قد يتعَّجب البعض من اهتمامنا بالحديث عن العالم قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، على الرغم من أنَّه ضرورةٌ من ضرورات التعمُّق في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه؛ وليس ذلك ترفًا من القول نُسَوِّد به الصفحات، وإنَّما هو مقدِّمة لازمة لاكتمال فهم السيرة النبوية فهمًا كاملًا.
وذلك لأنَّه كما قال الأوَّلون: "بضدِّها تتبيَّن الأشياء". فلا يُمكن لقارئٍ أن يستوعب جمال السيرة النبوية وكمال صاحبها صلى الله عليه وسلم، ولا أن يُدرك سموَّ مبادئ الإسلام وعظمة تشريعاته إدراكًا تامًّا، إلاَّ إذا رأى مدى الانحطاط الذي وصل إليه العالم قبل الإسلام في كل مجالات الحياة؛ خاصَّة في المجالات الفكرية والإنسانية، كالعقائد والتشريعات والأخلاق والأسرة والعلاقات السياسية بين الدول.
فقد انحدرت كل القيم الإنسانية في طول الأرض وعرضها، ولم يبقَ على الكوكب أحد يتمسَّك بالدين والأخلاق إلا أفراد قلائل من أهل الكتاب..
وحينما نُتابع حال العالم قبل البعثة المحمدية لا بد من النظر في حالة أوروبا قبل البعثة النبوية وظهور الإسلام، وفي ذلك يذكر المؤرخ الفرنسي رينو [1] حال أوروبا قبل الإسلام، فيقول: «طفحت أوروبا في ذلك الزمان بالعيوب والآثام، وهربت من النظافة والعناية بالإنسان والمكان، وزخرت بالجهل والفوضى والتأخُّر، وشيوع الظلم والاضطهاد، وفشت فيها الأمية» [2]. ويصف البكري [3] بعض أصناف الصقالبة سكان المناطق الشمالية في أوربا، فيقول: لهم أفعال مثل أفعال الهند، فيحرقون الميت عند موته، وتأتي نساء الميت يقطعن أيديهن ووجوههن بالسكاكين، وبعض النساء المحبَّات لأزواجهن يشنقن أنفسهن على الملأ، ثم تُحرق الجثة بعد الموت، وتوضع مع الميت [4].
أمَّا الأمم الأوربية المتوغِّلة في الشمال والغرب فكانت تتسكَّع في ظلام الجهل المطبق، والأمية الفاشية، والحروب الدامية، لم ينبثق فيها فجر الحضارة والعلم بعدُ، ولم تظهر على مسرحها الأندلس الإسلامية لتُؤَدِّيَ رسالتها في العلم والمدنية، ولم تصهرها الحوادث، وكانت بمعزل عن جادَّة قافلة الحضارة الإنسانية، وكانت بين نصرانية وليدة، ووثنية شائبة، ولم تكن بذات رسالة في الدين، ولا بذات راية في السياسة [5].
يقول هـ. ج. ويلز [6] في كتابه (التاريخ المختصر للعالم): «ولم تكن في أوربا الغربية في ذلك العهد أمارات الوحدة والنظام» [7]. ويقول روبرت بريفولت [8] في كتابه (صناعة الإنسان The Making of Humanity): «لقد أطبق على أوروبا ليل حالك من القرن الخامس إلى القرن العاشر (بُعِث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوائل القرن السابع الميلادي)، وكان هذا الليل يزداد ظلامًا وسوادًا. وكانت همجية ذلك العهد أشدَّ هولًا وأفظع من همجية العهد القديم؛ لأنها كانت أشبه بجثة حضارة كبيرة قد تعفَّنت، وقد انطمست معالم هذه الحضارة وقُضي عليها بالزوال، وقد كانت الأقطار الكبيرة التي ازدهرت فيها هذه الحضارة وبلغت أوجها في الماضي كإيطاليا وفرنسا فريسة الدمار والفوضى والخراب» [9].
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــ
[1] رينو: جوزيف توسان رينو Joseph-Toussaint Reinaud (1210- 1284هـ= 1795- 1867م)، مستشرق ومؤرخ فرنسي اهتمَّ بالتأريخ للفتوحات الإسلامية لفرنسا وأوربا، أخذ العربية عن سلفستر دي ساسي ونشر كتبًا كثيرة، منها بالعربية كتاب «تقويم البلدان» لأبي الفداء، و«مقامات الحريري».
[2] جوزيف رينو: تاريخ غزوات أوربا، ص295، وراجع للمؤلف: قصة الأندلس من الفتح إلى السقوط 1/16-18، وماذا قدم المسلمون للعالم ص217، 218، وانظر: ويوهان هويزنجا: اضمحلال العصور الوسطى ص175.
[3] أبو عبيد البكري: عبد الله بن عبد العزيز بن محمد البكري الأندلسي (ت 487 هـ)، مؤرِّخ وأكبر جغرافي عربي بالأندلس وأشهر أديب في القرن الخامس الهجري، له تآليف كثيرة منها: الإحصاء لطبقات الشعراء، المسالك والممالك، معجم ما استعجم. انظر: الأعلام للزركلي 4/98.
[4] أبو عبيد البكري: المسالك والممالك 1/338.
[5] أبو الحسن الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، ص37.
[6] ويلز: هربرت جورج ويلز Herbert George Wells (1866 - 1946م) أديب، ومفكر، وصحفي، وعالم اجتماع ومؤرخ إنجليزي، يُعَدُّ من مؤسسي أدب الخيال العلمي، له كتاب موجز تاريخ العالم The Outline of History.
[7] نقلًا عن أبي الحسن الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، ص 37، 38.
[8] روبرت بريفولت Robert Stephen Briffault (1876-1948م) طبيب بريطاني شارك في الحرب العالمية الأولى ثم تحوَّل من الطب إلى الكتابات في الأنثروبولوجي والاجتماع.
[9] نقلًا عن أبي الحسن الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، ص51، 52.
د. راغب السرجاني