تناول تقرير على موقع «The Conversation» من إعداد توم ماكليش – أستاذ الفيزياء في جامعة دورهام بإنجلترا – الجدل المتواصل منذ القدم بشأن العلاقة بين الدين والعلم، وما إن كان حقًا ثمة تعارض بينهما.
وأوضح ماكليش أن وسائل الإعلام ما انفكت تؤكد أن الدين والعلم طرفان متنافران؛ فالعلم لا يعترف إلا بالحقائق المثبتة، أما الدين فيرتبط بما يؤمن به الإنسان حتى لو لم يكن ثمة دليل يدعمه. لكن ماكليش يرى أن الافتراض السابق ليس صحيحًا. فالعلاقة بين الدين والتطور العلمي أكثر تعقيدًا وأهمية بكثير مما يظن البعض. وإذا ما أعدنا النظر في وجهة نظرنا حول العلاقة بين العلم والدين، فقد يحظى العلم بدعم أكبر من الرأي العام.
اقرأ أيضًا: مترجم: الغضب «جنون مؤقت».. تعرف على نصائح الفلاسفة للتحكم في الغضب
وقال ماكليش إن التفكير العلمي والروحي مرتبطان منذ الأزل. فقد أسس الفيلسوف اليوناني الشهير أرسطو النمط الغربي لدراسة الطبيعة في القرن الرابع بعد الميلاد. ومع أن معظم أعماله قد فُقدت عند انهيار الإمبراطورية الرومانية، إلا أن العالمين العربيين المسلمين ابن سينا وابن رشد قد أعادا اكتشاف نظريات جديدة في عالم الطبيعة. تجدر الإشارة إلى أن المسلمين كان لهم السبق في العديد من الاكتشافات في مختلف مجالات الحضارة الإنسانية العلمية والنظرية.
كان لاكتشافات أرسطو تأثير هائل على علماء أوروبا في العصور الوسطى – يشير ماكليش – الذين كانوا يتبعون إحدى المؤسسات الدينية عادة. ومن الأمثلة الرئيسية على ذلك أسقف لينكولن وعالم اللاهوت في أكسفورد في القرن الثالث عشر، روبرت جروسيتيست. فقد قدم رؤية جديدة للكون، ووضع الأسس الأولى لعلم التجربة، وحتى نظرية «الانفجار الأعظم» الخاصة بنشأة الكون ومفهوم الأكوان المتعددة.
ولكن تكمن في أعمال جروسيتيست فلسفة أعمق وأكثر تطورًا من الطبيعة. في تعليقه على «تحليلات أرسطو الثانية»، يصف منحى فريدًا من نوعه يدعوه باللاتينية «سوليرتيا»، ويعني نوعًا من القدرة المكثفة والحساسة على النظر إلى أبعد من سطح العالم المادي نحو هيكله الداخلي.
Embed from Getty Images

تمثال للفيلسوف أرسطو في حديقة باليونان.
يشير ماكليش إلى أن هذا يشبه إلى حد كبير نهجنا في العلم اليوم. وصف إسحاق نيوتن أعماله بأنها «نظرة أعمق من نظرات الآخرين». أما بالنسبة إلى جروسيتيست، فإن قدرتنا على التعمق في التحليل هي منحة من الله. إنها مهمة ذات دوافع لاهوتية تساهم في إشباع حاجات الإنسان.
كانت الدوافع اللاهوتية هي السبب وراء سعي الفيلسوف فرانسيس باكون إلى اتباع نهج تجريبي جديد في العلوم في القرن السادس عشر – يضيف ماكليش. وكما يقول مؤرخ العلوم بيتر هاريسون، فإن الرواد العلميين الذين ساروا على خطى باكون، مثل نيوتن والكيميائي روبرت بويل، رأوا أن مهمتهم هي استخدام هدايا الله مثل الحواس والعقول لاستعادة المعرفة المفقودة من الطبيعة.
اقرأ أيضًا: ألهمته أشعار جلال الدين الرومي.. ماذا تعرف عن ويليام سيغارت «صيدليّ» الشعر؟
إن التمعن في هذا الدرس التاريخي يكشف لنا مدى رسوخ نظام العلم. كما أن الإصرار على أن العلم هو تقدم عصري بحت لا يساعد على دمج التفكير العلمي في ثقافتنا الأوسع. فإجبار الناس على فصل العلم عن الدين سيؤدي إلى الإضرار بالعلم إذا لم تتمكن المجتمعات الدينية من الدمج بين الاثنين.
العلم في الكتب المقدسة
يحوي التاريخ اليهودي القديم إشارات عديدة إلى العلم. قالت الفيلسوفة سوزان نيمان مؤخرًا إن «سفر أيوب» يجب أن يعتبر بوصفه ركيزة أساسية للفلسفة الحديثة مثل تعاليم أفلاطون. ويرجع ذلك إلى أن سفر أيوب يتعامل مباشرة مع مشكلة العالم الفوضوي والغريب على المأزق الإنساني، الذي يقف بلا حراك في مواجهة المعاناة. وهذا، كما تدعي نيمان، هو نقطة البداية للفلسفة.
وقد يكون أيضًا نقطة البداية للعلوم – يشدد ماكليش. يحتوي سفر أيوب أيضًا على أعمق آية عن الطبيعة من بين جميع الكتابات القديمة. وتتشكل الآية من أسئلة لفتت نظر العلماء على مر العصور، الذين يعرفون أن طرح الأسئلة الإبداعية الصحيحة هو مفتاح التقدم.
جاء في سفر أيوب:
هل سافرت إلى ينابيع البحر؟ أين هي الطريق إلى مسكن الضوء؟ من أين يأتي الجليد؟ هل تعرف قوانين السماوات؟ وهل يمكنك تطبيقها على الأرض؟
يحتوي الكتاب في مجمله على حوالي 160 سؤالًا في مجالات نعرفها الآن باسم الأرصاد الجوية، وعلم الفلك، والجيولوجيا وعلم الحيوان. وعلى ما يبدو فإن هذا النص الخالد كان المحرك لقصة العلم لعدة قرون. يرى ماكليش أن على رجال الدين الكف عن رؤية العلم عدوًا، أو تهديدًا، والاعتراف بدوره في الحضارة الإنسانية. إن تأثير رجال الدين على المجتمع يمكن أن يقدم دعمًا كبيرًا للعلم.
اشتركت كنيسة إنجلترا مؤخرًا في رعاية مشروع وطني كبير حمل اسم «علماء في الأبرشيات» لتشجيع الكنائس المحلية على تحفيز وعي المجتمعات المحلية بالقضايا العلمية الراهنة التي تؤثر على المجتمع، مثل الذكاء الاصطناعي. ومن خلال تبني العلوم ودعمها، يمكن للمجتمعات الدينية أن تساهم بنظريات مهمة حول كيفية استخدامها في المستقبل.