجلسه وكانت إذا دخل عليها قامت إليه فأخذت بيده فقبلته وأجلسته في مجلسها.
زهدها:
روى احمد بن حنبل في مسنده عن ثوبان مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا سافر كان آخر عهده بإنسان من أهله فاطمة وأول من يدخل عليه إذا قدم فاطمة، فقدم من غزاة فاتاها، فإذا بمسح على بابها، وهو كساء معروف، ورأى على الحسن و الحسين قلبين، أي سوارين من فضه، فرجع ولم يدخل عليها، فظنت أنه من أجل ما رأى، فهتكت الستر، ونزعت القلبين من الصبيين، فقطعتهما، فبكى الصبيان، فقسمته بينهما، فانطلقا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهما يبكيان، فأخذه منهما وقال: يا ثوبان اذهب بهذا إلى بني فلان واشتر لفاطمة قلاده من عصب، وهو سن دابة بحريه، وسوارين من عاج، فان هؤلاء أهل بيتي، ولا احب أن يأكلوا طبيباتهم في حياتهم الدنيا.
صدقها:
في الاستيعاب بسنده عن عائشة ما رأيت أحدا كان اصدق لهجة من فاطمة إلا أن يكون الذي ولدها (صلى الله عليه وآله وسلم)، وروى أبو نعيم في الحلية بسنده عن عائشة: ما رأيت أحدا قط اصدق من فاطمة غير أبيها.
مناقبها وفضائلها:
مناقبها (عليها السلام) أكثر من أن تحصى منها:
قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : إنها بضعة مني أو شجنه مني، روى البخاري في صحيحه، بسنده: أن رسول الله (صلى الله عليه (وآله) وسلم) قال:
فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني
وروى النسائي في الخصائص بسنده عن المسور بن مخرمه أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
فاطمة بضعة مني من أغضبها أغضبني
وروى مسلم في صحيحه:
إنما فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها
وفي رواية لمسلم:
إنما ابنتي بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها
وفي الإصابة عن الصحيحين عن المسور بن مخرمه، سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على المنبر يقول:
فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها و يريبني ما رابها
وغيرها من الفضائل التي يرويها الخاصة والعامة.
شدة حب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لها:
روى الحاكم في المستدرك بسنده عن أبي ثعلبه الخشني: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا رجع من غزوة أو سفر أتى المسجد فصلى فيه ركعتين ثم ثنى بفاطمة (عليها السلام)، ثم يأتي أزواجه، وبسنده عن ابن عمر، أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا سافر، كان آخر الناس عهدا به فاطمة، وإذا قدم من سفر كان أول الناس به عهدا فاطمة.
وروى ابن شهر آشوب في المناقب بعدة أسانيد عن عائشة، أن عليا قال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما جلس بينه وبين فاطمة وهما مضطجعان أينا احب إليك أنا أو هي؟ قال:

هي أحب إلي وأنت أعز علي
سئلت عائشة أي الناس كان أحب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قالت: فاطمة، قلت فمن الرجال؟ قالت: زوجها، أن كان ما علمته صواما قواما.
وقال الله تعالى في سورة الأحزاب: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا) روى الواحدي في أسباب النزول بسنده عن أبي سعيد قال: نزلت في خمسة، في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين (عليهم السلام).

وفي الإصابة قالت أم سلمة: في بيتي نزلت إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا، قالت: فأرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى فاطمة وعلي والحسن والحسين (عليهم السلام) فقال:
(هؤلاء أهل بيتي)، أخرجه الترمذي والحاكم في المستدرك وقالا: صحيح على شرط مسلم.
تزويجها بعلي (عليه السلام):
في كشف الغمة، روى عن أبي عبد الله (عليه السلام) انه قال: لو لا أن الله تبارك وتعالى خلق أمير المؤمنين (عليه السلام)، ما كان لها كُفء على وجه الأرض, قال: وروى صاحب كتاب الفردوس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لو لا علي (عليه السلام) لم يكن لفاطمة (عليها السلام) كفء.
وروى محمد بن سعد كاتب الواقدي في الجزء الثامن من الطبقات الكبير بسنده، أن أبا بكر خطب فاطمة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أنتظر بها القضاء، فذكر ذلك لعمر، فقال له: ردّك، ثم إن أبا بكر قال لعمر: إخطب فاطمة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فخطبها، فقال له مثل ما قال لأبي بكر: انتظر بها القضاء، فاخبر أبا بكر فقال له: ردك، وبسنده عن بريده أنه قال نفر من الأنصار لعلي: عندك فاطمة!، فأتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسلم عليه فقال: ما حاجه ابن أبي طالب؟ قال: ذكرت فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: مرحبا و أهلا، لم يزده عليهما، فخرج على أولئك الرهط وهم ينتظرونه، فقالوا ما وراءك؟ قال: ما أدري غير أنه قال لي: مرحبا وأهلا، قالوا يكفيك من رسول الله إحداهما، أعطاك الأهل وأعطاك المرحب، ثم إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لفاطمة: إن علي بن أبي طالب ممن قد عرفت قرابته وفضله في الإسلام، وإني سألت ربي أن يزوجك خير خلقه واحبهم إليه، وقد ذكر من أمرك شيئا، فما ترين؟ فسكتت، فخرج وهو يقول: الله اكبر، سكوتها إقرارها.
جهازها عند زواجها:
أما جهازها (عليها السلام) فقد ذكروا أنه: قميص بسبعه دراهم، وخمار بأربعة دراهم، وقطيفة سوداء خيبرية، وسرير مزمل بشريط، وفراشان من خيش مصر، حشو أحدهما ليف وحشو الآخر من صوف الغنم، وأربع مرافق من أدم الطائف حشوها اذخر، وستر رقيق من صوف، وحصير هجري، ورحى لليد، ومخضب من نحاس، وهو إناء تغسل فيه الثياب، وسقاء من أدم، وقعب للبن وشن للماء، ومطهره مزفته، وجرة خضراء، وكيزان خزف، ونطع من أدم، وعباءة قطوانية وقربه ماء، فلما عرض ذلك على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): جعل يقلبه بيده ويقول: بارك الله لأهل البيت، وفي رواية، إنه لما وضع بين يديه بكى ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم بارك لقوم جل آنيتهم الخزف.
شيء عن فدك:
في معجم البلدان، فدك بالتحريك وآخره كاف، قرية بينها وبين المدينة يومان، وقيل ثلاثة، فيها عين فواره ونخل كثير، افاءها الله على رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في سنة سبع صلحا.
وروى البخاري في صحيحه في باب فرض الخمس، عن عائشة أم المؤمنين، أن فاطمة (عليها السلام) ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سألت أبا بكر الصديق، بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أن يقسم لها ميراثها مما ترك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مما أفاء الله عليه فقال لها: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لا نورث ما تركناه صدقة، فغضبت فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرته حتى توفيت، و عاشت بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ستة اشهر، قالت و كانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من خيبر و فدك و صدقته بالمدينة، فأبى عليها ذلك.
وروى البخاري في صحيحه أيضا في كتاب المغازي، في غزوه خيبر مثله إلى أن قال: فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته، فلم تكلمه حتى توفيت، فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلا و لم يؤذن بها أبا بكر وصلى عليها.
وروى ابن سعد في الطبقات بسنده عن عروه بن الزبير، أن عائشة زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أخبرته، أن فاطمة بنت رسول الله سالت أبا بكر بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أن يقسم لها ميراثها مما ترك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مما أفاء الله عليه، فقال لها أبو بكر: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لا نورث ما تركناه صدقة، فغضبت فاطمة وعاشت بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ستة اشهر.
وروى البخاري في باب قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا نورث ما تركناه صدقة، بإسناده عن معمر عن الزهري عن عروه عن عائشة، أن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهما حينئذ يطلبان أرضه من فدك وسهمه من خيبر، فقال لهما: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول، لا نورث ما تركناه صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال، قال، فهجرته فاطمة فلم تكلمه حتى ماتت، وهكذا رواه الإمام احمد عن عبد الرزاق عن معمر، ثم رواه احمد عن يعقوب بن إبراهيم عن أبيه عن صالح بن كيسان عن الزهري عن عروه عن عائشة، أن فاطمة سألت أبا بكر بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ميراثها مما ترك مما أفاء الله عليه فقال لها: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لا نورث ما تركناه صدقة فغضبت فاطمة وهجرت أبا بكر فلم تزل مهاجرته حتى توفيت، قال وعاشت فاطمة بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ستة اشهر، وذكر تمام الحديث، هكذا قال الإمام احمد ونقله ابن كثير في تاريخه.
خطبتها في شأن فدك:
لما اجمع أبو بكر على منع فاطمة فدكا وبلغها ذلك، لاثت خمارها على رأسها واشتملت بجلبابها وأقبلت في لُمّة من حفدتها ونساء قومها، ما تختلف مشيتها عن مشيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شيئا، فدخلت عليه وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فنيطت دونها ملاءه فجلست، ثم افتتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه والصلاة على رسوله، أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) فبكى القوم، فلما امسكوا، عادت في كلامها فقالت: ((الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم، والثناء بما قدم، من عموم نعم ابتدأها، وسبوغ آلاء أسداها، وتمام نعم والاها، جم عن الإحصاء عددها، ونأى عن الجزاء أمدها، وتفاوت عن الإدراك أبدها، وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتصالها، واستحمد إلى الخلائق بإجزالها، وثنى بالندب إلى أمثالها، واشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة جعل الإخلاص تأويلها، وضمّن القلوب موصولها، وأنار في التفكير معقولها، الممتنع من الأبصار رؤيته، ومن الألسن صفته، ومن الأوهام كيفيته، ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها، وتنشاها بلا احتذاء أمثله امتثلها، كوّنها بقدرته، وذرأها بمشيئته، من غير حاجه منه إلى تكوينها ولا فائدة له في تصويرها، إلا تثبيتا لحكمته، وتنبيها على طاعته، وإظهارا لقدرته، وتعبدا لبريّته، وإعزازا لدعوته.
ثم جعل الثواب على طاعته، ووضع العقاب على معصيته، ذيادة لعباده عن نقمته، وحياشة لهم إلى جنته، واشهد أن أبي محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) عبده ورسوله، اختاره وانتجبه قبل أن أرسله، وسماه قبل أن اجتباه، واصطفاه قبل أن ابتعثه، إذ الخلائق بالغيب مكنونة، وبستر الأهاويل مصونة، وبنهاية العدم مقرونة، علما من الله تعالى بمآل الأمور، وإحاطة بحوادث الدهور، ومعرفة بمواقع المقدور، ابتعثه الله تعالى إماما لأمره، وعزيمة على إمضاء حكمه، وإنفاذا لمقادير حتمه، فرأى الأمم فرقا في أديانها، عكّفا على نيرانها، عابدة لأوثانها، منكرة لله مع عرفانها، فأنار الله تعالى بأبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ظلمها، وكشف عن القلوب بُهمها، وجلى عن الأبصار غممها، وقام في الناس بالهداية، وأنقذهم من الغواية، وبصّرهم من العماية، وهداهم إلى الدين القويم، ودعاهم إلى الصراط المستقيم، ثم قبضه الله إليه قبض رأفه واختيار، ورغبه وإيثار، فمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) عن تعب هذه الدار في راحه قد حُف بالملائكة الأبرار ورضوان الرب الغفار، ومجاورة الملك الجبار، (صلى الله على أبي) نبيه، وأمينه على وحيه وصفيه، وخيرته من الخلق ورضيّه، والسلام عليه ورحمه الله وبركاته)).
ثم التفتت إلى أهل المجلس وقالت: ((انتم عباد الله نصب أمره ونهيه، وحملة دينه ووحيه، وأمناء الله على أنفسكم، وبلغاؤه إلى الأمم. وزعيم حق له فيكم، وعهد قدمه إليكم، وبقيه استخلفها عليكم، كتاب الله الناطق، والقرآن الصادق والنور الساطع، والضياء اللامع، بينةٌ بصائره، منكشفةٌ سرائره، متجليةٌ ظواهره، مغتبطٌ به أشياعه، قائدٌ إلى الرضوان أتباعه، مؤد إلى النجاة استماعه، به تنال حجج الله المنورة، وعزائمه المفسرة، ومحارمه المحذرة، وبيناته الجالية، وبراهينه الكافية، وفضائله المندوبة، ورخصه الموهوبة، وشرائعه المكتوبة، فجعل الله الإيمان تطهيرا لكم من الشرك، والصلاة تنزيها لكم عن الكبر، والزكاة تزكيه للنفس، ونماء في الرزق، والصيام تثبيتا للإخلاص، والحج تشييدا للدين، والعدل تنسيقا للقلوب، وطاعتنا نظاما للملة، وإمامتنا أمانا من الفرقة، والجهاد عزا للإسلام، وذلا لأهل الكفر والنفاق، والصبر معونة على استيجاب الأجر، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مصلحه للعامة، وبر الوالدين وقاية من السخط، وصله الأرحام منسأة في العمر، والقصاص حقناً للدماء، والوفاء بالنذر تعريضا للمغفرة، وتوفية المكاييل والموازين تغييرا للبخس، والنهي عن شرب الخمر تنزيها عن الرجس، واجتناب القذف حجابا عن اللعنة، وترك السرقة إيجابا للعفة، وحرم الله الشرك إخلاصا له بالربوبية، فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وانتم مسلمون، وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه فإنما يخشى الله من عباده العلماء)).
ثم قالت (عليها السلام): ((أيها الناس اعلموا أني فاطمة وأبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، أقول عودا وبدءا ولا أقول ما أقول غلطا، ولا افعل ما افعل شططا، لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم، فان تعزوه وتعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم وأخا ابن عمي دون رجالكم، ولنعم المعزى إليه، فبلّغ الرسالة، صادعا بالنذارة، مائلا عن مدرجه المشركين ضاربا ثيجهم آخذا بكظمهم داعيا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنه، يكسر الاصنام، وينكت الهام حتى انهزم الجمع وولوا الدبر، حتى تفرّى الليل عن صبحه، وأسفر الحق عن محضه، ونطق زعيم الدين، وخرست شقاشق الشياطين، وطاح وشيظ النفاق، وانحلت عقده الكفر والشقاق، فُهتُم بكلمة الإخلاص، في نفر من البيض الخماص، وكنتم على شفا حفره من النار، مُذقة الشارب ونُهزة الطامع، وقبسة العجلان، ومَوطِىءَ الأقدام، تشربون الطرق، وتقتاتون القد، أذلةً خاسئين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله تبارك تعالى بأبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، بعد اللتيا والتي، وبعد أن مني بهم الرجال، وذوبان العرب، ومرده أهل الكتاب، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله، أو نجم قرن للشياطين أو فغرت فاغرة من المشركين، قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه، ويخمد لهبها بسيفه، مكدودا في ذات الله، مجتهدا في أمر الله قريبا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، سيدا في أولياء الله مشمرا ناطحا، مجدا كادحا، وأنتم في بلهنية من العيش وادعون، فاكهون آمنون، تتربصون بنا الدوائر، وتتوكفون الأخبار، وتنكصون عند النزال، وتفرون من القتال.
فلما اختار الله لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) دار أنبيائه ومأوى أصفيائه، ظهرت فيكم حسيكه النفاق، وسمل جلباب الدين، ونطق كاظم الغاوين، ونبغ خامل الأقلين، وهدر فنيق المبطلين، فخطر في عرصاتكم، واطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفا بكم، فألفاكم لدعوته مستجيبين، وللغرة فيه ملاحظين، ثم استنهضكم فوجدكم خفافا، واحمشكم فألفاكم غضابا، فوسمتم غير ابلكم، وأوردتم غير شربكم، هذا والعهد قريب، والكلم رحيب، والجرح لما يندمل، والرسول لما يقبر، ابتدارا، زعمتم، خوف الفتنه، ألا في الفتنه سقطوا وإن جهنم لمحيطه بالكافرين.
فهيهات منكم، وكيف بكم، وأنى تؤفكون، وهذا كتاب الله بين أظهركم، أموره ظاهره، وأحكامه زاهرة، وأعلامه باهرة، وزواجره لائحة، وأوامره واضحة، قد خلفتموه وراء ظهوركم، أرغبة عنه تدبرون؟، أم بغيره تحكمون؟ بئس للظالمين بدلا، ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين.
ثم لم تلبثوا إلا ريثما تسكن نفرتها، ويساس قيادها، ثم أخذتم تورون وقدتها، وتهيجون جمرتها، وتستجيبون لهتاف الشيطان الغوي، وإطفاء نور الدين الجلي، وإهماد سنن النبي الصفي، تسرون حسوا في ارتغاء، وتمشون لأهله وولده في الخمر والضراء، ونصبر منكم على مثل حز المدى، ووخز السنان في الحشى، وانتم الآن تزعمون، أن لا إرث لي! أفحكم الجاهلية يبغون؟ ومن احسن من الله حكما؟ لقوم يوقنون، أفلا تعلمون؟، بلى قد تجلى لكم كالشمس الضاحية أني ابنته ،ويها أيها المسلمون أأُغلب على إرثي؟؟، يا ابن أبي قحا فة أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئا فريا، أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول: {و ورث سليمان داود}؟؟ وقال فيما اختص من خبر يحيى بن زكريا (عليه السلام) إذ يقول: {رب هب لي من لدنك وليا يرثني ويرث آل يعقوب} وقال: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} وقال: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} وقال: {إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين}،! وزعمتم أن لا حظوة لي! ولا ارث من أبي! ولا رحم بيننا، ا فخصكم الله بآية اخرج منها أبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ أم تقولون أهل ملتين لا يتوارثان؟، أو لست أنا وأبي من أهل مله واحدة؟، أم انتم اعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي؟
فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله، والزعيم محمد، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون، ولا ينفعكم إذ تندمون، لكل نبا مستقر وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم.
ثم رمت بطرفها نحو الأنصار فقالت: يا معشر الفتيه وأعضاد الملة وحصنه الإسلام، ما هذه الغميزة في حقي، والسنة عن ظلامتي؟! أما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبي، يقول، المرء يحفظ في ولده، سرعان ما أحدثتم! وعجلان ذا إهالة ولكم طاقه بما أحاول، وقوه على ما اطلب وأزاول، أتقولون مات محمد فخطب جليل؟، استوسع وهنه، واستنهر فتقه، وانفتق، رتقه، واظلمت الأرض لغيبته، واكتأبت خيرة الله لمصيبته، وكسفت الشمس والقمر، وانتثرت النجوم لمصيبته، واكدت الآمال، وخشعت الجبال، وأضيع الحريم وأزيلت الحرمة عند مماته.
فتلك والله النازلة الكبرى والمصيبة العظمى التي لا مثلها نازله ولا بائقة عاجله، أعلن بها كتاب الله جل ثناؤه في أفنيتكم، في ممساكم ومصبحكم، هتافا وصراخا، وتلاوة وألحانا، ولقبله ما حلت بأنبياء الله ورسله حكم فصل، وقضاء حتم، {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزى الله الشاكرين}، إيهٍ بني قيله أأُهضم تراث أبي وانتم بمرأى مني ومسمع؟ ومنتدى ومجمع؟ تلبسكم الدعوة، وتشملكم الخبرة، وأنتم ذوو العدد والعدة، والأداة والقوة، وعندكم السلاح والجنة، توافيكم الدعوة فلا تجيبون، وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون، وانتم موصوف ونبال كفاح، معروفون بالخير والصلاح، والنخبة التي انتخبت، والخيرة التي اختيرت لنا أهل البيت، قاتلتم العرب وتحملتم الكد والتعب، وناطحتم الأمم وكافحتم البهم فلا نبرح وتبرحون، ولا نأمركم فتأتمرون، حتى إذا دارت بنا رحى الإسلام، ودر حلب الأيام، وخضعت نعره الشرك، وسكنت فورة الإفك، وخمدت نيران الكفر، وهدأت دعوه الهرج، واستوسق نظام الدين، فأنّى حرتم بعد البيان، وأسررتم بعد الإعلان، ونكصتم بعد الأقدام، وأشركتم بعد الإيمان؟ بؤسا لقوم نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤوكم أول مره أتخشونهم؟ فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين!!
ألا قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض، وأبعدتم من هو أحق بالبسط والقبض، وركنتم إلى الدعة، ونجوتم من الضيق بالسعة، فمججتم ما وعيتم، ودسعتم الذي تسوغتم، فان تكفروا انتم ومن في الأرض جميعا فان الله لغني حميد!!.
ألا وقد قلت ما قلت على معرفة مني بالخذلة التي خامرتكم، والغدرة التي استشعرتها قلوبكم، ولكنها فيضة النفس، وبثه الصدر، ونفثه الغيظ، وتقدمة الحجة، فدونكموها فاستقبوها دبرة الظهر نقبه الخف باقيه العار، موسومة بغضب الله وشنار الأبد موصولة بنار الله الموقدة، التي تطلع على ألا فئده، فبعين الله ما تفعلون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، وأنا ابنه نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فاعملوا أنا عاملون، وانتظروا أنا منتظرون)).
فأجابها أبو بكر فقال: يا ابنه رسول الله، لقد كان أبوك بالمؤمنين عطوفا كريما، رؤوفا رحيما، وعلى الكافرين عذابا أليما، وعقابا عظيما، فان عزوناه، وجدناه أباك دون النساء، وأخا إلفك دون الأخلاء، آثره على كل حميم، وساعده في كل أمر جسيم، لا يحبكم إلا كل سعيد، ولا يبغضكم إلا كل شقي، فانتم عترة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الطيبون، والخيرة المنتجبون، على الخير ادلتنا، وإلى الجنة مسالكنا، وأنت يا خيره النساء، وابنه خير الأنبياء، صادقه في قولك، سابقة في وفور عقلك، غير مردودة عن حقك، ولا مصدودة عن صدقك، والله ما عدوت رأي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا عملت إلا بأذنه، وإن الرائد لا يكذب أهله، فإني أُشهد الله وكفى به شهيدا، أني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول، نحن معشر الانبياء لا نورث ذهبا ولا فضة، ولا دارا ولا عقارا، وإنما نورث الكتاب والحكمة، والعلم والنبوة، وما لنا من طعمة، فلولي الأمر بعدنا أن يحكم فيه بحكمه، وقد جعلنا ما حاولته، في الكراع والسلاح يقاتل بها المسلمون، ويجاهدون الكفار ويجادلون المردة الفجار، وذلك بإجماع من المسلمين، لم انفرد به وحدي، ولم استبد بما كان الرأي فيه عندي، وهذه حالي ومالي، هي لك وبين يديك، لا تزوى عنك ولا تدخر دونك، وأنت سيدة أمة أبيك، والشجرة الطيبة لبنيك، لا يدفع مالك من فضلك، ولا يوضع من فرعك وأصلك، وحكمك نافذ فيما ملكت يداي، فهل ترين أني أخالف في ذلك أباك (صلى الله عليه وآله وسلم).
فقالت (عليها السلام): سبحان الله ما كان أبي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن كتاب الله صادفا ولا لأحكامه مخالفا، بل كان يتبع أثره ويقتفي سوره، أفتجمعون إلى الغدر اعتلالا عليه بالزور، وهذا بعد وفاته شبيه بما بغى له من الغوائل في حياته، هذا كتاب الله حكما عدلا وناطقا فصلا، يقول يرثني ويرث من آل يعقوب ويقول وورث سليمان داود فبين عزّ وجلّ فيما وزع من الأقساط وشرع من الفرائض والميراث، أباح من حظ الذكران والإناث، ما أزاح علة المبطلين وأزال التظني والشبهات في الغابرين، كلا، بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون.
فقال أبو بكر: صدق الله وصدق رسوله وصدقت ابنته، أنت معدن الحكمة، وموطن الهدى والرحمة، وركن الدين، لا ابعد صوابك، ولا أنكر خطابك، هؤلاء المسلمون بيني وبينك، قلدوني ما تقلدت، وباتفاق منهم أخذت ما أخذت، غير مكابر ولا مستبد ولا مستأثر وهم بذلك شهود.
فالتفتت فاطمة (عليها السلام) إلى الناس وقالت: معاشر الناس المسرعة إلى قيل الباطل، المغضية على الفعل القبيح الخاسر، أفلا يتدبرون القرآن؟ أم على قلوب أقفالها؟ كلا بل ران على قلوبكم ما أسأتم من أعمالكم، فاخذ بسمعكم وأبصاركم، لبئس ما تأولتم، وساء ما به أشرتم، وشر ما منه اعتضتم، لتجدن والله محمله ثقيلا، وغيه وبيلا، إذا كشف لكم الغطاء، وبان ما وراء الضراء، وبدا لكم من ربكم ما لم تكونوا تحتسبون، وخسر هنالك المبطلون.
ثم عطفت على قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالت:
قد كان بعدك أنباء وهنبثه
أنا فقدناك فقد الأرض وابلها
لو كنت شاهدها لم تكثر الخطبواختل قومك فاشهدهم ولا تغب
قال صاحب بلاغات النساء: فما رأينا يوما كان أكثر باكيا ولا باكية من ذلك اليوم.
وفاتها:
توفيت في الثالث من جمادى الآخرة سنة إحدى عشرة من الهجرة على المشهور، وكان عمرها صلوات الله عليها وعلى أبيها عند وفاتها، ثماني عشرة سنة.
وقد مرضت مرضا شديدا ومكثت أربعين ليله في مرضها إلى أن توفيت (عليها السلام) فقام أمير المؤمنين (عليه السلام) بجميع ما أوصته به فغسلها في قميصها وأعانته على غسلها أسماء بنت عميس.
قال ابن عبد البر في الاستيعاب: فلما توفيت جاءت عائشة تدخل فقالت أسماء: لا تدخلي، فشكت إلى أبي بكر، فقالت: إن هذه الخثعمية تحول بيننا وبين بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد جعلت لها مثل هودج العروس، فجاء فوقف على الباب فقال: يا أسماء ما حملك على أن منعت أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يدخلن على بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ و جعلت لها مثل هودج العروس؟ فقالت: أمرَتني أن لا يدخل عليها أحد، وأريتها هذا الذي صنعت، وهي حية، فأمرتني أن اصنع ذلك لها، قال أبو بكر: فاصنعي ما أمرتك ثم انصرف.
وكفنها علي (عليه السلام) في سبعة أثواب، وحنطها بفاضل حنوط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم صلى عليها، ودفنها في جوف الليل، وعفّى قبرها، ولم يحضر دفنها والصلاة عليها إلا علي والحسنان (عليهما السلام)، وعمار والمقداد، وعقيل والزبير وأبو ذر وسلمان، وبريدة ونفر من بني هاشم وخواص علي (عليه السلام).