الجوع وحده يظل أخطر أعداء الإنسان
* عزيز ضياء
في المجاعات يختلف الشعور بالجوع عن هذا الذي نشعر به كل يوم حين تتوفر لدينا كل أنواع الطعام، قال عنه القدماء: «الجوع مفسدة الأرواح، أجع كلبك يتبعك»، وللمجاعات تاريخ طويل اقترن بالحروب، حتى بلغ من شدته في أحد الأزمان أن اقتات الأحياء على لحوم الأسرى، ونبشوا القبور للتقوت على عظام الموتى البالية.
وعلى الرغم من أن الإنسان قد بلغ هذا القدر من التطور، حتى أصبح العالم كله قرية صغيرة، إلا أن تاريخ المجاعات ظلَّ حاضرًا، لتشهد اليمن الآن واحدة من أسوأ مجاعات القرن الفائت؛ إذ أدى حصار قوات التحالف – بقيادة السعودية – إلى نقص واردات الغذاء والمساعدات التي كان يعتمد عليها السكان في سد جوعهم.
تقول عن ذلك أشواق محرم، وهي طبيبة بمدينة الحديدة: «أنا أشاهد نفس الوضع الذي كنت أشاهده على التلفاز عندما ضربت المجاعة الصومال، ولم أتوقع يومًا أن أشاهد هذا الوضع في اليمن». قضت أشواق الأسابيع وهي تزور مدنًا وقرىً قرب ميناء الحديدة، والذي كان حتى وقت قريب المصدر الرئيس لحوالي 70% للواردات اليمنية من الغذاء، أما الآن فقد تحطم الميناء تمامًا إثر الضربات الجوية لقوات التحالف، تصف أشواق الموت الذي أصبح قرينًا بأهل اليمن قائلة: «إن لم تقتلك القذائف، فسيقتلك الجوع والمرض. وأبشع أنواع الموت تلك الناتجة عن المجاعات».
وإن كانت مجاعة اليمن هي الأسوأ، فقد عانى العالم العربي خلال المائة سنة الأخيرة من مجاعاتٍ أخرى أودت بحياة الآلاف، واقترنت بالحربين العالميتين الأولى والثانية.
المجاعة اللبنانية.. مات فيها ربع سكان جبل لبنان
سرد الكاتب اللبناني توفيق يوسف عواد في روايته «الرغيف» تأريخًا لتلك المأساة التي عانى منها اللبنانيون إبان الحرب العالمية الأولى، والتي استمرت من 1914 وحتى 1918، ويهدي عواد روايته إلى أبيه قائلًا: «لقد قدمت أنت إليَّ في أيام الحرب الكبرى وإلى إخوتي وأخواتي أرغفة سكبت لها عرق جبينك ودم قلبك في عهدٍ تخلى فيه الأباء عن أبنائهم».
ويصف الكتاب في روايته بعض مشاهد الجوع التى رآها قائلًا: «امرأة مستلقية على ظهرها، غزا القمل جسدها، تعلق بها رضيع ذو عيون كبيرة، يعصر ثديها بأصابعه الصغيرة ويتركه باكيًا يائسًا من ظهور الحليب»، كانت تلك هي الفترة التي بيع القمح فيها بأسعارٍ خيالية، وعجز معها الأهالي اللبنانييون عن إطعام أولادهم وأنفسهم.
لم تكن لبنان التي نعرفها اليوم قد تواجدت قبل نهاية الحرب العالمية الأولى؛ إذ كانت وقتذاك مجرد منطقة جبلية تحت حكم شبه ذاتي تحت رعاية الإمبراطورية العثمانية؛ وقد عانى جبل لبنان حينها من مجاعة ضارية التهمت أكثر من ربع سكانه، وذلك إبان الحرب العالمية الأولى.
كانت بداية المجاعة تتلخص في حاجة الجنود الألمان للحبوب الغذائية، وفي عام 1916 ونتيجة للحصار البحري للقوات الألمانية طلب الرايخ من الدائرة التجارية بحث مسألة استحواذ ألمانيا على المواد الزراعية من الدولة العثمانية.
وثائقي عن مجاعة جبل لبنان إبان الحرب العالمية الأولى
كان الجنود الألمان يعملون على سحب الحبوب الغذائية من حلب وبيروت وطرابلس طوال سنوات الحرب، فيقول عن ذلك نصر الله البكاسيني: «ضرب الغلاء الفاحش لبنان في السنة الأخيرة من الحرب 1918؛ إذ كانت ألمانيا تبتاع ما تستطيع من الحنطة السورية بأثمانٍ يعجز المواطنون عن الشراء بمثلها، وكان لديهم زهاء 20 ألف سيارة تنقل الحبوب إلى بلادهم».
وجاء في تقرير يوضح حجم معاناة الناس في بيروت والجبل، رفعه السفير الألماني في إسطنبول إلى رئيس الوزراء: «بالنسبة إلى الطبقات الوسطى والفقيرة يشتد الصراع للبقاء على قيد الحياة صعوبة؛ وذلك لارتفاع الأسعار، وانهيار قيمة العملة (كانت الليرة التركية حينذاك)، إضافةً إلى عدم استطاعة السلطات تأمين رغيف الخبز للناس؛ إذ انخفضت حصة الفرد من 200 جرام إلى نحو 100 جرام، إلا أن البعض لم يجد حتى تلك الكمية ليقتات عليها».
وقد كتب القنصل الألماني في بيروت تقريرًا آخر إبان الحرب ورد فيه: أن عدد سكان لبنان انخفض منذ اندلاع الحرب بنسبة الربع؛ وذلك بسبب المرض والجوع ونقص الغذاء، وكان عدد ضحاياها حوالي 200 ألف ضحية.
مجاعة أرض الحجاز.. أُكلت القطط والكلاب وجثث الموتى
بعد حصار أرض الحجاز والمدينة المنورة من الجيش الهاشمي خلال الثورة العربية، والتي كانت تهدف إلى إجلاء الاحتلال العثماني للبلاد، تم تهجير أغلب سكان المدينة المنورة بعد أن عانوا من ويلات الحرب وضيق العيش في قطارات الحجاز «البابور»، وهي الرحلة التي أطلق عليها فيما بعد «سفر برلك»، وتعني التهجير الجماعي، والذي اتبعه العثمانيون لتحويل المدينة المنورة إلى ثكنة عسكرية إبان الحرب، بعد أن استولوا على الحبوب الغذائية فيها لإطعام الجنود، كما حجز فخري باشا على كل ما يؤكل من أرز وحنطة وتمر وغيرها، وتم وضعها في مستودعات الجيش، فلا يعطي لأهل المدينة منه شيئًا.
بلغ من قسوة الحصار أن من بقى من أهل المدينة أكل القطط والكلاب وجثث الموتى وهم لا يعرفونها *المؤرخ علي حافظ
يصف علي حافظ في موسوعته «فصول من تاريخ المدينة المنورة»، شدة الجوع قائلًا: إن الأهالي منهم من أكل لحوم القطط والكلاب وجثث الموتى دون معرفةٍ منهم؛ إذ كان الباعة يبيعونها عوضًا عن لحوم الماشية.
وعن سفر برلك يقول: إن من رفض التهجير من أهل المدينة وبقي فيها أُجبر على العمل الشاق لبناء القلاع ومد خطوط السكك الحديدية، وكان مقابل يوم العمل الشاق نصف رغيف فقط، هو كل قوت يوم العامل، ويضيف حافظ أن فخر الدين باشا الوالي التركي أراد تفريغ المدينة من سكانها لينعم بالهدوء، ويتفرغ للعمل الحربي، فتم شحن الأهالي شحنًا في القطارات.
عانى كل من بقى من أهالي المدينة المنورة فيها من المجاعة، يقول حافظ إنه بلغ من هول الحصار وهوان الأموال أن باع واحد من أهالي المدينة منزله بكيسٍ من الأرز.
مجاعة الشام.. شراء الخبز بالذهب
مئات من الهياكل العظمية، لنساء ورجال وأطفال، تمشي في الشوارع بلا حافز، ولا أمل، سوى الحصول على جرايتها من الخبز الأسود الذي لا يكاد يصل إلى الأيدي حتى تنهشه أفواه الهياكل العظمية بنهمٍ رهيب *عزيز ضياء
يحكي عزيز ضياء في سيرته الذاتية «حياتي مع الجوع والحب والحرب» عن مجاعة أهل الشام التي عايشها بنفسه طفلًا صغيرًا إبان الحرب العالمية الأولى، يقول عن ذلك إن أقسى ما يتذكره من طفولته مشاهد الجوع وحمى مرض التيفود الذي مات على أثره الآلاف. كان ضياء واحدًا ممن سافروا من المدينة المنورة إلى الشام عبر البابور (قطار الحجاز)، وهناك عاش مجاعة أهل الشام بعد أن انقطع عنهم حتى هذا الخبز الأسود الذي كانوا يقومون بشرائه بأثمانٍ باهظة.
يقول ضياء: «كان الجوع شيئًا لا أزال أقول حتى اليوم إنه أخطر ما يتعرض له الإنسان من مصائب وكوارث»، مُشيرًا إلى أن أهل الشام عرفوا هذا الجوع الذي حولهم إلى مجرد هياكل عظمية تجوب الشوارع بحثًا عن لُقمة عيش مُلقاة على الأرض، أو عظمة بالية زهد فيها كلب وتركها على الطريق، وما أن يجد أحدهم تلك اللقمة ويهم ليضعها في فمه، حتى تتخطفها من بين فكيه أيادي الجائعين.
كانت الشام إحدى هذه المدن التي استولى الألمان على الحبوب الغذائية منها لإطعام جنودهم؛ إذ يؤكد شهود محليون مسؤولية الألمان عن سحب الحبوب من سوريا طوال سنوات الحرب، فوصف الشيخ علي الطنطاوي أحد سكان دمشق سنة الجوع في الشام، قائلًا: «كان الناس يقفون أرتالًا أمام الأفران يطلبون الخبز بالذهب، فلا يجدونه»، مُشيرًا إلى أن الألمان استأثروا بأطايب القمح، وتركوا للناس شراء الحنطة وأسوأ الشعير.
مجاعة المغرب العربي.. أكل الجراد وحشائش الأرض
عانى المغرب العربي هو الآخر من الكثير من المجاعات، إلا أن «عام البون»، أو مجاعة عام 1945، تعد هي الأكثر خطرًا وقسوة في تاريخ المغرب العربي؛ إذ عانى المغاربة حينها من استنزافٍ مستمر للمواد الغذائية بهدف تمويل المجهود الحربي الفرنسي إبان الحرب العالمية الثانية.

المغرب العربي – مصدر الصورة ويكيبيديا
وأمام انعدام القوت، وقلة الموارد الغذائية لجأ المغاربة إلى تعويض ذلك عن طريق بعض الأعشاب التي كانت تخلط بالطحين لصنع الخبز، وعلى الرغم من تسبب بعض هذه الأعشاب في تقرحات بالمعدة إلا أنها كانت أهون عليهم من بطش الجوع.
سعى الجيش الفرنسي لتلميع صورته، فهو المنقذ للأراضي المغربية من الفقر والجهل؛ مما جعلهم يخفون أخبار المجاعة التي تسببوا بها، ويعملون على طمسها، في الوقت الذي أكل فيه المغاربة من حشائش الأرض وبلوط الغابات، وأصبح الجراد المقلي والمشوي في بعض المناطق وجبة أساسية كبرى، ولجأ الكثير من الفلاحين أمام ما ألحقته المجاعة من أضرارٍ إلى أراضيهم الزراعية، حتى أن بعضهم قد تنازل عن أرضه مقابل طعام يسد به رمق أبنائه، وبلغ الفقر من الناس أنهم كانوا يرتدون ملابسهم حتى تبلى، فلا يستطيعون شراء غيرها، حتى بلغ الأمر ببعض الناس أن نبشوا القبور بحثًا عن أكفانٍ يرتدونها.
كانت من نتائج هذه المجاعة انتشار الأمراض والأوبئة بين أهالي المغرب العربي، فأصاب التيفود والطاعون والسل والرمد والحصبة كثيرًا من الناس، حتى أصبحوا يتساقطون صرعى في الطرقات من المرض والجوع، ونهشت الكلاب بعض الجثث، وقدر البعض عدد الهالكين في هذه المجاعة حوالي 300 ألف فرد.
مجاعة الموصل.. العراك على الخبز
لم يكن العراق بعيدًا عن المجاعات التي تسببت بها الحرب العالمية الأولى؛ إذ تعرض العراق إلى مجاعة ضارية منذ أواخر عام 1917 وحتى صيف عام 1918، وقد ظهرت المجاعة في الموصل والمنطقة الممتدة إلى الشمال منها حتى بغداد؛ وذلك نتيجة لرداءة الموسم الزراعي عام 1917 وموجات البرد والثلج.
إلا أن السبب الرئيس وراء المجاعة كان تزايد احتياجات الجيش العثماني إلى الموارد التموينية، وذلك بعد انسحابه من بغداد وفقدانه الكثير من المؤن أمام قوات الاحتلال البريطاني.
أما عن أحداث المجاعة فيرويها عبد العزيز القصاب في مذكراته قائلًا: «وصلت إلى الموصل مساء ذلك اليوم، وقد رأيت جثث الأموات منتشرة على طول الطريق، بصورة تفتت الأكباد»، مُضيفًا أنه كان يشاهد الفقراء والمهاجرين في أزقة المدينة وشوارعها، يختبئون تحت دكاكين البقالين، يتصيدون المشترين، وما أن يشتري أحدهم طعامًا أو خبزًا حتى يهجم عليه الجياع، سالبين منه ما اشتراه، وما أن ينهبوا الخبز حتى يتعاركوا فيما بينهم عليه، ويغتصب كل واحد منهم اللقمة من فم رفيقه.
وكان مأمورو البلدية ومعه الحمالون يتجولون في الطرقات والأسواق كل صباح لإزاحة جثث الموتى جوعًا عن الطريق، كأنما يجمعون الحب والنفايات