قبل عصر الإمبراطورية الرومانية كان ينظر للانتحار باعتباره تضحية بالذات، وكان من الطقوس الدينية، إلا أن الفكرة لم تبلغ مبلغها الأقصى إلا مع رواقيي الرومان. أصبح للانتحار شأنه العظيم وفلسفته عند مدرسة الرواقيين الفلسفية، فقد كان قتل النفس شعيرة من شعائر الدين، وكأن الانتحار شعيرة التضحية الآدمية.
وجنحت آراء كثيرة هذه الوجهة وقابلوا الموت بلا مبالاة بثتها في النفوس مناظر المصارعة والجلاد؛ وحوادث مئات الأسرى الذين كانوا يأبون أن يقتلوا أبناء وطنهم، أو يكونوا مسخرين لتسلية آسريهم، فيدورون نصالهم إلى أعناقهم مهربًا إلى الحرية؛ أو سنة الرومان بإلزام المسجونين السياسيين أن يقضوا على أنفسهم بأيديهم، وفوق ذلك طغيان القياصرة المستبدين الذي ارتفع بالانتحار إلى محل المرجع والحرية للمظلومين، والنهاية التي ينشدها العقل المضطرب.
إنما بفضل الموت تكون الحياة عقوبة، وبفضل الموت أستطيع أن أقف رافع الرأس بين يدي الجد العابس، فأحتفظ بعقلي سليمًا وجأشي رابطًا. فإن لي مرجعًا اعتصم به وأحتكم إليه. * الفيلسوف سنيكا لنيرون
في هذا الوقت كان الفيلسوف اليوناني أبيقور ينصح الناس بالمقارنة بين أن يأتي لهم الموت، أو أن يذهبوا إليه باختيارهم. وانتحر بالفعل كثير من أتباع أبيقور، مثل لوقرشيوس شاعر الرواقيين؛ وقد ساعد الشاعر لوكريتس أحد تلاميذه على الموت فقتله بيده، كما فعل ذلك كسيوس، وأتيكون صديق شيشرون، وبترونيوس الشهواني. وكانوا يعتقدون أن حظ الإنسان أرجح من حظ الآلهة في شيء واحد، وهو أنه قادر على الفرار بنفسه إلى القبر، وأنه من دلائل نعم العناية أنها ملأت الأرض عقاقير شتى يجد فيها المتعبون طريقهم إلى الموت بغير عناء ولا إبطاء.
ولكن تفوق على هؤلاء الفلاسفة -خاصة الرواقيين- في صدقهم زميلهم هجسياس ويعد هو الوحيد الذي اتبع النهج وانتحر فعليًا. فهناك من المفكرين الأقدمين من أباح الانتحار وقربه إلى النفس والعقل مثلما فعل دافيد هيوم وشوبنهاور اقتداءً بطليعتهم سنيكا أشهر المنتحرين في تاريخ الرومان، لكن تجاوز هجسياس إباحة الانتحار إلى تحبيذه ومدحه ووصفه ترفيهًا عن المتعبين المعذبين.
هجسياس.. «رسول الموت»!
شاء القدر ألا يعرف التاريخ هجسياس إلا لمامًا، وكل ما نعرفه عنه جاء في كتاب ششرون «ازدراء الموت»؛ شأن أكثر المذاهب التي تفرعت عن فلسفة سقراط، واحترقت معظم أعمالها. ولم يناقش الكثيرون مذهب الرواقيين، حلقة الانتقال في المذاهب الأخلاقية، أساسها المدرسة القورينية الأقرب إلى فلسفة سقراط، وآخر ممثليها هو هجسياس.
تم إهمال فلسفة هجسياس من قبل المؤرخين الأوائل لعصره، والذين وقعوا في أسر القصص المثيرة التي تلف الفلسفات الأخرى، ونتيجة لذلك ربما تكون الصورة الأشمل لفلسفة هجسياس قد تم فقدها إلى الأبد، ولذلك يستند الكثير في الكتابة عنه إلى نصوص غير كاملة مما كتب أو روي عنه.
كان العصر الذي عاش فيه هجسياس والأبيقورييين عصرًا منهوك القوى، فكان طبيعيًا أن يرى الإنسان في إفناء نفسه راحة جميلة من عناء روحه؛ في وقت كان أصحاب السلطة ماضين في خلق نظام جديد من الفوضى القائمة، وأصبح مجرى الأحداث على اليأس الشديد، لنرى الحكيم يلتمس أمله في الخلاص، في فلسفة تنادي بمحو الوجود.
حمل هجسياس حمله الثقيل بـ«ألا تكره ولا تبغض؛ بل علّم وثقّف»، ودعا الناس أن يحملوه معه، أما العنصر الأصيل في فلسفته فكان: «إن التحرر من الألم هو الخير الأسمى»، ولهذا فضل الموت على الحياة. وذهب إلى أن اللذة هي الخير الأوحد، ولا تتحقق قوية خالص إلا في النادر، وأن مجموع آلام الحياة يزيد على لذاتها.
فبرأيه، كانت السعادة أمنية مستحيلة، وطلب اللذة ورجاؤها من الحياة عبث وتناقض، لأن اللذة تخلف ألمًا دائمًا. وتنحصر الحكمة في اتقاء الألم، ولا يتسنى لنا ذلك إلا بقتل الشهوة، والامتناع عن اللذة؛ وفي هذه الحالة، وعندما تصبح الحياة خامدة، فتكون معادلة للموت، وما على المتعب من الحياة إلا أن يستشفي بالموت.
مصدر الصورة
المستحيل هو السعادة
قال هجسياس إن السعادة لا تُنال في الحياة، حتى أن الحياة ليست جديرة بأن تعاش. واعتبر أن واجب الحكيم في الحياة ينحصر في اتقاء الشرور أكثر من ابتغاء الخيرات. ودعا هجسياس إلى عدم المبالاة بكل الظواهر والأمور الخارجية، على أساس أنه ليس من شيء هو بالطبع منبع لذة أو ألم، بل إن إشباع الشهوة بالحصول على ذلك الشيء هي التي تحدث اللذة أو الألم.
امتلك هجسياس وجهة نظر مختلفة لأبناء مدرسته حول ما يجعل الحياة مثالية، ومنها ما كان معاديًا للمجتمع، فاعتبر أن جميع العلاقات البشرية هي علاقات سطحية تتلاقى فيها الوجوه، فالناس أدوات فعالة في حياتنا، كما أشاد بفضيلة التمتع بالمحظيات ومعاملة النساء باعتبارهن أدوات جنسية.
وبعد وقت انحرف هجسياس عن فلسفة اللذة التي أتى بها أساتذته، وذهب إلى القول بأن اللذة حتى لو كانت مصدرًا للسعادة، فهي عادة ما تنتهي بالألم. وانتهى مبدأ اللذة عند هجسياس إلى مآل يختلف عما كان لديه أول الأمر؛ ففي أواخر حياته، عدل عن المتع «البهيمية» التي استغرقت منه الكثير، ولعل سبب عزوفه عن مبدأ اللذات الحسية إلى لذات العقل هو أنها انحراف لا يتماشى مع طبائع البشر ولا يتسق مع مقتضيات الحياة الاجتماعية.
كما أعلن عن يأسه من وجود المتع الإيجابية، والتمس اللذة في مجرد تفادي الألم، ولا يتيسر ذلك إلا بكبح الشهوة، والكف عن إرواء اللذة، ومتى تحقق هذا فقدت الحياة بهجتها، وجاز الخلاص منها بالانتحار، ومن هنا جاءت دعوته للتخلص من الآلام وإسكات النزعات بالموت.
الانتحار في مدرسة الإسكندرية
كان لمذهب هجسياس أثر غير قليل في شهوة الدفاع عن فكرة الانتحار في العصر الروماني، فكان معلمًا رشيدًا من معلمي المدرسة القيروانية الفلسفية. فقد زار هجسياس مدينة الإسكندرية، وألقى فيها عدة محاضرات أوضح فيها مذهبه. وكان تأثير هجسياس بالغًا على تلامذته، فهو فصيح اللسان، ويحيط بفصاحته القبر بالسحر والفتنة، ويرى أن «الموت هو الغاية التي لا غاية بعدها للكائن العاقل»، وأن الحياة مقر الهموم ومسراتها زائفة وسريعة الزوال، وأن الموت هو أسعد نصيب يتوق له قلب الإنسان، ليجعلهم يقبلون فرحين على تحقيق وصايته، وكثير منهم أراح نفسه بالانتحار من قسوة الحياة.
وكان قد ألف كتابًا وعنونه «الانتحار جوعًا»، والذي انتشر بالفعل ونُسخ في الإسكندرية، وتحدث في محاضراته عن مفاسد حياتنا ونقائصها، بصورة أثرت في أكثر القلوب تعلقًا بالحياة. كتب هجسياس كتابه «الانتحار جوعًا»، والذي كان في الأساس حجة لماذا يجب على الجميع التخلي عن الحياة وقتل أنفسهم. يبدأ الكتاب برجل يقرر أنه سوف يجوع حتى الموت، واجتمع أصدقاؤه يتوسلون له ألا يفعل ذلك، وقالوا كل شيء لردعه عن رغبته.
يجيب البطل عن آراء أصدقائه بأن السعادة مستحيلة وأنه يفضل الموت كثيرًا على العيش، ثم يقدم أطروحة طويلة عن البؤس والعذاب في الحياة، فيقتنع أصدقاؤه ليس فقط بتركه يقتل نفسه، ولكن يقتلون هم الآخرون أنفسهم.
كانت الأوصاف القاتمة للدلالة على البؤس الإنساني في الكتاب شديدة القسوة، وألهمت العديد من الناس بالقيام بالانتحار والموت جوعًا،بنشر اعتقاده أن الشخص الغبي هو من تلائمه الحياة على هذا النحو السائد، أما الشخص الحكيم وحده الذي سيحصل على مزايا الموت العظيمة. ولم يلبث -على إثر محاضرات هجسياس وكتابه- أن بدأت موجة من الانتحار بين الشباب، حتى أطلقوا عليه لقب «رسول الموت»، و«الناصح بالموت».
يعلق برتراند راسل في كتابه تاريخ الفلسفة الغربية على موقف هجسياس من الموت؛ بأن الخوف من الموت أعمق جذورًا في الغريزة الإنسانية من أن تستطيع محاضرات هجسياس، في أي عصر من العصور، أن تصادف قبولًا عند جمهور كبير من الناس؛ ولكنها ظلت فلسفته دائمًا عقيدة الأقلية المثقفة، وكل من اشتدت وطأة محنة الحياة على نفوسهم، وطلبوا من الفلاسفة الشفاء حتى ظهور الديانة المسيحية، التي عمدت في أولى مراحلها إلى تركيز الخير كله في الحياة الآخرة.
سرعان ما انتشر الانتحار وأخباره بالإسكندرية، وتسبب ذلك في خسارة هجسياس مستقبله المهني، بسبب غضب الطبقة العليا والحاكمة بشكل خاص، لأن هجسياس كان يدرس لأبناء الطبقة العليا في المجتمع، حتى أصدر بطليموس الثاني أمره بتحريم الانتحار وطرد هجسياس من مصر، ومنعه من إلقاء المحاضرات، وأغلق مدرسته في أوائل القرن الثالث قبل الميلاد، لاتقاء خطر الدعوة إلى الانتحار.
فعل هجسياس ما لم يفعله الكثير من المدافعين عن الانتحار في عصره، فقد عمل بما نصح به أتباعه وقتل نفسه، ولم يصلنا شيء عن طريقة انتحاره، وإن بدا لنا إيمانه القوي بالتجويع طريقةً مفضلة للموت.