وصول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة
- وصول رسول الله إلى المدينة بعد الهجرة، وذلك في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول من السنة الرابعة عشر من النبوة، مع تعقيب على المرحلة المكية
رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة
قَالَ ابن شهاب، فَأَخْبَرَنِي عروة بن الزبير، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَقِيَ الزبير فِي رَكْبٍ مِنَ المُسْلِمِينَ، كَانُوا تِجَارًا قَافِلِينَ مِنَ الشام، فَكَسَا الزُّبَيْرُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأبا بكر ثِيَابَ بَيَاضٍ، وَسَمِعَ المُسْلِمُونَ بِالْمَدِينَةِ مَخْرَجَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ، فَكَانُوا يَغْدُونَ كُلَّ غَدَاةٍ إِلَى الحَرَّةِ، فَيَنْتَظِرُونَهُ حَتَّى يَرُدَّهُمْ حَرُّ الظَّهِيرَةِ [1].
وفي النهاية وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة سالمـًا؛ وذلك في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول من السنة الرابعة عشر من النبوَّة، لتبدأ بذلك مرحلة جديدة مهمَّة جدًّا في السيرة النبوية، وهي مرحلة بناء الدولة الإسلامية!
تعقيب على الفترة المكية
بهذه الهجرة السعيدة الناجحة تمَّت مرحلة مهمَّة؛ بل مهمَّة جدًّا من مراحل السيرة النبوية، وهي المرحلة المكية، بكل أحداثها وآلامها ومشاكلها، وهي مرحلة ذات طابع خاصٍّ جدًّا، بدأ الإسلام فيها غريبًا، واستمرَّ غريبًا إلى قرب نهايتها، إلى أن آمن الأنصار رضي الله عنهم.
كان الاهتمام الرئيس لرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة هو بناء الجانب العقائدي عند الصحابة، فلا يؤمنون بإله غير الله تعالى، ولا يتوجَّهُون بعبادة لأحد سواه، ويتوكَّلُون عليه، ويُنيبون إليه، ويرجون رحمته، ويخافون عذابه؛ إنه الإيمان العميق بربِّ العالمين، وبرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وبإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وهو كذلك الاعتقاد الجازم أن هناك يومًا سيُبْعَث فيه الخلائق أجمعون، وسيقوم فيه الناس لربِّ العالمين، يُحَاسَبُون على ما يعملون، ولن يُظْلَم في ذلك اليوم أَحَدٌ، ولن تُغْفَل الذرة والقطمير، وإنها إما الجنَّة أبدًا أو النار أبدًا.
وإلى جانب العقيدة الراسخة، تعلَّم المؤمنون في هذه المرحلة الأخلاق الحميدة، والخصال الرفيعة، فهُذِّبَت نفوسُهم، وسمَتْ أرواحهم، وارتفعوا عن قيم الأرض وأخلاقها إلى قيم وأخلاق السماء؛ فقد نزل الميزان الحقُّ الذي يستطيع الناس به تقييم أعمالهم بصورة صحيحة، وعرف المؤمنون في هذه المرحلة أن الطريق الطبيعي إلى الجنَّة طريق شاقٌّ صعبٌ، مليء بالابتلاءات والاختبارات، فما تنتهي من امتحان إلا وهناك امتحان آخر؛ فالحياة كلها تعب، والله تعالى يُراقب العباد في صبرهم ومصابرتهم وجهادهم، ولن يُستثنى أحد من الاختبار، ويُبتلى المرء على حسب دينه.
ومع كون المرحلة بكاملها كانت عبارة عن فقرات مختلفة من الإيذاء والتعذيب؛ سواء على الروح أو على الجسد، فإنها كانت لا تخلو من سعادة؛ بل كانت في معظم لحظاتها سعيدة؛ لكن ليست السعادة المادِّيَّة الحسية التي يجدها الناس في طعام أو شراب أو شهوة، إنما سعادة الروح والقلب، وسعادة الطاعة لله تعالى، والأُنس بمعيِّتَه، وأيضًا سعادة الصحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بالإضافة إلى سعادة الأخوَّة والألفة بين المؤمنين، وسعادة الدعوة إلى الله عز وجل.
لقد كانت الفترة المكية الأساس المتين للصرح الإسلامي الهائل؛ فمن المستحيل أن يجتاز المسلمون خطوات كـبدر والأحزاب وخيبر وتبوك، دون المرور على فترة مكة، ومن المستحيل أن تُبنى أُمَّة صالحة، أو تقوم دولة قوية، أو يُخاض جهاد ناجح، أو يثبت المؤمنون في قتال ضارٍ، أو يقفون بصلابة أمام كل فتن الدنيا إلا بعد أن يعيشوا في فترة مكة بكل أبعادها، وعلى الدعاة المخلصين أن يدرسوا هذه المرحلة بعمق، وعليهم أن يقفوا أمام كل حدث، وإن قصر وقته، أو صغر حجمه، وقوفًا طويلاً طويلاً.
هنا البداية التي لا بُدَّ منها؛ فبغير مكة لن تكون هناك المدينة، وبغير المهاجرين لن يكون هناك أنصار، وبغير الإيمان والأخلاق والصبر على البلاء لن تكون هناك أُمَّة ودولة وسيادة وتمكين.
كانت هذه هي فترة مكة الجميلة! نعم الجميلة؛ لأنها تحكي قصة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما زالت لنا جولات مع فترة جميلة -أيضًا- من فترات حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. تلك هي فترة المدينة!