كمبرلي براونلي، أستاذة في الفلسفة بجامعة ووريك بمدينة كوفينتري البريطانية
تَعِجُّ النقاشات حول مقترفي الجرائم بالنعوت والألقاب، فنحن نلحق بالناس صفاتٍ كالجاني والمجرم والمحتال أو المدان أو الخارج عن القانون أو المتمرد أو المذنب، كما نسمي كل من يقضي وقتًا في السجن بالسجين أو عديم الفائدة، بينما نطلق على الذين أنهوا مدة الحكم عليهم بالجناة أو المجرمين السابقين ونوسم من يقوم باعتداءات محددة بألقابٍ أكثر دقة كاللص أو القاتل أو المغتصب أو المتحرش الجنسي أو المتحرش بالأطفال أو القاتل السفاح. كما تزاول الصحف اليقظة الضمير كصحيفة The Guardian و The New York Times استخدام هذه التسميات بحريّة فنجد في عناوين الصحف “اتهام ممرضة احدى السجون بالاعتداء جنسيا على مغتصب مُدان”، “كيف تقبض على مغتصب”، ” كيف تتجنب تربية مغتصب” أو “قرية المعتدي جنسيا” أو “حصول المعتدين جنسيا على حق الطعن ضد التسجيل” و”إجراء اختبار لكشف الكذب للمتحرشين جنسيا يعتبر فكرة فاشلة”.
بينما أنه، وفي مجالاتٍ عديدة أخرى، فقد أصبحت هذه التسميات أمرًا عفا عليه الزمان، وترك معظمنا تعاطي صفات مثل المتوحد عقليا أو المعاق أو المشلول أو الأعمى أو الفقير أو الصعلوك، فقد رأينا كم هي مجحفة هذه التسميات وأدركنا بأن رشقهم بها يخفي كم هو معقد وضعهم ويحدُّ من قدرتهم على التمتع بحياتهم وتكوينها وفق ما يشاؤون، وأصبحنا عوض ذلك نناديهم “بأصحاب التوحد العقلي” و”وذوي الفقر” وذوي الإعاقة البصرية أو الحركية”.
إذن لِمَ لا ينطبق ذات الأمر على مرتكبي الجرائم؟
إن لإطلاق هذه التسميات فائدةً ما: تأمل حرف “A” الأحمر (اختصارًا لكلمة adulterer أو الزانية) والذي ترتديه هيستر براين في رواية The Scarlet Letter للروائي ناثانيل هوثرون (1850م)، أو خُذ بعين الاعتبار اليد المقطوعة للسارق، أو الرقم التسلسلي المطبوع على أجساد السجناء. كل علامات القصاص أو العقوبة العلنية هذه تصم هؤلاء وتميزهم بالإثم والعار، وإن فائدتها- على الأقل لأسلافنا الذين واجهوا التهديدات والمصاعب من كل الجهات- واضحة كوضوح قسوتهم، فافتراض أن ارتكاب الإثم مرة واحدة سيجرُّ صاحبه لتكراره كونه الوسيلة الأكثر أمانًا عوضا عن منح الجاني فرصة أخرى غير مؤكدة الحدوث.
إلا أن هذا التوجه خاطئ، فليس كل من يعتدي مستحقا للوم، كما أنه ليس كل ملومٍ مستحقٌ للعقوبة، وفوق ذلك حتى وإن صادف واستحق الشخص الوصفين معا، فإن له قصةً طويلة خلف حقيقة ارتكابه للجريمة؛ فقد أشارت دراسات في علم النفس إلى أننا نصبح أشد تساهلا في إصدار حكمنا إذا تعرفنا أكثر على تفاصيل خلفية الجاني وسوابقه، فبدلاً من أن يكون مراهقًا متورطًا في هجوم مسلح، فهو ابن جيراننا جاك الذي فقد أباه منذ شهرين ودخلت أمه في عتمة الاكتئاب والذي ضُرب مجددا في المدرسة الأسبوع الماضي. ويدّعي البعض الآخر أن سبب إطلاق هذه التسميات أن كل من يقترف الجريمة مُخيّر فيما يفعل، بينما يعدّ المشلول أو الفقير مُسيّرًا فيما هو عليه، فمحور الجدال هنا هو إمكانية إلقاء اللوم على المجرم كونه جديرا بذلك ومستحقا للعقوبة حتى وإن صدر منه الأمر مرة واحدة فقط.
إن قصص حياة كثير من السجناء أشد بؤسًا من ذلك حتى، فمقارنةً بالتعداد العام، فإن المحكوم عليهم بالسجن قد كانوا معرضين في طفولتهم أكثر للعنف المنزلي والأذى والإهمال أو غياب أحد الآباء، أو الإرسال لمراكز الرعاية أو الطرد من المدرسة، أو عدم امتلاك المؤهلات الدراسية، أو صعوبات في التعلم أو مشاكل ذهنية ومعوقات إدراكية، مما دفعهم لتعاطي أفخر أنواع المخدرات.
فالإلمام بهذا الأمر يقود إلى سببٍ مرجحٍ آخر حيال الاستمرار في استخدام هذه التسميات، وهو أننا لا نملك معلومات كافية عن مرتكب الجريمة، فنحن نركز في الصحف على أبرز التفاصيل المثيرة للجريمة دون الالتفات لشخص المرتكب والسوابق التي دفعته لفعل ما فعل.
وفِي حادثةٍ استثنائية تناقلتها الأخبار مؤخرا فقد تصالحت الأيسلندية ثورديس إلفا مع الأسترالي توم سترينجر والذي اغتصبها قبل 20 عاما، وألّفوا معا كتابا بعنوان South of Forgiveness (2016) والذي تم إصداره في الثامن من مارس وهو يوم المرأة العالمي، كما أنهم قدّموا ندوةً في عروض TED، ففي جهودهما للصلح يتحاشى إلفا وسترينجر استخدام لفظ (مغتصِب\مغتصِبة) على أرض الواقع لأنه مهين، وبدلا من ذلك فهما يستخدمان لفظا آخر أعمّ ألا وهو (زانٍ\زانية). غير أن كلمات شمولية كالزاني والمجرم تحمل في طياتها مفهومَيْن مضللين.
الأول هو أن المنعوت بذاك اللفظ يملك الرغبة في الاعتداء، فلا يقتصر عندها أن يكون مذنبا بسببه فحسب، بل أنه ميّالٌ لارتكاب الجرائم، وهذا لا يعد صحيحا دائما.
وأما المفهوم الثاني فهو أن هذه المصطلحات تطغى على صورة الجاني، وهذا الشيء ينطبق فعلا في قضايًا كقضايا الاغتصاب. لكن ليس كل خرقٍ للقانون نابعًا من ظلم وجور؛ أي أنه لا يمكن اتهام كل من يزني أو يعتدي بالفساد الأخلاقي، بل الواقع أن خرق القانون جائزٌ جدا أحيانا فنجد النساء اللاتي يعشن في أفغانستان تحت حكم طالبان يعتبرن مخالفاتٍ للقانون إن طالبن بحق التعليم أو قمن بقيادة الدراجة ووضع مساحيق التجميل أو قيادة السيارة، وفي بريطانيا قديما، أُعتبر ممارسو الجنس المثليون مجرمين، وعلاوة على ذلك وفي بعض الأحيان فإن خرق القانون ليس جائزا فحسب، بل وملفتًا لإعادة النظر أخلاقيًا. وأُسيء إلى ماتن لوثر كينغ، نيلسون مانديلا، أونغ سان سو كي وإدوارد سنودن رغم حسن نواياهم وتوجهاتهم ضد قوانين مجتمعاتهم مما أرغم الكثيرين على تقدير أعمالهم والثناء عليها.
كما أنه ووفقا لبحثٍ صدر عن وزارة العدل البريطانية باسم Transforming Rehabilitation (2014) فإن الشخص على الأرجح يكفُّ عن ارتكاب الجرائم إن لم يعتبر نفسه معتديًا بحق، فهو خلاف ذلك ينظر إلى نفسه نظرة الشخص الصالح الذي اقترف ذنبا، بيدَ أننا وبربط الجريمة بالشخص ذاته، فنحن لا نراه سوى ذاك المعتدي، مما يجترّه لاعتناق هذه الفكرة بداخله.، وعلى هذا فنحن نهيأ كافة الظروف الملائمة له كي يغدو ذاك النوع الذي يعتدي.
وللتبحُّر أكثر في الموضوع، فنحن نخلق للشخص عذرًا يمنعه من تبرير موقفه والتكفير عن ذنبه. في حوار بين إلفا وسترينجر، يُشير سترينجر إلى هذه المسألة قائلًا:
ظلَّت لفظة “مُغتصِب” عالقةً في ذهني كما لو كانت مهنتي الملتصقة بجوار اسمي ومكان مولدي وعُمُري حينها، وكل ما له علاقة بتحديد هويتي وتكوين ماهيّتي في هذه الحياة. وبات الاسم يلوح في مخيلتي كلما بقيت ساكنًا وأصدقائي يتحدثون، فأقول في نفسي عندها:” ها هم أصدقائي يضحكون معي، لكنهم لا يدركون أنهم يجالسون وحشًا.”
أطبقت إلفا أسنانها في استياء وكتبت قائلةً:
هنالك خطٌّ رفيعٌ يميّزُ بين أن تأسف على اقتراف ذنب ما، وأن تأسف على نفسك كونك اقترفت هذا الذنب، وكما أرى، فقد تجاوز توم هذا الخط مرات قليلة في مراسلاتنا، الأمر الذي دفعني إلى أن أحمل شفقةً تجاهه بعد تلك الفعلة الشنيعة والتي أَحَسَّ بها حينئذ. فدومًا لم أجد شعور الشفقة ذاك مثيرا للسخرية وغير منطقي فحسب، بل أؤمن كذلك أن تبنّي الناس فكرة وأنهم بعيدون عن الخلاص تعيقهم عن فعل أمور مفيدة في حياتهم.
إن من المسلم به أن للناس نزعة في الاعتداء بغض النظر عن ظروفهم بما فيهم وبوضوح كثيرين من المتورطين في جرائم الاعتداء الجنسي على الأطفال والذين حتى يأسوا من محاولة التوقف عن هذه الرغبات، فإنه وعلى ما يبدو لا يمكن تغيير سلوكهم، ولنأخذ مثالًا على ذلك الأمريكي ليروي هيندريكس والذي أُدين بأربعة عشر حالة اعتداء على الأطفال، صرح وفق ما قيل بأنه سيعتدي على الأطفال مجددا إن تم إطلاق سراحه، وفي النهاية فقد منح التزامًا مدنيا بواقع أنه مختلٌّ عقليا. ونحن هنا في هذه الحالة لن نشوه صورة هيندريكس إن نعتناه بالجاني، أو بالأحرى المتحرش بالأطفال، لكن تشويه صور الناس المحتمل هو السبب الوحيد للاستغناء عن هذه النعوت المختزلة.
سيخفف استخدامنا للغةٍ ألطف من كراهيتنا وقسوتنا تجاه من يرتكب الجريمة، بل لعل من شأنه أن يمنحنا نظرة تفاؤلية خيّرة ومتواضعة عنوانها “الأمر كلّه لله” والتي بها نتيح للناس استنكار ماضيهم والمضي قدما في التكفير عنه في الوقت الراهن. بالتأكيد فإن بعض الجرائم وحشية جدا لدرجة تنزع عنها استحقاقية هذه المقاربة التسامحية ولكن في معظم الحالات ولكل من هو مستعد لمنح غيره ممن اقترف ذنبا فرصة ثانية، فتغيير لغة التعامل خطوة صغيرةٌ لكنها جوهرية في التغلب على التعصب الهدّام ضد من يعتدي.