عاش الإنسان البدائي يستكشف الحياة وسبل العيش من حوله، وشيئًا فشيئًا تمكن الإنسان أخيرًا من صنع أساسيات وقواعد للحياة الأولية، ومن ثم بدأ في صناعة حضارة خاصة به، ومنذ اللحظات الأولى من وصول الإنسان إلى الشكل الحضاري؛ بدأ في البحث عن وسائل الترفيه، والتي أسفرت عن ظهور الألعاب، ولم تتوقف الحضارات القديمة عند اختراع الألعاب وحسب، بل أيضًا نصبت آلهة لهم، تحمي اللاعبين تارة، وتمنحهم الحظ تارة أخرى، في هذا التقرير نرصد أبرز الألعاب التي ظهرت في الحضارات القديمة.
السينيت.. الآلهة تلعب أولًا
يمكن القول إن الفراعنة أجادوا اللعب كما أجادوا بناء المعابد والمسلات، بل إن الفراعنة ذهبوا بألعابهم إلى أكثر من ذلك؛ فالألعاب وضعت لها أساطير وآلهة خاصة، ومن أبرز ألعاب الفراعنة القديمة لعبة السينيت، وتعني في اللغة المصرية القديمة «المرور»؛ وتُعد من أقدم ألعاب الألواح المعروفة في العالم، وغالبًا ما يُعثر عليها في مواقع دفن الأسرة الأولى، أي ما بين 3500 و3100 قبل الميلاد.

لعبة السينيت الخاصة بالملك توت عنخ آمون والموجودة في المتحف المصري بالقاهرة. مصدر الصورة: wikimedia
تقول الأسطورة الفرعونية إنه بفضل لعبة السينيت تمكن إله الحكمة تحوت من كسب ربة القمر، فتنازلت له عن خمسة أيام ضمها للعام الشمسي ليتمكن الإلهان نوت وجب من الإفلات من عقوبة الإله رع، وإنجاب أطفال، وتمكنت نوت من الإنجاب في هذه الأيام الخمسة؛ فولدت فيها آلهة مصر القديمة: أوزوريس، وست، وإيزيس، ونفتيس، وحورس.
كانت السينيت اللعبة الأكثر شعبية في مصر القديمة، وكان يلعبها شخصان متنافسان، إما على لوحات منحوتة ومتقنة مثل لوحة اللعبة التي عثر عليها في قبر الملك توت عنخ آمون، وهي من مقتنياته وموجودة في المتحف المصري بالقاهرة، وإما ترسم على الأرض، وتتكون لعبة السينيت من 30 مربعًا، وضعت في ثلاثة صفوف، ويضم كل صف 10 مربعات، تتحرك البيادق على تلك الصفوف مثل الشطرنج، لكن غير معروف طريقة اللعب.

الملكة نفرتيتي تلعب السينيت. مصدر الصورة: archeoblogue
كان المصريون القدماء يعتقدون أن اللاعب الناجح في سينيت محمي من إله الشمس رع، وإله الحكمة تحوت، وبحلول عصر المملكة الجديدة في مصر (1550- 1077 قبل الميلاد)، أصبحت لعبة السينيت نوعًا من التعويذة لرحلة الموتى، لذا كان من الشائع وضع لوحة اللعبة بجانب المقتنيات الأخرى في قبر الميت، بل بالغ المصريون في أمر لعبة السينيت فورد ذكرها في «كتاب الموتى» وهو من أقدم النصوص الدينية المعروفة في العالم، «يفتح قلبي لفحصه للعبة ضدي، أنا أتقدم للأمام ضد بيادقه».
القمار.. اللعبة المستمرة على مدار التاريخ
تختلف الأشكال والطرق ويبقى الرهان على الأموال في اللعب متعة بشرية، وإذا كان القمار الآن يحدث عبر الإنترنت وبطرق افتراضية بجانب الكازينوهات وأماكن اللعب في أرض الواقع، فإن القمار في الحضارات القديمة اتخذ أشكالًا عديدة، واختلف من حضارة لأخرى، لكنه احتفظ بمتعة الرهان وكسب الأموال وخسارتها.

جدارية قديمة توضح ألعاب القمار في اليونان القديمة. مصدر الصورة: 1reddrop
بدأ القمار وأشكال الرهان الأخرى منذ الحضارات القديمة في التاريخ البشري؛ فأول دليل ملموس جاء من الحضارة الصينية القديمة باكتشاف أحجار صغيرة تشبه العملات يعود عمرها إلى 2300 سنة قبل الميلاد، ويبدو أنها استخدمت في لعبة بدائية قائمة على الحظ؛ كما أشار «كتاب الأغاني» الصيني إلى أن تلك الأحجار جزء من لعبة اليانصيب، أدلة أخرى من الصين كشفت أن الدولة استخدمت اليانصيب باعتباره نوعًا من تمويل أعمال البناء بها بما في ذلك بناء سور الصين العظيم.
أحب الرومان القمار إلى درجة أزعجت الحكومة، فأصدرت قرارًا بحظر القمار داخل أسوار روما القديمة، وأي شخص كان يقبض عليه وهو يقامر يدفع غرامة أربعة أضعاف مبلغ الرهان الذي وجد أنه يراهن عليه؛ لذا لجأ المواطنون الرومانيون إلى فكرة رقائق المقامرة، حلًّا للتغلب على مشكلة حظر القمار، فإذا قبض عليهم يزعمون أنهم كانوا يقامرون فقط بالرقائق بدلًا من النقود الفعلية.
الحضارة اليونانية أيضًا كان لها نصيب في ألعاب القمار، ووفقًالـ«هوميروس» والنصوص اليونانية القديمة الأخرى نعرف أن ألعاب القمار كانت منتشرة انتشارًا كبيرًا في اليونان القديمة، بل أيضًا كان لها أماكن مخصصة مثل الكازينوهات اليوم، وكانت تلك الأماكن تحمل سمعة سيئة، يكتسبها من يذهب إليها، وكان الناس يفقدون ثرواتهم في القمار بالطريقة نفسها التي يفعلها المقامرون اليوم، وكان المقامرون يلجؤون لدعم الآلهة اليونانية مثل هيرميس، وهو إله القمار اليوناني، ووفقًا للأسطورة اليونانية فإن الآلهة نفسها لعبت «رمي الزهر» من أجل تقسيم الكون بينهم، وبالتالي كانوا يتضرعون للآلهة للفوز في القمار.
الزهر.. من مقبرة فرعونية إلى حصان طروادة
الزهر هو الحظ دائمًا، فكل ما يحمله الزهر لصاحبه هو الحظ سواء كان سيئًا أم جيدًا، هذا حال الزهر من قديم الأزل ومنذ اختراعه واللعب به أول مرة، الحضارات القديمة عرفت الزهر ومارسوا العديد من الألعاب به، ويعود تاريخ أقدم زوج زهر جرى اكتشافه إلى 3 آلاف سنة قبل الميلاد في قبر مصري، فالحضارة الفرعونية عرفت الزهر، لكن غير معلوم الألعاب التي لعبها المصريون بالزهر.

مجموعة من الزهر يعود تاريخها للعصر الروماني. مصدر الصورة: museum-of-artifacts.blogspot
الشاعر اليوناني «سوفوكليس» ادعى أن الزهر اخترعه بطل أسطوري خلال حصار طروادة، ورغم أن هناك تشكيكًا في هذا الإدعاء إلا أن هذا يؤكد أن الزهر كان موجودًا في الحضارة اليونانية القديمة، لكن تحديد الفترة الزمنية لظهوره ليس معروفًا، وأيضًا أنواع الألعاب التي لعبت به.
الحضارة الرومانية كالحضارة اليونانية عرفت الزهر أيضًا، وكان معظم الزهر يُصنع من العظام، والعاج، والبرونز، والعقيق، والكريستال الصخري، والرخام، والخزف، وغيرها من المواد، وجرى العثور على زهر مكعب يشبه عمليًّا الزهر الحديث في الحفريات الصينية من 600 سنة قبل الميلاد، كما عُثر على أول سجلات مكتوبة للزهر في «المهابهارتا» الملحمة السنسكريتية القديمة، والتي وضعت في الهند منذ أكثر من ألفي سنة.

نسخة من لعبة «Royal Game of Ur» والموجودة في المتحف البريطاني. مصدر الصورة:ancientgames
وعثر على زهر هرمي، وهو زهر ذو أربعة جوانب مع لعبة تعرف بـ«Royal Game of Ur»، وهي واحدة من أقدم ألعاب اللوح الكاملة التي جرى اكتشافها، ويعود تاريخها إلى الحضارة السومرية في الألفية الثالثة قبل الميلاد، كما عرفت الحضارات القديمة الغش في الزهر أيضًا، وصنعت أنواعًا من الزهر ملتوية صنعت خصيصًا للغش، ويكون الزهر منحوتًا من جانب أخف من الجانب الآخر، فيسقط الزهر على الجانب الأثقل، وعُثر على هذه الأنواع في مقابر مصر القديمة.
Latrunculi.. روما القديمة تفضل الشطرنج
لم يكن الشطرنج وليد عصر معين، بل إنه وليد تجارب ألعاب كثيرة مرت على عصور وحضارات مختلفة، فكل ألعاب الألواح التي تضمنت الذكاء وتحريك البيادق للقضاء على الخصم؛ ساهمت بشكل أو بآخر في الوصول إلى رقعة الشطرنج الحديثة، ومن هذه الألعاب لعبة «Latrunculi» والتي جرى اكتشافها في روما القديمة قبل الميلاد، وتشبه إلى حد كبير لعبة «Petteia» التي لعبت في اليونان القديمة، ويرى الكثيرون أنهما من الممكن أن يكونا نسختين للعبة نفسها.

نسخة من لعبة «Latrunculi» والموجودة في متحف كوينتانا. مصدر الصورة: wikipedia
لوحة هذه اللعبة عبارة عن مستطيل يتكون من مربعات صغيرة، هذه المربعات أحيانًا تختلف أحجامها. وأيضًا أعدادها 7×8، أو 8×8 أو 9×10، وتصنع القطع من الزجاج أو الأحجار الكريمة وبألوان وتصاميم مختلفة للقطع، وعثر على جداريات للعبة مع قطع بيضاء وسوداء وصفراء، كما عثر على قطع اللعب البيضاء والسوداء والزرقاء خلال أعمال التنقيب في مدينة تشستر البريطانية، وبعض القطع التي عثر عليها لها ثقب في الوسط، وبعضها مزينة بدوائر متحدة المركز.
لا تختلف قواعد اللعبة عن فكرة الشطرنج، لاعبان يلتقطان قطع بعضهما البعض، القطع تتحرك في كل الاتجاهات لكن لا تتحرك حركات مائلة كما في الشطرنج، والفائز هو اللاعب الذي يلتقط جميع قطع اللاعب الآخر، ويمكن أن تنتهي اللعبة أيضًا إذا أنشأ اللاعبون حصارًا ضد بعضهم البعض بحيث لا يمكنهم كسره.
الثعبان.. الرمز الحاضر دائمًا في الحضارة الفرعونية
حظي الثعبان في الحضارة الفرعونية القديمة بالكثير من الاهتمام والقدسية أيضًا، وربما لم يحظَ حيوان بكل هذا القدر مثله، فالثعبان كان تارة يمثل الخير وتارة يمثل الشر، فهناك الحية «وادجت» وهي في الديانة المصرية ابنة الإله رع، وكانت توضع على تيجان ملوك مصر وفوق جبينهم؛ لتؤدي دورها في حمايتهم، وهناك الحية «ميريت-سيجر» وكان دورها حماية أرواح البشر في العالم الآخر، وثعبان «نحب-كاو» الذي يمنح الإنسان الطاقة الحيوية، وغيرها، ولم يغفل الفراعنة أن يحتفظوا بقدسية الثعبان حتى في الألعاب فكانت لديهم لعبة شعبية خاصة به.

نسخة من لعبة الثعبان. مصدر الصورة: ancient-egypt-online
لعبة الثعبان، وهي من ألعاب اللوح والتي لعبت على طاولة ذات رجل واحدة، وعثر على أكثر من 12 مجموعة من هذه اللعبة في مقابر الأسرة الأولى، ويبدو أن المصريين ولعوا بها لأنها كانت تعتمد على المهارة وليس الحظ الخالص؛ كما في ألعاب الزهر والتي عرفها المصريون أيضًا.
كان لوح اللعبة على شكل ثعبان ملفوف، غالبًا ما ينحت في اللوح ويوضع في الوسط؛ مقسم إلى عشرات من مربعات اللعب على طول جسم الثعبان، اختلف عدد الأقسام أو مربعات اللعب بشكل كبير ولكن اللوحة النموذجية أتت مكونة من ثلاث قطع على شكل أسد، وست قطع من الرخام الملون بشكل مختلف للاعب، ومثلهم للاعب الآخر، ورغم أن قواعد اللعبة وحركاتها غير معروف لكن يمكن القول إنها كانت لعبة سباق وإطاحة القطع كما في الشطرنج، ومن المرجح أن الفائز هو الذي يجعل أسوده تطيح بأسود خصمه، ويعتقد بعض علماء الآثار أن اللعبة كانت تستوعب عدد لاعبين يصل إلى ستة.