من المشرفين القدامى
سَرمَديّة
تاريخ التسجيل: August-2014
الدولة: بغداد
الجنس: أنثى
المشاركات: 32,335 المواضيع: 2,167
صوتيات:
152
سوالف عراقية:
98
مزاجي: الحمدلله ، جيد
المهنة: legal
أكلتي المفضلة: دولمة
آخر نشاط: منذ 6 يوم
مسألة السلم الأبدي في المنظور الفلسفي الحديث والمعاصر: التحولات النظرية والسياقات ...
مسألة السلم الأبدي في المنظور الفلسفي الحديث والمعاصر: التحولات النظرية والسياقات التاريخية
د. السيد ولد أباه
تحول موضوع “السلم الابدي” الى هم رئيسي داخل الوسط الفلسفي في القرن التاسع عشر ،في سياق حددته معاهدة وستفاليا (1648) التي انهت الحروب الأوروبية الطويلة مكرسة مبدا السيادة المطلقة في العلاقات الدولية .
وقد اخذت النزعة السلمية منذ القرن السابق صيغة قانونية عبرت عنها فلسفات “الحق الطبيعي”natural rights ذهبت الى وضع قواعد أخلاقية تعاقدية في تنظيم العلاقات بين الدول بمنع الحرب العدوانية وحصر شرعية الحرب في العمل الدفاعي او الحرب الجزائية لمواجهة الانتهاكات الخطيرة للقوانين حسب أطروحة “هيغو غروتيوس”(1).
بيد ان هذه النزعة السلمية لم تتجاوز حد منظور التوازن بين القوى الأوروبية الرئيسية لحفظ السلم في ما بينها من خلال اتفاقيات قانونية ملزمة .
ولذا كان مشروع رجل الدين المسيحي الفرنسي “شارل ايرينيه دي سان بيير”(ت 1743) حول “السلم الابدي في أوروبا” الصادر سنة 1713 هو اول محاولة لصياغة مثال السلم الدائم من خلال وحدة فيدرالية بين الأمم الأوروبية (2).
اثار مشروع الاب “دي سان بيير” جدلا واسعا في الحقل الفلسفي الأوروبي ساهمت فيه ابرز الوجوه الفكرية الأوروبية من الفيلسوف الألماني “لايبنتز”(ت 1716) الذي اعتبر المشروع طويائيا غير قابل للتحقيق الى المفكرين الفرنسيين “فولتير” (ت 1778) الذي سخر من المشروع واعتبره “خيالات ” فارغة و”مونتسكيو”(ت 1755) الذي وافقه في الطموح واختلف معه في الوسائل .
ولا شك ان اهم اسهامين فلسفيين في الجدل الذي فجره مشروع “الاب دي سان بيير” (3) هما رسالة “جان جاك روسو” (ت 1778) في الرد على المشروع (4) ورسالة “امانويل كانط”(ت 1804) حول “التوجه للسلم الابدي”(5).
وقد تجدد الاهتمام بمشروع “دي سان بيير” في ما بعد الحرب الباردة في سياق التحولات العالمية الكبرى التي اعادت طرح موضوع شرعية الحرب بخصوص النزاعات الجديدة مثل حروب الإرهاب والحروب الإنسانية لمعاقبة انتهاكات حقوق الانسان او حماية الشعوب والأقليات المهددة بالإبادة .
ولعل ابرز الوجوه الفلسفية المعاصرة التي أسهمت في مقاربة “السلم الابدي” هما :الفيلسوف الألماني “يورغن هابرماس”(ولد 1929) والفيلسوف الأمريكي “جون رولز”(ت 2002).
تسعى هذه الورقة الى استكشاف النقاش الفلسفي حول موضوع “السلم الابدي” من خلال الوقوف عند مقاربات الفلاسفة الأربعة المذكورين ,مستجلين سياقات الانتقال من إشكالية الحرب والسلم في عصر التنوير الأوروبي الى العصر الحاضر ,في افق اهتمامات الوعي الإسلامي الراهن.
ولنبادر الى التنبيه ان الاطار التساؤلي الاوسع لمسالة السلم الابدي تتنزل في مستويات ثلاثة هي مجالات الحلول المطروحة لحسم معضلة الحرب وضمان السلم الدائم بين الأمم .
المستوى الأول هو ما يحيل اليه السؤال المتعلق بالأثر المترتب على طبيعة النظام السياسي الداخلي على أوجه العلاقة بالأمم الأخرى. المقصود هنا هو تحديد ما اذا كان شرط السلم الدائم بين الدول هو اعتمادها النظام الليبرالي القائم على الحرية والقانون ,بحيث يكون هذا النظام هو الضمانة الضرورية لاحتواء الميول العدوانية وكبحها .
اما المستوى الثاني فيتعلق بإمكانية تمديد النموذج التعاقدي الناجع في تسوية العنف الداخلي وضمان السلم والعدالة الى الاطار الدولي ,بحيث يكون القانون الدولي قائما على نفس أسس ومبادئ العقد الاجتماعي المحلي .
اما المستوى الثالث فيتعلق بالخروج من منطق الكيان السيادي شرطا لبناء السلم العالمي الدائم في افق كوني تحكمه قيم الانسان الجوهرية التي لها الأولوية على اعتبارات المواطنة.
أولا : السلم الداخلي شرطا للسلم بين الأمم:
من الأفكار الرئيسية السائدة في الفكر الليبرالي قديما وحديثا ان المجتمعات الليبرالية التي استطاعت توطيد السلم الداخلي عن طريق الديمقراطية وتحكم القانون المدني هي بطبيعتها مجتمعات مسالمة لا تشن الحروب على غيرها ولا تستخدم القوة الا للدفاع عن نفسها. ومن هنا يكون شرط بناء السلم بين الأمم هو اعتماد المسلك الليبرالي الديمقراطي نظاما سياسيا داخليا.
تحضر هذه الفكرة بقوة لدى الفيلسوف الألماني “كانط” الذي برى ان من متطلبات السلم الابدي ان “يكون الدستور المدني لكل دولة جمهوريا” (6).
لا تعني مقولة “جمهوري”republicain هنا النظام الديمقراطي الشعبي(مقابل الأنظمة الملكية مثلا ) بل “المبدأ السياسي للفصل بين السلطات”(7) المتولد عن نموذج تعاقدي للسلطة يتجسد في قانون مدني كلي وليس إرادة فرد واحد يتمتع بكل السلطات .
الدستور الجمهوري من هذا المنظور يكفل السلم الابدي لان شن الحرب يتطلب ضرورة موافقة المواطنين الذين سيفكرون جيدا في فظائع الحرب وتكلفتها قبل ان يرضوا بتعريض انفسهم لها . اما الأنظمة الاستبدادية التي يتحكم فيها شخص واحد فإنها تشن الحروب لأبسط واتفه الأسباب لان الحاكم فيها ليس طرفا “شريكا” في الدولة بل هو “مالكها” الذي لن تتأثر حالته الخاصة وممتلكاته الشخصية بدمار وويلات الحرب (8).
ليست الجمهورية بالنسبة لكانط شكلا من اشكال الدولة وفق التصنيف الثلاثي المعروف منذ العصر اليوناني (الديمقراطية والارستقراطية والاتوقراطية) بل هي نمط من الحكم في مقابل الاستبداد الذي يمكن ان تتسم به كل اشكال الدولة بما فيها الدولة الديمقراطية (السيادة الاستبدادية للشعب).
ان الجمهورية “فكرة مجردة “من أفكار العقل تتأسس على مقتضيات الخروج من حالة الطبيعة الى الحالة المدنية التعاقدية وتقوم على مبادئ ثلاثة مترابطة هي الحرية بمفهومها القانوني والمساواة في الحقوق الطبيعية والمواطنة.
ولذا يمكن القول ان الفكرة الجمهورية هي “مثال مجتمع عقلاني ” يحكمه قانون مدني يسمح بإمكانية العدالة والحرية ,انها معيار التشكل المدني للدولة ,وليست شكلا عينيا من نظام الحكم (9). فما يؤهل الدستور الجمهوري اذن لضمان السلم العالمي هو هذا الطابع القانوني العقلاني الحاكم على شكل النظام السياسي والمانع بذاته لكل اشكال العدوان والعنف.
واذا كان كانط قد انطلق من فكرة “الجمهورية” لدى روسو التي تعني الحكومة الشرعية المتولدة عن حالة قانونية تعاقدية ,الا انه ذهب مذهبا مغايرا في تصور الضمانات القانونية الداخلية للسلم الدولي.
ما يميز موقف روسو من بين مفكري العقد الاجتماعي هو رفض التصور التصادمي العنيف لحالة الطبيعة التي يعتبرها حالة سلمية فطرية (الناس فيها احرار ومتساوون وطيبون ) ,في الوقت الذي يربط الحروب بالحالة الاجتماعية ,وبالطبيعة السيادية للدولة حتى لو كانت دولة قانون وديمقراطية.
فاذا كان العقد الاجتماعي فاعلا في التعبير عن الإرادة المشتركة للامة بما يضمن السلم الداخلي ,فانه لا يقدم أي ضمانات للسلم بين الأمم .
فما دامت الحرب ليست حالة إنسانية طبيعية بل حالة اجتماعية اذ ” الحروب لا تكون ابدا بين البشر بل بين الدول”(10), فان محفزات العنف لا ترجع لاستعدادات طبيعية في الانسان تلجم بالقانون وانما ترجع لطبيعة الدولة نفسها التي هي “جسم مصطنع ” ليست له حدود طبيعية بل يميل بذاته للتوسع ويشعر بالضعف ان لم يتفوق في القوة على جاره (11).
وهكذا نلمس الفرق الجوهري داخل التقليد الجمهوري الانواري بين الموقف الكانطي الذي ينطلق من أولوية القانون المدني من حيث هو فكرة موجهة للسلوك الجماعي على المنظور السيادي للدولة بما يفسر الأثر التلقائي للسلم الأهلي الداخلي على السلم الدولي (ما دامت المنطلقات واحدة ) والموقف الروسوي الذي يرجع القيم السلمية الطبيعية الى الحالة الفردية ما قبل الدولة فيرى الحالة الاجتماعية بذاتها مولدة للعنف والحرب حتى لو ضمنت مقومات السلم الأهلي بالقانون المدني الذي يظل مقيدا بحدود السيادة الداخلية.
كيف ينعكس الحوار في الفلسفة المعاصرة التي تنطلق من ظرفية تاريخية مغايرة ,هي ظرفية المجتمعات الليبرالية الغربية التي تجذرت فيها النظم الديمقراطية المستقرة ولم تعد منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية مهددة بالحروب في ما بينها؟
نستعرض هنا موقف اثنين من ابراز فلاسفة الغرب المعاصرين اللذين يجمعهما الاستناد الى نفس التقليد الجمهوري في نسخته الكانطية .
من الواضح ان “هابرماس” الذي عالج موضوع السلم الأبدي من خلال قراءة جديدة في مشروع كانط يوافق رايه في اشتراط الطبيعة المدنية للدولة في نزوعها السلمي إزاء الأمم الأخرى ,بيد انه لا يعتقد انه شرطا كافيا ولا حاسما في كل الأحوال.
فاذا كانت التجربة اثبتت ان الدول الديمقراطية تحتفظ بعلاقات اقل عدوانية في ما بينها من علاقاتها بغيرها, الا ان التجربة اثبتت أيضا ان طبيعة نظامها السياسي الداخلي لا تمنعها ضرورة من شن الحروب على غيرها من الدول.
ما يبينه هابرماس هو ان كانط لم يكن بمقدوره في القرن الثامن عشر ان يدرك الطبيعة المزدوجة للنزعات القومية الحديثة التي ان كانت وسيلة فاعلة لتوطيد اللحمة الداخلية للأمم بتحويلها رعايا الدولة الى مواطنين فاعلين يتماهون مع دولتهم ,فإنها في الوقت نفسه تؤجج الشعور العدواني اتجاه الأمم الأخرى من منظور الوعي بالخصوصية والاستقلال ومبدا السيادة المطلقة . ومن ثم فان “الروح الجمهورية للمواطنين” تكشف عن نفسها في إرادة الصراع والمواجهة والتضحية بالنفس لحماية الوطن (12).
من الواضح هنا ان هابرماس يستعيد أطروحة روسو في التغاير بين مبدا القانون المدني في نطاقه السيادي الداخلي واطار العلاقات الدولية ,وان كان يلاحظ ان الديمقراطيات الحديثة وان لم تكن اقل لجوء الى الحروب الا انها تمارسها بطريقة مغايرة. يتعلق الامر هنا بأثرين متمايزين للنظام السياسي الداخلي على العلاقات الدولية :
أولهما : مراعاة الضوابط القانونية في إدارة الحرب وتصريفها نتيجة للاعتبارات الفضائية والإعلامية الداخلية.
ثانيهما: نمط شرعية الحرب التي لم يعد من الممكن شنها من منظور الإرادة التوسعية العدوانية الفردية وانما بهدف محاربة الاستبداد ونشر نمط الحكم غير التسلطي أي قيم الديمقراطية وحقوق الانسان (13).
اما الفيلسوف الأمريكي “جون رولز” الذي ينطلق من نفس السياق الظرفي (حروب التدخل الإنساني في مرحلة ما بعد الحرب الباردة) فانه يعتمد بوضوح الموقف الكانطي في القول بالنزعة السلمية الذاتية للمجتمعات الليبرالية الديمقراطية.
لا يخفي رولز الجذور الكانطية لمقاربته للسلم الليبرالي ,معتبرا ان الديمقراطية تمنح الشعب حق الاختيار بين الحلول السلمية والخيارات العدوانية العنيفة ,ومن الطبيعي ان يختار المواطن الحر السلم ويرفض الاعتداء على جاره .
ما يبينه رولز هو ان الطبيعة السلمية للمجتمعات الليبرالية تكمن في اعتبارين مترابطين : طبيعة النظام التعددي العقلاني الداخلي والاطر التداولية الحرة (14). وتبين التجربة التاريخية ان المجتمعات الديمقراطية لا تشن الحرب في ما بينها بل تكتفي بمواجهة عدوان الأنظمة الاستبدادية (15).
وهكذا نلمس كيف ان موقف رولز ينتهي الى اشكال مضاعف :حصر المنظور السلمي في المجتمعات الليبرالية التي هي اجمالا الدول الغربية التي ليست سوى احد مكونات النظام العالمي (ومن هنا مراجعته اللاحقة لأطروحته لدمج المجتمعات التراتبية اللائقة hierarchical decent التي هي المجتمعات التي لا تحكمها الاليات الليبرالية لكنها تحترم اساسيات حقوق الانسان) ,وطرح مسالة شرعية الحرب خارج الأطر السيادية للدولة ,مما يرغمه على البحث عن صياغات شرعية لحروب التدخل الإنساني التي تلتبس فيها الاعتبارات الأخلاقية بالمصالح القومية الضيقة.
ثانيا : السلم الدولي وقانون الشعوب:
مع ان فكرة المنظومة الدولية المتحدة التي تحكمها بنية قانونية ومؤسسية مشتركة تعود للعصر الراهن ,الا ان جذورها الكانطية معروفة في تأكيد كانط على ضرورة بناء نظام سياسي عالمي يكون في انسجام مع فكرة النظام المدني الداخلي .
وهكذا دعا كانط الى انشاء “رابطة للأمم” تنضم اليها كل بلدان العالم ,تحفظ لجميع الدول بما فيها اضعفها الامن والحقوق المتساوية ,على ان تكون لهذه الرابطة إرادة مشتركة وقوة موحدة (15).
يصوغ كانط هذه الفكرة في مشروعه للسلم الدائم داخل تقليد “حقوق الشعوب” law of peoples الذي يجب بالنسبة له ان يأخذ شكل “فيدرالية من الدول الحرة”(16).
من الجلي هنا انما يريده كانط هو تعميم المبدأ الجمهوري الضامن للسلم الأهلي الداخلي الى اطار العلاقات الدولية الواسعة. لا يتعلق الامر هنا بدولة واحدة تنمحي فيها الحدود (دولة شعوب) بل “بتحالف بين الشعوب” لان كل شعب يمثل في ذاته حالة مدنية منفردة ولا بد من تمايز الشعوب حتى يمكن تصور علاقات دولية في ما بينها.
واذا كان كانط قد اعتبر في نصوصه الأولى ان فكرة “الجمهورية الكونية للشعوب ” التي يحكمها “قانون عام ملزم” هي الفكرة المناسبة للعقل العملي (17) ,الا انه انتهى من منظور عملي الى ان النظام الدولي لا يمكن ان يتجاوز نطاق التحالف بين دول حرة تتفق على معايير قانونية لضبط العلاقات في ما بينها.
ان هذا التحالف السلمي foedus pacificum ليس مجرد عقد سلمي ينزع الى انهاء حالة حرب قائمة بل هو اطار دائم للحيلولة دون قيام أي حرب ممكنة (18).
يرفض روسو فكرة تمديد القانون المدني الداخلي الى العلاقات الدولية ,معتبرا انما يدعى بقانون الشعوب ليس سوى “خيالات ” ,بل هو “اضعف من قانون الطبيعة” ,لأنه يفتقد الى الفاعلية الإلزامية ولا يقوم الا على رضا ومصلحة الأطراف المتعاقدة (19).
ان تمديد نموذج العقد الاجتماعي الى حقل العلاقات الدولية يصطدم – بالنسبة لروسو – بمعيار الإرادة المشتركة التي هي مبدا وحدة الجسم السياسي المنشئة لسيادة الدولة في تعبيرها عن الامة .وما دام لا يمكن تصور عقد جماعي خارج الأطر القومية فان فكرة المنظومة الدولية الضامنة للأمن الدائم ليست سوى خيار وهمي. كما انه لا يمكن ترجمة المنظور الجمهوري للحرية السياسي في علاقتها بالسلطة العمومية داخل بناء سياسي فيدرالي (20) ,بما ينجر عنه تأكيد ما لاحظناه من تعارض جوهري بين الحالة المدنية التعاقدية ومطلب السلم الدولي.
واذا كان كانط وروسو قد عالجا موضوع السلم الدولي في سياق عصر التنوير الأوروبي الذي طرحت فيه الصيغة الأولى لتحالف أوروبي معزز لأمن القارة بعد مرحلة طويلة من الفتن الاهلية والإقليمية ,فان إشكالية هابرماس ورولز تختلف في منظورها باعتبارها تترجم التحولات الدولية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة التي شهدت محاولات متصلة لتوسيع اطار المنظومة الدولية وتمديد مشمولات القانون الدولي.
يتنزل الجدل الجديد في الموضوع – حسب هابرماس – في مشروع تحسين الاطار المؤسسي لسياسة دولية قائمة على نشر حقوق الانسان في افق “ديمقراطية كونية”. واذا كان هابرماس يقر ان هذا التوجه الراهن يصدر في خلفيته البعيدة عن “النزعة الأخلاقية الكونية” لدى كانط ,الا انه يرى ان “التوجه القانوني السلمي” ينظر اليه دوما كمسلك لتأجيج الحرب والعنف باسم “الحرب العادلة”(أطروحة كارل شميت).
المشكل هنا يتعلق بمنزلة حقوق الانسان في بعديها الأخلاقي والقانوني ,أي من حيث كونها قيما أخلاقية او معايير قانونية. يذهب هابرماس الى ان حقوق الانسان ليست غايات أخلاقية ,بل هي “صيغة مميزة من التصور الحديث للحقوق الذاتية ” (21) ,فهي اذن حقوق قانونية ذات طبيعة ديمقراطية .وبهذا المعنى تتمتع على غرار باقي المعايير القانونية بصلوحية تفهم بالمعنى الأساسي الذاتي (كحقوق للإنسان من حيث هو انسان ) دون الحاجة الى قوة الدولة ,لكنها في الان نفسه تنزع الى الشرعية ولذا تتطلب تبريرا عقلانيا يتم من خلال شكل عيني من الحياة المشتركة داخل مجموعة سياسية منظمة(22).
الا ان هابرماس يتجاوز المشروع الفيدرالي الكانطي في افق صياغة كوسموبولوتية كونية للقانون الدولي تتجاوز حدود هذا المصطلح في المعجم الكانطي كما سنبين لاحقا.
اما رولز الذي ينطلق من الإشكالية نفسها ,فانه يتبنى المشروع الفيدرالي الكانطي ,مع نقله من فكرة الاتحاد بين دول سيادية حرة الى اتحاد بين شعوب “جيدة التنظيم “well-ordered تحكمها معايير “العدالة” وفق مبادئ التعددية العقلانية التي بلورها في نظريته الشهيرة للعدالة .فعلى عكس الدول التي تحكمها معايير لمصلحة العقلانية ,فان الشعوب تحركها حوافز السلم والاستقرار والعدالة (23). من منطلق هذا التحوير الذي يدخله رولز على نظرية كانط في “حقوق الشعوب” ,تصبح الأولوية لاعتبارات حقوق الانسان على سيادة الدولة التي ان ظلت بالنسبة له قاعدة العلاقات الدولية الا انها مشروطة بقوانين الكرامة الإنسانية المتولدة عن المسار التعاقدي لنشأة المجتمع الدولي العادل (24).
ثالثا : السلام الابدي والقانون الكوسمبولوتي:
يبدو من المفارقات الغربية الجمع بين النزعتين الجمهورية والكوسمبولوتية (الكونية) اللتين تتعارضان في التصور والنتيجة حسب روسوفي حين انهما متلازمتين لدى كانط الذي يعتبر ان النظام الجمهوري شرط في تشكل المواطنة الكونية. فاذا كانت الحالة الجمهورية ليست شكلا معينا من النظام السياسي ولا نموذجا تجريبيا وانما هي فكرة موجهة تعني الانتقال من حالة الطبيعة الى الحالة المدنية أي من الاستبداد الى الفصل بين السلطات ,فإنها مثال كوني للمواطنة الإنسانية في منظورها الكسمبولوتي (25).
في مشروعه للسلم الابدي ,يتعلق القانون الكوسمبولوتي في “ظروف الضيافة الكونية”(26). انه قانون يتعلق بالغريب الذي ليس مواطنا ,لا ينعم بحقوق المواطنة بل “بحق الزيارة” المكفول لجميع البشر (27) .ويعني هذا الحق رفض أي نزوع توسعي او استعماري والقول بالملكية الجماعية للكرة الأرضية دون الإقرار بحق المواطنة السياسية.
اما روسو كما بينا سابقا فانه يرفض فكرة القانون الكوسمبولوتي من نفس المنظور الجمهوري التعاقدي لان الحالة السياسية الكونية ليست سوى حالة متخيلة لا تتصل بالواقع.
واذا كان هابرماس يتبنى بوضوح المفهوم الكوسمبولتي للأمن الدولي ,الا انه يغير جذريا هذا التصور بالرجوع الى فكرة كانط الأولى حول المواطنة العالمية. ما يريده هابرماس هو ربط هدف السلم العالمي بتجاوز مبدا سيادة الدولة الذي العائق الأقصى الذي يعترض حفظ الامن بين الأمم.
ومن هنا تصوره لتضامن كوسمبولوتي بين المجتمعات الاهلية العالمية والمجالات العمومية للدول ,مقترحا انشاء مؤسسات كونية تتجاوز الاطار القومي والوطني كإمكانية إقامة برلمان عالمي يمثل الشعوب بصفتها مواطني العالم (28).
اما رولز فانه يرفض فكرة “الجمهورية العالمية” التي ليست خيارا واقعيا ,محتفظا بنموذج تحالف الشعوب الذي هو أساس “قانون الشعوب” في بعده الجماعي ,على عكس القانون الكوسمبولوتي الذي يصدر عن تصور فردي للعدالة(29).
ما نخلص اليه هو ان الفكر الفلسفي الغربي الحديث عالج موضوع السلم الابدي من منظور البراديغم القانوني في دوائره الثلاثة (القانون المدني وقانون الشعوب والقانون الكوسمبولوتي). ولقد عكس في تحولاته النظرية مسار تشكل البناء السياسي الداخلي والدولي الذي عرفه العالم في القرون الثلاثة الأخيرة.
وما نلمسه بوضوح هو تأرجح هذا الفكر بين النزعة الإنسانية الكونية التي تدفعه الى بناء السلم العالي على أسس القيم الأخلاقية والقانونية لمنظومة حقوق الانسان ذات الجذور الطبيعية (مذهب القانون الطبيعي) والنزعة التعاقدية في تصورها الاصطناعي للجسم السياسي من منظور القومية السيادية التي تشكلت أصلا لضمان السلم بين الأمم .وفي حين افضى انتهاك مبدا السيادة الى اذكاء الحروب باسم الشرعية الأخلاقية التي هي نكوص الى عقيدة “الحرب العادلة” في خلفيتها اللاهوتية المسيحية الوسيطة , فان التشبث بمبدأ السيادة في السياسات الواقعية البرغماتية قد يتحول في بعض السياقات المأساوية القصوى (الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان وابادة الأقليات) الى نفي جذري لمبدا الصياغة القانونية للمنظور السلمي في العلاقات الإنسانية الذي هو المكسب الأكبر لعصور الحداثة السياسية.