ولد القرن الواحد والعشرين في بركة دم لم يولد فيها أي قرن سبقه. فقد ورث مخلفات كل حروب القرن الذي سبقه، ولا تظهر في الأفق البعيد له أية مؤشرات، ولو ضئيلة على انتهائها. بل تعجج نار الحروب في كل بقاعه، وترتكز على العالم العربي والمسلم بالخصوص. لم يعد من الممكن فهم هذا الجنون الهستيري لحب الهدم الذي تعيشه الإنسانية حاليا. تتجلى نزعة التدمير في أعلى مراتبها، وكأن الإنسانية قد بدأت بالفعل انتحارا محتوما، لأنها لم تعد قادرة على تحمل ذاتها. يشبه هذا الوضع، ما عرفته البشرية قبيل الحرب العالمية الثانية، حيث كانت ساحة الحرب تخص القارة الأوروبية. وهو وضع أذكى حماس مفكريها لدق ناقوس الخطر والوقف ضد الحرب ومحاولة فهم أسبابها ونتائجها. ومن بين من التزم بهذا الأمر كان هناك الفيزيائي ألبيرت إينشطاين ومؤسس التحليل النفسي سيغموند فرويد. وقد وثقا التزامهما ضد الحرب في تبادل رسالتين بينهما. نشرت هذه الرسالة لأول مرة في “مراسلات” من طرف “معهد التعاون الفكري لاتحاد الأمم” عام 1933 بباريس. رسائل مفتوحة، الجزء الثاني. نقدم في هذا الجزء رسالة إينشطاين لفرويد وفي الجزء الثاني رد هذا الأخير عليه.

ألبيرت إينشطاين

ألبيرت إينشطاين
“من أجل سلام نضالي”
هناك ما يكفي من المال ومن العمل ومن الأكل إذا ما وزعنا خيرات العالم بالتساوي، عوض ترك أنفسنا عبيد نظام اقتصادي صلب أو عادات بعينها. لا يحق لنا بالخصوص السماح بإيقاف أفكارنا ومحاولاتنا من أجل عمل بَنَّاء واستغلال هذا في الإستعداد لحرب جديدة. أشاطر رأي الأمريكي العظيم بينيامين فرانكلين Benjamin Franklin عندما قال بأنه لم تكن أبدا هناك حرب جيدة ولم يكن هناك أبدا سلام سيئ. لست فقط مسالم، لكن أيضا مسالم مناضل. أريد أن أناضل من أجل السلام. ليس هناك ما يمكنه القضاء على الحرب، إذا لم يرفض الناس الخدمة العسكرية. تقاوم أقلية عدوانية من أجل مثل عظيمة. أليس من الأفضل الموت من أجل قضية يؤمن بها المرء، كالسلم، عوض المعانات من أجل قضية، لا يؤمن بها، كالحرب؟ فكل حرب تظيف حلقة إلى سلسلة الشر، الذي يُعيق تقدم الإنسانية. يمكن لحفنة من الرافضين للخدمة العسكرية مضاعفة الرفض العام للحرب. لم تكن الجماهير أبدا ترغب في الحرب، طالما أنها لم تُسَمَّم عن طريق الدعاية. لابد من تلقيحها ضد هذه الأخيرة. لابد من تلقيح أبنائنا ضد التجنيد، بتربيتهم في روح السلام. يتمثل بؤس أوروبا في كون الشعوب رُبِّيت بأهداف خاطئة. تمجد كتبنا المدرسية الحرب وتغطي وحشيتها. يحشون الأطفال بالكراهية. أريد أن أُعَلِّم السلام عوض الكراهية، الحب عوض الحرب. لابد من إعادة تأليف الكتب المدرسية. فعوض تأزيل صراعات وأحكام مسبقة جد قديمة، على نظامنا التربوي تحقيق روح جديدة. تبدأ تربيتنا من المهد: لأمهات العالم بأكمله مسؤولية تربية أبنائهن من أجل المحافظة على السلم. من غير الممكن القضاء على الغرائز الحربية في جيل واحد. ما هو مأمول هو القضاء عليها (أي الحرب: إ. م) نهائيا. من اللازم على البشر الإستمرار في النضال، وما يكون ناجعا هو من أجل ماذا يناضل المرء: ليست الحدود الخيالية، الأحكام المسبقة على الأعراق أو الرغبة في الثراء هي التي تُعَلِّي راية الوطنية. إن أسلحتنا هي أسلحة فكرية وليست المضرعات وطلقات الرصاص.
كيف يمكن للعالم الذي نريد بنائه أن يكون إذا استعملنا القوى التي تحررها الحرب من أجل إعادة البناء. إن عُشر الطاقة التي استهلكتها الدول التي قادت الحرب العالمية [المقصود هنا الأولى، إ.م]، وجزء ضئيل من المال، الذي شتته بالقنابل اليدوية والغازات السامة، كان كافيا لمساعدة كل بشر العالم للعيش في كرامة والقضاء على كارثة العُطالة في العالم.
من اللازم علينا أن نهتم بقضية السلام وتقديم نفس التضحيات التي قدمناها دون مقاومة لقضية الحرب. ليس هناك شيئ آخر مهما بالنسبة لي من غير هذا الأمر، الذي يشغلني على الدوام. و كل ما أعمله أو أقوم به لا يمكنه تغيير بنية الكون. لكن قد يخدم المرء صوت القضية الكبرى: الوفاق بين الناس والسلام على الأرض”.
“كابوت، ناحية بوتسدام في 30 يوليوز 1932
العزيز السيد فرويد،
إنني سعيد بحصولي من عصبة الأمم ومعهدها العالمي للتعاون الفكري بباريس، على إمكانية فريدة لتبادل فكري حر مع شخص من اختياري حول موضوع من اختياري كذلك وأود المناقشة معكم حول الإشكالية التي يظهر لي بأنها أهم إشكالية حضارية، نظرا لوضع الأمور حاليا: هل هناك طريق يمكنه تحرير البشر من هول الحرب؟
إن وجهة النظر القائلة بأن هذه الإشكالية قد أصبحت إشكالية وجودية بالنسبة للإنسانية المتحضرة بسبب التقدم التقني قد فُرضت عموما، وعلى الرغم من ذلك فإن المحاولات الجادة لحلها لم تنجح لحد الساعة. أعتقد بأن للناس الذين يهتمون بهذا الإشكال مهنيا وتطبيقيا، وبسبب الشعور بعدم القدرة، رغبة ملحة ليطلبوا من الأشخاص التعبير عن وجهات نظرهم حول الموضوع، ويتعلق الأمر بأشخاص يتمتعون بمسافة كبيرة، نظرا لانشغالاتهم العلمية، اتجاه كل إشكاليات الحياة. فيما يتعلق بي، وبما أن التوجه المعتاد لفكري لا يمكنني من إلقاء نظرة على عمق الإرادة والمشاعر الإنسانيين، فإن ما يمكنني القيام به في تبادل أفكارنا هذا هو فقط محاولة عرض الإشكالية وإعطائكم الفرصة لإضاءة الموضوع من زاوية معرفتكم العميقة بالغرائز الإنسانية. أعتقد بأنكم ستشيرون إلى التربية، التي بإمكانها تجاوز العقبات بطرق سيكولوجية غير سياسية إلى حد ما، وهي عقبات يفترضها غير المتخصص في السيكولوجيا، لكنه غير مؤهل للحكم على علاقاتها وتغيراتها. وبما أنني إنسان متحرر من كل المشاعر ذات الطبيعة القومية، يظهر لي بأن الجانب الخارجي أو التنظيمي للإشكالية بسيط: على الدول إقامة إدارة تشريعية وقانونية لحل كل النزاعات التي تقع بينها. تتعهد هذه الدول بالإلتزام بالقوانين التي تشرعها هذه الإدارة، والرجوع إلى محكمتها في كل حالات الخصام والخضوع لقراراتها دون شروط وتطبيق كل التدابير التي ترى هذه المحكمة بأنها ضرورية لتطبيق قراراتها. وأواجه هنا أول عقبة: إن المحكمة هي إدارة بشرية، وبهذا قد تميل في اتخاذ قراراتها إلى تأثيرات من خارجها، إذا لم تكن تتوفر إلا على سلطة ضئيلة لفرض قراراتها. لابد على المرء من أخذ الواقعة التالية في الحسبان: يعتبر القانون و القوة ملازمين لبعضهما، وقد تنحاز أحكام هيئة قضائية من هذا النوع إلى مُثُلِ العدالة للدولة التي ينطق الحكم باسمها ولصالح مصالحها، طبقا لأدوات السلطة التي تظهرها هذه الدولة، لفرض احترام مثال عدالتها. إننا بعيدون كل البعد في هذا الوقت لإقامة منظمة دولية، يمكن إعطاء محكمتها سلطة غير متنازع عليها وفرض طاعة مطلقة لتطبيق قراراتها. وهذا ما يفرض علي الإستنتاج التالي: إن الطريق إلى الأمن العالمي يقود إلى التنازل الغير المشروط للدول على جزء من حرية ممارستها أو سيادتها، ومن اللازم ألا يشك المرء في وجود طريق آخر لتحقيق هذا الأمن من غير هذا الطريق.
نظرة خاطفة على عدم نجاح المحاولات الجادة للعشر سنين الأخيرة، في تحقيق هذا الهدف، تترك كل واحد يشعر، بدون داع للشك، بأن هناك قوى نفسية قوية، تعيق هذه المحاولات. بعض هذه القوى واضحة للعيان. ذلك أن الرغبة في السلطة لبعض الفئات المسيطرة في المجتمع تتناقض مع تقييد الحقوق السيادية لهذه الدولة. وتتغذى هذه الرغبة في السلطة السياسية غالبا من مساعي السلطة المادية-الإقتصادية التي تتمظهر عند فئة اجتماعية أخرى. أعني هنا بالخصوص تلك المجموعة الصغيرة المغلقة على نفسها، الموجودة في كل الشعوب، المصممة بعزم على اعتبار الحرب وصناعة الأسلحة وتسويقها إمكانية لتحقيق مصالحها وتوسيع رقعة سلطتها الشخصية. ويعتبر هذا الإستنتاج الأولي خطوة أولى لمعرفة السياقات. يطرح سؤال بإلحاح: كيف يمكن لهذه الأقلية، المشار إليها أعلاه، توظيف الجماهير الشعبية من أجل تحقيق رغباتها، وهي جماهير سوف لن تجني من الحرب إلا المعانات والخسارة. عندما أتحدث عن الجماهير الشعبية، فإنني لا أستثي كذلك الجنود من كل الدرجات، الذين يجعلون من الحرب مهنة لهم، اقتناعا منهم بأنهم يخدمون المصالح العليا لشعبهم، وبأن الهجوم هو أحسن وسيلة للدفاع في بعض الأحيان. وقد يكون أقرب جواب على هذا هو: تسيطر الأقلية الحاكمة على المدرسة والصحافة وفي غالب الأحيان على التنظيمات الدينية. بهذه الطريقة تسيطر وتدير مشاعر الجماهير العريضة وتجعل منها أداة طيعة في يدها.
لا يستجيب هذا الجواب لكل السياقات، ذلك أن سؤال آخر يفرض نفسه: كيف يمكن تحميس الجماهير عن طريق هذه الوسائل إلى حد الجنون والتضحية بالنفس؟ وقد يكون الجواب هو: تعيش داخل الإنسان الرغبة في الكراهية والتدمير.
يوجد هذا الوضع في الأوقات العادية بطريقة مضمرة ولا يظهر إلا في الأوقات الغير العادية، وبالإمكان إيقاضه وتحويله إلى ذُهان جماهيري. ويظهر لي بأن التأثير المعقد المليئ بالشؤم لعمق هذا المشكل يكمن هنا. ولا يمكن إضائة هذا الأمر إلا من طرف أكبر عارف بالغرائز الإنسانية. ويقودنا هذا إلى آخر سؤال: هل هناك إمكانية توجيه التطور النفسي للإنسان بطريقة يصبح بها قادر على مقاومة ذهان الكراهية والإبادة؟ لا أقصد هنا الغير المتعلمين فقط. طبقا لتجربتي في الحياة، فإن ما يسمى بـ “الإنتليجينسيا”، تخضع بسهولة للتأثيرات الجماهيرية الوحشية، لأنها لا تعتني بالإبداع انطلاقا من المعاش المباشر، لكنها تعكف براحة على الورق المطبوع. وفي الختام هناك شيئ آخر: لم أتحدث لحد الآن إلا عن الحرب بين الدول، يعني عما يسمى بالصراعات الدولية. إنني على وعي بأن العنف الإنساني يُنشَّط في أشكال أخرى وطبقا لظروف أخرى، مثلا عن طريق الحروب الأهلية التي كانت تقاد فيما سبق لأسباب دينية واليوم لأسباب اجتماعية واضطهاد الأقليات الوطنية. وقد ذكرت عن وعي الشكل الجامح للصراع، وهو شكل يمثل أكثر الوضع ويعتبر أكثر كاريثية بالنسبة للمجتمعات الإنسانية؛ فقد يمكن البرهنة من خلاله على الطريقة التي يمكن بها تجنب الصراعات الحربية.
أعرف بأنكم أجبتم في مؤلفاتكم مرة مباشرة وأخرى بطريقة غير مباشرة على كل الإشكاليات الملحة التي تشغلنا في هذا السياق. وقد يكون من المفيد جدا، لو أنكم عرضتم إشكالية جعل العالم يعيش في سلام على ضوء معارفكم الجديدة، فقد تنطلق من مثل هذا العرض محاولات مثمرة.
أحييكم بصداقة.
ألبيرت إينشطاين”
جواب فرويد على إينشطاين:

سيغموند فرويد
ا
“فيينا في شتنبر 1932
العزيز السيد إينشطاين
عندما علمت بأنكم تنوون أن تطلبوا مني تبادل الأراء حول موضوع ما، وهو موضوع يهمكم وتعتقدون بأنه مهم للآخرين كذلك، وافقت بطيب خاطر. كنت أعتقد بأنكم ستختارون مشكلا يتموضع على حدود ما يمكن معرفته اليوم، يشق كل واحد منا ، الفيزيائي والسيكولوجي، طريقه الخاص عليه، بطريقة يمكن الإلتقاء بها من نواحي متعددة على نفس الأرضية. لكنكم فاجأتموني بالطريقة التي طرحتم بها الإشكالية: ماذا بإمكان المرء عمله لإبعاد آفة الحرب عن الإنسان. فُزعت في أول الأمر لانطباع عدم كفائتي –كنت على أهبة القول عدم كفائتنا-، لأنه يظهر لي بأنه أمر يدخل في المسؤولية العملية لرجال الدولة. لكن فهمت بأنكم لا تطرحون السؤال كباحث في الطبيعة والفيزياء، لكن كإنسان يحب البشر، يستجيب لتشجيع عصبة الأمم، تماما كالخبير في القطب الشمالي فريدتيوف مانسن Fridtjof Nansen الذي تحمل مسؤولية مساعدة ضحايا الحرب العالمية [المقصود هنا الحرب العالمي الأولى – إ.م] الجائعين ودون مأوى. أعتقد كذلك بأن المرء لا ينتظر مني إعطاء مقترحات عملية، لكن الإشارة فقط إلى الكيفية التي تطرح بها إشكالية الوقاية من الحرب من وجهة نظر سيكولوجية.
ذكرتم في رسالتكم الكثير في هذا الميدان [المقصود السيكولوجيا – إضافة المترجم]. وبهذا فقد جررتم البساط من تحت قدماي. سأبحر في مخركم Kielwasser وأتفق مع كل ما قلتموه، وسوف أستفيظ في شرحه بكل ما أوتيت من معرفة – أو اعتقاد-.
بدأتم بالعلاقة بين القانون والقوة/السلطة. وهذه هي بالتأكيد نقطة الإنطلاق في بحثنا هذا. أيمكنني تعويض كلمة “السلطة” بالكلمة الأشد توهجا وقسوة “العنف”؟ ذلك أن القانون والعنف هما اليوم أضدادا. من السهل بكثير إظهار كون الواحد منهما قد تطور من خلال الآخر، وإذا رجعنا إلى البدايات الأصلية لمعرفة كيف حصل هذا في أول الأمر، فإن حل المشكل سيكون سهلا بالنسبة لنا. لكن قبل هذا، اسمحوا لي أن أحكي لكم ما هو معروف ومعترف به بصفة عامة، وكأنه شيئ جديد، لأن سياق الحديث يفرض علي ذلك.
يحسم صراع المصالح بين البشر مبدئيا عن طريق استعمال العنف. نفس الشيئ نجده في مملكة الحيوان، لا يجب استثناء الإنسان منه. ما يضاف للإنسان على كل حال هو صراع الأفكار/وجهات النظر، بما فيها تلك التي تنتمي إلى أعلى مستوى من التجريد ويظهر أنها تتطلب تقنية أخرى للحسم فيها. وقد حدث هذا الأمر في وقت متأخر من تاريخ البشر. في البداية، في مجموعات بشرية صغيرة، كان صاحب العضلات القوية هو الذي يقرر لمن ترجع ملكية شيئ ما أو أية مشيئة/رغبة/إرادة يجب تحقيقها. عوضت القوة العضلية فيما بعد عندما استعمل الإنسان الأدوات، فالمنتصر كان ذاك الذي يملك أحسن الأسلحة أو من يستعملها بمهارة. بإدخال السلاح أخذ التفوق العقلي مكان قوة العضلات. كان الهدف الأخير للحرب هو إجبار الطرف المتصارع على التخلي على حقه أو معارضته عن طريق الضرر الذي يلحقه ويشل قواه. ويتحقق هذا الهدف بالتمام عندما يقصي العنف على العدو إلى الأبد، يعني بقتله.
لهذا الأمر إيجابيتين: لا يمكن لمن مات إعادة عداوته ويُفزع مصيره الآخرين إذا ما حاولوا اتباع مثاله. إضافة إلى هذا فإن قتل العدو يشبع ميولا غريزية، سنشير إليها فيما بعد. قد يعارض القتل تفكيرا آخر، يتمثل في إمكانية استعمال العدو في تحقيق خدمات معينة، عندما يتركه المرء يعيش في رعب. وفي هذه الحالة يكتفي العنف بإخضاعه عوض قتله. وهذه هي بداية حماية العدو، لكن لابد للمنتصر أن يعمل حسابه من الرغبة في الإنتقام المتربصة للمهزوم، وبهذا فإنه يتخلى على جزء من أمْنِه.
هذا هو إذن الوضع الأصلي، سيادة القوى الكبرى، العنف المؤسس على الجَزْر أو العقل. ونعلم بأن هذا النظام قد تطور مع الزمن، وهناك طريق يقود من العنف إلى القانون، لكن أي طريق؟ أقصد أن هناك طريق واحد فقط. وهو طريق يقود إلى واقعة كون أكبر قوة قد تكمن في اتحاد ضعفاء كثيرين (الإتحاد قوة L’union fait la force ). يُكسر العنف عن طريق الإتحاد، وقوة المتحدين هي التي تقدم السلطة، على عكس العنف المنفرد. نرى إذن بأن القانون هو قوة الجماعة. وهو عنف، مُستعد لاستعماله ضد كل من يعارضه، يشتغل بنفس الوسائل ويتبع نفس الأهداف. ويكمن الفرق في الحقيقة فقط في كون العنف لم يعد يُمارس من طرف جهة/جانب واحد يريد فرض نفسه، لكن يمارس من طرف كل المجموعة. ولكي يتحقق المرور من العنف إلى القانون، من الضروري تحقيق شرط سيكولوجي. ذلك أن اتحاد الكثيرين لابد أن يكون أساسيا ومستداما. إذا كان هدف هذا الإتحاد هو محاربة الأقوى وانحلال هذا الإتحاد بعد الإنتصار عليه، فإن المرء لن يحقق الشيئ الكثير. ذلك أن آخرا سيشعر بقوته وسيحاول بدوره السيطرة بالعنف وستتكرر اللعبة إلى ما لانهاية. لابد للإتحاد أن يدوم ويتنظم ويخلق قوانينا تمنع التمرد الذي يخشاه المرء، ويختار لجنا تسهر على احترام القانون والحصول على دعم للممارسة القانونية لأعمال العنف. ففي الإعتراف بمثل جمعية المصالح هذه، تقوم مشاعر الإتحاد بين أعضاء جمعية بشرية ما، الشعور بالجماعة، حيث تكمن القوة الحقيقية.
أعتقد أن أهم شيئ يوجود في هذا الإتحاد هو تجاوز العنف عن طريق نقل السلطة إلى اتحاد أكبر، يتحد عن طريق علاقات مشاعيرية لأعضائها. وكل ما تبقى هو عبارة عن تطبيق وتكرار. ذلك أن الأوضاع تكون بسيطة، طالما كانت الجماعة مكونة من عدد من الأعضاء الذين تكون قوتهم متكافئة. فقوانين هذا الإتحاد هي التي تقرر إذن إلى أي حد يجب على عضو ما الإستغناء عن جزء من حريته واستعمال قوته كعنف، يضمن العيش سويا معا. لكن مثل هذا الوضع الهادئ لا يكون ممكنا إلا نظريا. ذلك أن الأمر يتعقد في الواقع بسبب كون الجماعة مكونة منذ البداية من عناصر ذات قوة غير متوازنة، رجال ونساء، والدين وأطفال، ونتيجة الحرب من منتصرين ومنهزمين، يتحولون إلى أسياد وعبيد. ذلك أن قانون الجماعة سيصبح تعبيرا عن ميزان قوى غير متكافئ، تقرر القوانين من طرف ولصالح الأقوياء ولا تعطى للضعفاء إلا حقوقا قليلة. وانطلاقا من هذه اللحظة سيكون للإتحاد مصدرين للإضطرابات القانونية وللتدريب القانوني. هناك من جهة محاولة بعض أعضاء الإتحاد الأقوياء وضع أنفسهم فوق كل القوانين المتفق عليها، يعني المرور من الحق في وضع القانون إلى الحق في السيادة بالعنف. أما من جهة أخرى، سيحاول الضعفاء باستمرار تحقيق المزيد من الحقوق للإعتراف بهذا القانون، يعني المرور من الحق الغير المتساوي إلى الحق المتساوي للجميع. ويصبح هذا التيار الأخير من الأهمية بمكان، عندما تحدث انزلاقات في ميزان القوى داخل الجماعة، كما حدث ذلك في لحظات تاريخية متعددة. ذلك أن القانون يمكنه أن يتكيف تدريجيا مع موازين القوى الجديدة، أو أن الطبقة المسيطرة، كما حدث ذلك مرارا، لا تكون مستعدة لاحترام هذا التغيير في القانون. يحدث تمرد، حرب أهلية، يعني الإلغاء المؤقت للقانون، ومحاولات عنف، يقام قانون جديد بعد انتهائه. هناك مصدر آخر لتغيير القانون، لا يظهر إلا بطريقة مسالمة ويتعلق الأمر بالتغير الثقافي لأعضاء الجماعة. وسوف نرجع إلى هذا فيما بعد، لأن ذلك يحدث في سياق آخر.
نرى إذن بأنه لا يمكن تجنب الممارسة العنيفة في صراع المصالح في جماعة ما. وتعتبر الضرورات والأشياء المشتركة، التي تنتج عن العيش المشترك، صالحة للإنهاء السريع لمثل هذه الصراعات، وتزيد احتمالات الحلول السلمية بفضل هذه الشروط. نظرة خاطفة على تاريخ البشرية تظهر لنا عددا كبيرا من الصراعات بين جماعة ما وبين عضو أو أكثر منها، بين وحدات كبيرة وأخرى صغيرة، داخل أحياء في المدينة الواحدة والقرى والقبائل والشعوب والمملكات، وهي صراعات كانت تنتهي دائما تقريبا بمواجهات حربية حاسمة. وكانت مثل هذه الحروب تتسبب إما في السلب/السطو وإما في الإخضاع والنهب. وقد تسبب البعض كالماغول والأتراك في بلاء كبير، في الوقت الذي تسبب فيه آخرون في تغيير العنف إلى قانون بتنظيم وحدات كبيرة، توقفت ممارسة العنف فيها وأصبحت النزاعات تحل بمساعدة القانون. بهذه الطريقة أتت الغزوات الرومانية لشعوب العصر الوسيط بالسلم الروماني pax romana الثمين. ونجحت الرغبة في التوسع عند الملوك الفرنسيين في إقامة السلم والرخاء في فرنسا. وعلى الرغم من التناقض الذي يمكن ملاحظته، على المرء الإعتراف بأن الحرب ليست أداة غير صالحة لإحلال السلم “الأبدي” المتوخى، لأنها تكون قادرة على إقامة مجموعات كبيرة، يمكن لسلطة مركزية قوية فيها تجنب حروب إضافية. لكن الحرب لا تكون مناسِبة، لأن نجاح الغزوات لا يكون مستداما، فالتجمعات الجديدة تندثر، في غالب الأحيان بسبب ضعف تماسك الأجزاء المتحدة. إضافة إلى هذا فإن الغزو لم ينجح إلا جزئيا في إقامة وحدة، حتى وإن كانت كبيرة، كما أن صراعاتها كانت تهدد بالفعل قرارات عنفها/سيطرتها/سلطتها. وما نتج عن كل محاولات الحروب هذه هو أن الإنسانية عوضت الحروب الصغيرة الكثيرة بحروب كارثية كبيرة.
عندما نطبق هذا على حاضرنا، فإننا نصل إلى نفس النتيجة، يمكنكم الوصول إليها بأقصر الطرق. لا تكون الوقاية من الحروب ممكنة إلا إذا اتفق البشر على إقامة مركز سلطة، يوكل له الحكم في كل تضارب للمصالح. ونجد هنا اتحاد مطلبين: خلق سلطة عُلْيَا متخصصة وتخويلها السلطة الضرورية. ولن يفيد واحد دون الآخر. ما نعنيه هنا هو اتحاد أممي لمثل هذه السلطة العليا، ولا يتحقق الشرط الآخر، لأن هذا الإتحاد لا يتوفر على سلطة خاصة ولا يمكن الحصول عليها إلا إذا استقال أعضاء هذا الإتحاد الجديد، الدول الفردية، منها. والظاهر أن هذه الفكرة لا تتوفر حاليا على أية إمكانية للتحقيق. قد لا يفهم المرء مؤسسة عصبة الأمم المتحدة هذه، إذا علم بأن الأمر يتعلق بمحاولة لم يقدم عليها المرء في تاريخ البشرية إلا ناذرا، ولربما لم يهتد إليها بهذه الطريقة. إنها محاولة الحصول على السلطة، التي تتأسس عادة على امتلاك القوة، بالرجوع إلى تمثلات مثالية معينة. سمعنا بأن ما يُلحم اتحادا ما هما شيئين: إكراه العنف وصلة المشاعر -يسميها المرء تقنيا التشخص- بين الأعضاء. وإذا غاب عنصر من هذين العنصرين، فإن العنصر الآخر هو الذي يحافظ على الإتحاد. ولا يكون لهذه الأفكار من طبيعة الحال أي معنى، إذا لم تكن تعبر عما يتشارك فيه أعضاء الإتحاد. والسؤال هو ما مدى قوتهم. يعلمنا التاريخ بأنهم قد مارسوا في الواقع تأثيرهم. كانت الفكرة الهلينية مثلا، المتمثلة في وعي كون اليونان كانوا أحسن من المتوحشين، وهي فكرة وجدت أحسن تعبير عنها في الأساطير، قوية بما فيه الكفاية، للتخفيف من عادات قيادة الحرب بين اليونانيين؛ لكن لم تكن قوية بما فيه الكفاية لكي تقي من الصراعات الحربية بين مكونات الشعب اليوناني، بل لم تمنع من الإتحاد مع الخصم الفارسي للقضاء على العدو والمحافظة على مدينة أو مجموعة من المدن. نفس الشيئ كان بالنسبة للشعور الجماعي المسيحي، والذي كان قويا بما فيه الكفاية، للإستعانة بالسلطان [المقصود العثمانيين: إ.م] إبان عصر النهضة ضد دول مسيحية كبيرة أو صغيرة. وليس في وقتنا الحاضر أية فكرة يمكن أن نتوقع من خلالها إقامة هذه السلطة الموحدة. لا غبار إذن في كون المثاليات الوطنية المسيطرة حاليا عند الشعوب تقود إلى تأثير مضاد. هناك أناس يتنبؤون بانتهاء الحروب بفضل فرض الفكر البولشفي، لكننا بعيدون كثيرا اليوم عن تحقيق هذا الهدف، وقد لا نحقق إلا حروبا أهلية رهيبة. وهكذا يظهر بأن محاولة تعويض القوة الحقيقية بقوة الأفكار محكوم عليها بالإخفاق. يُخطئ المرء في حسابه إذا لم يأخذ بعين الإعتبار بأن القانون هو في الأصل عنف خشن وبأنه لا يمكن الإستغناء عنه.
سأرجع إلى فكرة من أفكاركم الأخرى لأصقلها. تتعجبون من أنه من السهل بمكان تحميس الناس إلى الحرب، وتعتقدون بأن هناك شيئ نافذ المفعول داخلهم، غريزة للكراهية والهدم، تستجيب لمثل هذا التحريض. أوافقم الرأي من جديد بدون حدود. إننا نعتقد في مثل هذه الغريزة وحاولنا في السنين الأخيرة دراسة تمظهراتها. بالمناسبة سنقدم لكم جزء من نظرية الغرائز، توصلنا لها في التحليل النفسي بعد الكثير من المحاولات والتذبذب. نفترض بأن هناك نوعين من الغرائز عند الإنسان، إما تلك التي تساهم في الإلتقاء والتوحد -نسميها الغرائز الجنسية، في المعنى التام للإيروس Eros في ندوة Symposion أفلاطون، أو الغرائز الجنسية بتوسيع واع للمفهوم الشعبي للجنس-. و أخرى تحاول الهدم والقتل، ونلخصها في غرائز العدوان أو الهدم. ترون بأن الأمر يتعلق في الحقيقة بالنظرية التوضيحية للتناقض المعروف عالميا للحب والكراهية، الذي لربما يحتفظ بعلاقة أصلية بين الجذب والتنافر، اللذان يلعبان دورا في ميدانكم [المقصود الميدان الفيزيائي، بما أم إينشطاين كان فيزيائيا: إ.م]. سوف لن نهتم الآن بتقويم الخير والشر، ذلك أن كلتا الغريزتين ضرورية للأخرى، بتأثيرهما معا وضد بعضهما البعض تتجلى تمظهرات الحياة. والظاهر أنه لا يمكن لغريزة من هاتين الغريزتين الإشتغال بمعزل عن الأخرى، ذلك أن كل واحدة منها تشارك بقدر معلوم، وكما نقول: يمكن لكل واحدة منها تعديل هدفها أو تحقيقه في ظروف معينة. ذلك أن غريزة المحافظة على النوع تكون بالتأكيد من طبيعة إيروتيكية، لكنها تتطلب العدوان، إذا كانت تريد التحقق. كما أن غريزة الحب الموجهة لمواضيع معينة تحتاج إضافة غريزة السلطة، إذا كانت تريد الإمساك بموضوعها. وقد أدت صعوبة عزل هاذان النوعان من الغرائز في تمظهرهما إلى إعاقة معرفتنا لهما لمدة طويلة.
إذا أردتم مرافقتنا بعض الشيئ، فإننا نقول لكم بأنه بالإمكان التعرف على تعقيد من نوع آخر للتصرفات الإنسانية. ناذرا ما يكون التصرف صنيع دافع غريزي واحد، يكون من الضروري تشكيله من الإيروس والهدم لوحدهما وفي حد ذاتهما. عادة ما تجتمع أسباب متعددة تكون مبنية بنفس الطريقة، لتسمح بتصرف ما. وقد اهتدى أحد زملائكم إلى هذا الأمر، البروفيسور ج. ش. ليختينبيرغ Prof. G. Ch. Lichtenberg، الذي درس الفيزياء في غوتينغن، ولربما كان مشهورا كسيكولوجي أكثر منه كفيزيائي. فقد اكتشف شيئا مهما عندما قال: ” يمكن تنظيم أسباب الحركة، التي يقوم المرء بشيئ من خلالها، كتنظيم الرياح الإثنين وثلاثين ويشكل أسمائها بنفس الطريقة/ مثلا: الخبز/الخبز/الجاه أو الجاه/الجاه/الخبز. إذن عندما يطلب من البشر المشاركة في حرب ما، فإن هناك الكثير من الأسباب الداخلية فيهم تستجيب لهذا الطلب، السامية منها والشريرة، تلك التي يتحدث المرء عنها بجهر، وأخرى يسكت عنها. ليس هناك أي داع للتطرق لها كلها هنا. نشير فقط إلى أن الرغبة في العدوان والهدم توجد بالتأكيد بينها، وتؤكد الكثير من الأعمال الوحشية في التاريخ وفي حياتنا اليومية وجودها وقوتها. ويُسَهِّل دمج هذه الدوافع الهدامة بالدوافع الإيروتيكية والمثالية تحقيق الأولى منها. في بعض الأحيان يكون عندنا الإنطباع، عندما نسمع عن الأعمال الوحشية للتاريخ، بأن الأسباب المثالية تستعمل الرغبات الهدامة كدريعة فقط لتتحقق. وفي بعض الأحيان نعتقد، كما هو الحال في وحشية محاكم التفتيش الدينية، بأن الدوافع المثالية تطفو على سطح الوعي، تقويها الدوافع الهدامة بطريقة لاواعية. وكلا الإعتقادين مُمْكِنَان.
لدينا مخاوف من إساءة استخدام اهتمامكم للوقاية من الحرب، الذي لا يدخل في ميدان نظرياتنا. لكن نود التوقف لحظة للإشارة إلى غريزة الهدم، التي لا تساير شهرتها أهميتها. توصلنا إلى الإقتناع، ببعض الجهد التنظيري، بأن هذه الغريزة تشتغل داخل كل موجود حي، بهدف هدمه، وإرجاع الحياة إلى مادة جامدة. وبهذا فإنها تستحق بكل معقولية اسم غريزة الموت، في الوقت الذي تمثل فيه الغرائز الإيروتيكية السعي من أجل الحياة. تصبح غريزة الموت غريزة الهدم باستعماله، بمساعدة أعضاء معينة، نحو الخارج، ضد المواضيع/الأشياء. يحافظ الموجود الحي على حياته الذاتية/الخاصة بتدمير كل ما هو غريب عنه. لكن جزءا من غريزة الموت يبقى نشيطا داخل هذا الوجود الحي، وحاولنا استنتاج عددا كبيرا من الظواهر العادية والمرضية من تمثل داخلي لغريزة الهدم هذه. وابتدعنا شرح ظهور ضميرنا عن طريق انعطاف العدوان إلى الداخل. وكما تلاحظون فليس من غير المشتبه فيه عندما يتحقق هذا الأمر على مستوى أوسع، ألا يكون صحيا عندما تستعمل غريزة القوة هذه للهدم في العالم الخارجي، ويكون لها تأثيرا مفيدا لمن يستعملها. يخدم هذا إذن التبرير البيولوجي لكل ما نريد مقاومته من هذه الرغبات المشينة والخطيرة. ولابد للإنسان أن يعترف بأنها أقرب إلى الطبيعة منها إلى مقاومتنا لها، وهذا أمر علينا أن نجد له شرحا. قد يكون عندكم انطباعا يتمثل في كون نظرياتنا هي نوع من الميثولوجيا، وفي هذه الحالة، ميثولوجيا غير سارة. لكن، ألا ينفد كل علم طبيعي إلى هذا النوع من المثيولوجيا؟ أليس الأمر هكذا اليوم في الفيزياء عندكم كذلك؟
ما يمكننا أخذه من الواقع الذي أمامنا لأهدافنا المستقبلية هو أنه لا يفيد في شيئ الرغبة في القضاء على الميولات العنيفة للإنسان. قد يكون هناك في جزء من الأجزاء السعيدة لهذه الأرض، حيث توفر الطبيعة بما فيه الكفاية كل ما يحتاجه الإنسان، عشائر تجري حياتها بلطف ولا تعرف الإضطرار للعنف. لا أعتقد في هذا الأمر، لكنني أود كثيرا معرفة أكثر عن هؤلاء السعداء. يعتقد البلشفيون كذلك، بأنه بالإمكان القضاء على العدوانية الإنسانية بضمان تلبية الحاجيات المادية للإنسان وإقامة المساوات بين أفراد المجتمع. أعتبر هذا وهما. إنهم مسلحون حاليا بدقة ويوحدون أتباعهم، عن طريق الكراهية أيضا، ضد كل ما هو أجنبي. للإشارة، فإن الأمر لا يتعلق، كما تلاحظون، بالقضاء على العدوانية الإنسانية بالمرة، لكن يمكن للمرء أن يوجهها بطريقة لا تجد تعبيرا لها في الحروب.
انطلاقا من ميثولوجية نظرية الغرائز نجد بسهولة صيغة لطريقة غير مباشرة لمقاومة الحرب. إذا كان الإستعداد للحرب هو تفريغ لغريزة الهدم، فإنه من السهل مقاومتها بغريزة أخرى، الإيروس. فكل ما يُنتج شروط المشاعر بين الناس، يمكنه مواجهة الحرب. ويمكن لهذه الشروط أن تكون من نوعين: أولا العلاقات، كما نجدها في حب موضوع ما، حتى وإن كان ذلك دون هدف جنسي. لا يحتاج التحليل النفسي للخجل، عندما يتحدث هنا عن الحب، لأن الدين يقول نفس الشيئ: “أحبك أخاك الإنسان كما تحب نفسك”. من السهل المطالبة بهذا، لكن من الصعب بمكان تحقيقه. أما النوع الآخر للإرتباط العاطفي فإنه يحدث عن طريق التشخص. فكل ما ينتج الأشياء المشتركة المهمة بين الناس، ينتج مثل هذه العواطف وهذا التشخص. وعليها يتأسس الجزء الأكبر للمجتمع الإنساني.
أخذ لمحة للمقاومة الغير المباشرة للميل للحرب من شكواكم المتمثلة في استغلال السلطة. هناك جزء غريزي للإنسان، لا يمكن القضاء عليه في عدم مساوات البشر، وهو السقوط في منطق القائد والأتباع. ويشكل الأخيرين الأغلبية العظمى، يحتاجون لسلطة تأخذ القرارات عوضهم، وهي قرارات يخضعون لها في غالب الأحيان دون شروط. وهنا يمكن إتمام الربط، على المرء أن يضاعف من جهوده، لكي يربي نخبة من المفكرين الأحرار يقاومون من أجل الحقيقة وضد الترهيب ، قد يكون بإمكانهم قيادة الجماهير الغير المستقلة. ولا نحتاج لأي دليل للبرهنة على أن مثل هذه التربية في غير صالح سلطة الدولة وما منع التفكير من طرف الكنيسة إلا عربونا على ذلك. قد يكون الوضع المثالي مجتمع من البشر يُخضعون غريزة الحياة فيهم إلى ديكتاتورية العقل. ليس هناك شيئ آخر يمكنه إنتاج اتحاد للبشر كاملا وقادرا على المقاومة من غير هذا، حتى وإن كان من الضروري الإستغناء عن الإرتباط العاطفي بينهم. لكن أعتقد بأن هذا لا يعدو أن يكون إلا أملا أوطوبيا. قد تكون الطرق الغير المباشرة الأخرى لتجنب الحرب ممكنة، لكنها لا تَعِدُ بنجاح سريع. لا يريد المرء التفكير في المطاحن، التي تطحن ببطئ، إلى درجة أن المرء قد يموت جوعا قبل حصوله على الدقيق.
ترون بأن النتيجة لا تكون مهمة كثيرا، عندما يطلب المرء من المنظرين الغرباء على العالم المشاركة في مسؤوليات تطبيقية ملحة. من الأحسن أن يحاول المرء مقاومة هذا الخطر بالإمكانيات المتاحة طبقا لكل حالة على انفراد. لكن أود التطرق إلى إشكالية إضافية، لا تشيرون لها في رسالتكم، لكنها تهمني بالخصوص. لماذا تثار ثائرتنا ضد الحرب، أنتم وأنا وآخرون كثيرون، لماذا لا نقبلها كأوضاع صعبة في الحياة؟ إنها تُظهر بالتأكيد طبيعية، مُعَلّلة بيولوجيا ولا يمكن تجنبها تطبيقيا تقريبا. لا تمتعضون من تسائلاتي. من أجل دراسة هذا الأمر، قد يأخذ المرء قناع التفوق، وهو قناع ليس في متناوله. والجواب هو أنه لكل إنسان الحق في الحياة، لأن الحرب تقضي على الأمل في حياة البشر، وتقود الأشخاص الفرادى إلى أوضاع تسلبهم كرامتهم وتفرض عليهم قتل آخرين على الرغم منهم وتدمير أشياء مادية ثمينة، نتاج العمل الإنساني وأشياء أخرى كثيرة. إضافة إلى هذا، فإن الحرب في شكلها الحالي، لم تعد توفر إمكانية تحقيق المثال القديم، المتمثل في البطولة، وكون الحروب في المستقبل، قد تؤدي إلى القضاء النهائي على جانب أو الجانبين معا، نظرا للتطور الهائل لوسائل الدمار الحربية. كل هذا صحيح، لا يقبل أية مناقشة، وما يُدهش هو أن ممارسة الحرب لم ترفض عن طريق اتفاق عام للبشر. يمكن للمرء مناقشة هذه النقط على انفراد. والسؤال المطروح هو ما إذا لم يكن من الضروري أن يكون للمجتمع الحق في استغلال حياة الأفراد صالحه. لا يمكن للمرء أن يدين كل أنواع الحروب بنفس الطريقة، فمادام هناك أغنياء وأمم مستعدة للقضاء على الآخرين دون اعتبارات، على هؤلاء الأخيرين التسلح لهذه الحرب. نريد أن نتحاشى كل هذا، لأنه لا يتعلق بالمناقشة التي طلبتم مني. أستهدف شيئا آخر بالمرة، ذلك أنني أعتقد بأننا نمتعض من الحرب، لأنه لا يمكننا عمل أي شيئ آخر. إننا مسالمون، لأننا مضطرون لذلك لأسباب عضوية. فمن السهولة بمكان تبرير تصوراتنا عن طريق الحجج.
لا يمكن فهم هذا دون شرح. أقصد التالي: تعرف الإنسانية منذ عصور غابرة سيرورة التطور الثقافي (أعرف بأن آخرين يسمنوه حضارة). وندين لهذه السيرورة بأحسن ما أصبحنا عليه وكذا بجزء كبير مما نعاني منه. ذلك أن ظروفها وبداياتها مظلمة ونهايتها غير معروفة، وهناك بعض خصوصياتها واضحة للغاية. قد تقود إلى مسح النوع البشري، ذلك أنها تهدد الوظيفة الجنسية بطرق كثيرة ونلاحظ اليوم كثرة الأجناس غير المثقفة وطبقات شعبية متخلفة أكثر منه من الطبقات المثقفة. قد نقارن هذه السيرورة بتدجين بعض أنواع الحيوانات. وهي سيرورة تحمل معها دون شك تغييرات جسدية، ولم يتعود المرء بعد على تصور كون التطور الثقافي هو هذه السيرورة العضوية ذاتها. أما التغيرات النفسية المرافقة لهذه السيرورة الثقافية فإنها واضحة ولا لبس فيها. وتوجد هذه التغيرات في وضع متقدم لانزلاق أهداف الغرائز وتقييد حركات هذه الأخيرة. فالأحاسيس التي كانت بالنسبة لأجدادنا مسلية جدا، لم نعد نبالي بها. ولتغير مطالبنا الأخلاقية والجمالية أُسُسا عضوية. ويظهر بأن هناك بنيتان مهمتان من حيث الخاصيات النفسية للثقافة: تعزيز الفكر، الذي بدأ في السيطرة على حياة الغرائز و التمثل الداخلي للميول العدوانية، بكل ما لذلك من نتائج سلبية وإيجابية. ذلك أن التمثل النفسي، الذي تحتاجه السيرورة الثقافية، يتناقض مع الحرب بطريقة كبيرة، ولهذا السبب نمتعض منها ولم نعد نطيقها. لا يتعلق الأمر برفض عقلي ووجداني فقط، بل إنها عندنا المسالمين عدم تسامح بنيوي وخاصية من الكبر بمكان. ويظهر بأن إذلال الحرب هو، بالإضافة إلى وحشيتها، من أسباب رفضنا لها.
إلى متى سننتظر أن يصبح الآخرون مسالمين كذلك؟ لا يمكن قول شيئ، لكن قد لا يكون الأمر يتعلق بأمل أوطوبي، ذلك أن تأثير هاتين اللحظتين قد ينتهي عن طريق التصور الثقافي والخوف المبرر من تأثيرات مستقبل حربي وقيادة الحروب. ولا يمكننا معرفة الطرق والمنعرجات التي قد يحدث بها هذا الأمر. بالإضافة إلى هذا، يمكننا أن نقول لأنفسنا: كل ما يشجع التطور الثقافي، يشتغل أيضا ضد الحرب.
أحييكم قلبيا و أطلب منكم العفو، إذا خيبت ظنكم بي بشروحي هذه.
سيغموند فرويد”