“وجودنا يا حافظ لغز كبير .. الإجابات عبث، والحلول أساطير”.
ببيته هذا يلخص حافظ الشيرازي فلسفته ومعاناته الوجودية. هو فارسي الدم إسلامي النشأة. يتقلب في حيرته بين خليط معتقدات فارسية قديمة بتقاليد مجتمع أصبح إسلاميًّا، وبين تمرده الإنساني الخاص. الأساطير الفارسية القديمة تُنَصف سلطة العالم بين إلهين، «أهورامزدا» إله الخير يحكم كل ما هو جميل، و«أهريمن» إله الشر، بسببه يوجد القبح. في الأديان التوحيدية يبرر الخير والشر بنحو مختلف. كل خير أو شر يسير بالقدر الإلهي، لكن الإله نفسه تجسيد مطلق لكل خير وجمال. «ماذا عن الشر إذا؟» سؤال تتمحور حوله أسئلة حافظ، وقصائده وحياته.
حافظ الشيرازي هو الشاعر الفارسي الأكثر إثارة للجدل حتى بعد أكثر من 600 عام من وفاته. ألفت عنه آلاف الرسائل والكتب والمقالات. لكن كلما زادت الدراسات عنه أصبح لغزه أكبر.
هو الشاعر الذي يستخرج العوام من قصائده حظهم وطالعهم. يحوز ديوانه مكانة وقدسية قد لا يعلوها في قلوب أهل الفارسية كتاب بشري. يلقبونه بلسان الغيب ويحيطون ديوانه بهالة عجيبة من القدسية. هو أيضًا الشاعر الذي كفره وأخرجه من الملة كثيرون، واختلفوا حول كونه صوفيًا أم زنديقًا، عارفًا بالله أم كافرًا به؟ زاهدًا عابدًا أم مسرفًا سكيرًا؟
هو شاعر تحتمل أشعاره أكبر قدر ممكن من التفسيرات المختلفة، بل والمتناقضة تمامًا. ربما لهذا مازال الإيرانيون يتوارثون جيلًا بعد جيل استخراج طالعهم من قصائده؛ فشعره قابل للتأويل بحسب النوايا، قابل للإسقاط على أنماط الحياة باختلاف الأزمنة والأمكنة.
[c5ab_video c5_helper_title=”” c5_title=”” url=”https://www.youtube.com/watch?v=aoyDQSqRHdA” width=”650″ height=”450″ ]
خمسمائة قصيدة تقريبًا هي كل ديوان حافظ، يمكن حذف أكثر من ثلثيها بتجاهل المعاني المكررة، ليصبح الناتج 150 قصيدة تقريبًا. إذًا هو أحد أصغر الدواوين في تاريخ الأدب الفارسي.
لا تنتهي غرابة حافظ هنا، إذ تبدو نشأته شديدة الاعتيادية والبساطة لا تنبئ بمستقبل باهر، لم يسافر أبدًا سوى سفر سريع لإحدى مدن فارس، ثم عاش بقية حياته في شيراز في زاوية بسيطة، لم يعرف عنه تكسبه من أي مهنة أو أي إنجازات خاصة. يكتب الشعر فقط، ويثير الأسئلة، وكأنه خلق ليسأل، ثم ليكتب شعرًا قوامه المجاز والكناية، ليثير بدوره أسئلة أخرى أكثر مما يقدم إجابات. لكن بالرغم من حياته الاعتيادية، تحيط هالة أسطورية بشعره وموسيقاه، وتثار الأسئلة حوله بلا توقف.
الأكثر عجبًا أنه قد عاش في فترة من انحطاط التاريخ الإيراني. العظماء غالبًا ما يخرجون من رحم الازدهار. لكن حافظ عاش في عهد حكم آل المظفر، وهي أسرة ضعيفة ربما لم يكن ليذكرهم أحد لولا معاصرتهم لحافظ. في عهد قتل الإخوة بعضهم بعضًا من أجل الحكم، عهد الحروب المستمرة، النفاق، الرياء والتعصب، لمع اسم حافظ.
وصل حافظ بالشعر الفارسي درجة لم يصلها أحد قبله ولا بعده. شعره يوصف بأنه أرضي وسماوي معًا. أرضي لأنه يتطرق للمسائل الإنسانية المحسوسة. سماوي لأنه يبينها بطريقة تخرج المرء من حالته الأرضية، شعره ترجمة للحالة الثنائية للإنسان الأرضي الحالم بالسماء. كان حافظ عالمًا بفنون الموسيقى بلا شك، بل إنه ببراعة كبيرة يدمج المعنى والموسيقى معًا. هو الشاعر الغنائي الأكبر في الأدب الفارسي، بدأ تعلم المقامات الموسيقية من تلاوته للقرآن الذي حفظه في طفولته بـ 14 رواية مختلفة ليحصل على لقبه «حافظ».
يزور الإيرانيون قبر حافظ باستمرار
شعر حافظ هو أحد أكثر الأشعار صعوبة في الترجمة، في الحقيقة هو غير قابل للترجمة أبدًا. أشعاره تدب بعمق في جذور التاريخ والثقافة الإيرانية. مليئة بالسخريات والنكات والاستعارات والكنايات التي لا يمكن بحال ترجمتها. لكن مع هذا حتى شعره المترجم استطاع لفت أنظار العالم.
“حافظ هو قمة إعجاز الأدب الشرقي، قراءة أشعاره بدلت حالي تمامًا، إن الذي يعرف هذا الصديق السماوي مرة، لا يستطيع تركه أبدًا” الشاعر الألماني جوته.

قصائد حافظ تشبه مبنى من طبقات متداخلة متراكمة. ربما كمسجد أيا صوفيا المبني فوق كنيسة مبينة بدورها فوق معبد رومي. يشبه ديوان حافظ مسجدًا صوفيًا تُرى بداخله الآلهة الإيرانية القديمة: ميترا أو آناهيتا. فديوان حافظ بعد الشاه نامه هو أكثر الكتب إظهارًا للثقافة الفارسية وتاريخها وحضارتها.
هو بناء يُرى بداخله عطش الحياة الذي يثير الأسئلة في نفسه، يحمل بداخله الفرح والحزن معًا. هو آسف لكل القبح والنقص في الحياة: كالشيخوخة، والمرض والموت. لكنه ضعيف أمام نعم الحياة. مثل «الربيع، والجمال، والكتاب، وركن أخضر آمن». تتجاور في قصائده المشاعر، كعادته في الجمع بين المتناقضات.
«حافظ لم يكن إنسانًا كاملاً، لكنه كان كامل الإنسانية».

– بهاء الدين خرمشاهي
العشق هو الإطار الذي تدور فيه القصائد كلها، حافظ لا يكتب إلا الغزل تقريبًا، لكن غزله يتسع لكل معاني الحياة وفلسفاتها، الماضي والحاضر، الوجود والعدم. العشق عند حافظ هو الحاجز الذي لا يفهم قبله المرء المعنى من وجوده.
واسكر بكأس العشق قبل مماتك، فما عرفت معنى الحياة لو لم تذق في حياتك عشقًا!
لغة حافظ الساخرة فريدة من نوعها في الأدب الفارسي. يسخر حافظ من المنافقين، والشيوخ المزيفين والحكام الطغاة. السخرية هي سلاحه للاعتراض والتخفي معًا. بين كماشة الطغاة والشيوخ المتملقين يكون الاعتراض خطرًا لدرجة لا يمكن معها تبيينه بالجد، يلجأ حينها حافظ للهزل والسخرية، بسخريته اللاذعة التي لم يتقنها أحد مثله.
يتخلل ديوان حافظ بعض أبيات المدح. لكنه مدح الفخور بنفسه وليس المذل لها، مدح يقترن دائمًا بالنصيحة لمن يمدحه، ليبقي على كبريائه. يحاول أن يتجنب شعر المدح، لكنه يصبح ضرورة أحيانًا كدرع للدفاع عن نفسه ضد منتقديه.
ديوان حافظ جمع بناء على 14 نسخة خطية من سامعيه. بين كل النسخ اختلافات في ترتيب الأبيات والكلمات نفسها، هو الديوان الشعري الأكثر اختلافًا في نسخه في تاريخ الأدب الفارسي كله.
الاختلاف بين النسخ عائد لشخصية حافظ نفسها، ونوع شعره، وطريقة عمله، وزمانه. حافظ رجل شكاك ومحتاط. لكنه في نفس الوقت مصمم على إخراج كل ما في قلبه من أسئلة وتمرد. بطريقة لا تثير الفتن ولا تعرض حياته للخطر. من بين كل شعراء الفارسية قد يكون حافظ الوحيد الذي لم يجمع ديوانه في حياته. لم يحرص حافظ وهو أشعر شعراء الفارسية ولم تكن له مهنة سوى الشعر، على تخصيص وقت صغير لجمع أشعاره! بالرغم من أن جمع 500 غزل ليس بالأمر الصعب. لماذا إذًا؟
يروى عنه قوله إن ما يمنعه من جمع قصائده غدر الزمان، يبدوأنه كان يحترس من المضايقات وحسد المنافسين وغضب الغوغاء والعوام. فلم يرد يومًا أن تتحول أشعاره إلى مجموعة كاملة في يد أحدهم. ولولا أن بعض أصحاب النفوذ قدموا دعمًا لحافظ، لربما هددت أشعاره حياته.
حتى بعد عزل مبارز الدين، الطاغية الذي ينتقده كثيرًا في أشعاره، كان يفضل حافظ أن تظل أشعاره متفرقة وربما يتعمد إلقاءها بروايات مختلفة، كأن يلقي بيتًا بكلمة معينة ثم يلقيه في مكان آخر وقد غير تلك الكلمة. بعض أشعاره كانت مجلبة للمشاكل. فكان يكتب منها نسخة لأخص الخواص، ونسخة للعوام يغير منها كلمة أو حرفًا فقط فيختلف المعنى أو حتى ينعكس، في براعة قل نظيرها في الأدب الفارسي.
حافظ كان شاعرًا سياسيًا، فمن الكياسة إذًا ألا يتجاوز الحدود التي لا يستطيع العودة منها. لهذا كان شاعر المجاز والكناية والاستعارة كما لم يكن شاعر قبله، كان شاعر الإبهام والإيهام. كأن شعره يخبئ تحت مجازاته طبقات من المعنى ودرجات منه. تعلم أن الحياة لا تحب من يجابهها بوضوح، أو أن الشعر كان ذاك الجانب من الحياة الذي يأبى حافظ أن يعريه، فاحترف اللعب باللغة.
يقول أحد جامعي ديوانه:

«حيَّر بتأويله الموافق والمخالف وأطرب بموسيقاه الملك والفقير، والعالم والعامي».
يبدو أيضًا أن حافظ أراد أن تبقى أبياته مفتوحة للتعديل حتى نهاية عمره، تارة ليكمل تعديل الأبيات أدبيًا فيجعلها أفضل، وتارة ليعدلها بمقتضى تغيرات أفكاره ومقتضى الزمان. وكأن أشعاره كانت تتبع حياته وتأخذ شكلها، ينضج فتنضج معه، يغير أفكاره فتتغير معه. في شبابه مثلاً كان يصف معشوقه بكلمة نازك أي رقيق بينما نفس القصائد رويت عنه في أواخر حياته يصف فيها معشوقه بـ “زيرك” أي فطن!
كان حافظ طالبًا للكمال، موسوسًا بأشعاره حد الهوس. وكأن الشعر سبيله لنيل اكتماله الخاص. فاعتاد تعديل وضبط أشعاره مرات لا نهائية في عقله.
هو شاعر مقل في شعره. مقارنة بالآخرين فإن الشعر الباقي من حافظ قليل جدًا. باعتبار أنه بدأ رحلته الشعرية منذ كان في العشرينات، فإنه أمضى 50 عامًا من عمره شاعرًا. ألف إذاً قصيدة واحدة كل شهر تقريبًا! معدل قليل جدًا بالنسبة لمن يكن له شغل سوى الشعر.
على كل حال فإن حافظ هو رجل الكيف لا الكم. يسعى إلى ضغط غزلياته وتحسينها قدر المستطاع. ليس مستبعدًا حتى أنه تعمد إتلاف قصائده الأقل مستوى. كل الشعراء من الفردوسي وحتى شكسبير لهم أعمال متوسطة أو حتى سيئة، ربما أكثر من أشعارهم الممتازة. لكن حافظ لم يسمح للرداءة أن تداخل ديوانه. كان يمضي وقته في تنقيح وتهذيب غزلياته بدلاً من إنشاد غزليات جديدة. لهذا من المنطقي أن يغير بعض الكلمات والحروف بعد انتشار الأشعار وأن نجد اختلافات كثيرة بين النسخ. النسخ المختلفة بعيدًا عن التزوير المتعمد تحكي قصة رحلة حافظ بشعره نحو الكمال.
تروى عنه قصة لا يعرف إن كانت حقيقة أم أسطورة، لكنها تضاف إلى قائمة طويلة من الغموض حوله. يقال إن في جنازته اختلف البعض على دفنه في مقابر المسلمين، فلجأوا إلى أشعاره يستخرجون منها بيتًا، فكان البيت:
لا تتخلف عن جنازة حافظ، فهو ذاهب للفردوس ولو كان عاصيًا.
حمل حافظ حيرته معه إلى قبره، لكنه أبقى آثارها في شعره، ووزعها على العالم.