كارل ياسبرز ولغة التعالي
كارل ياسبرز ، فيلسوف ألماني
ترجمة: حسين القطان
في عام ٢٠١٥، بعد المجرزة التي قتل فيها ١٢ شخصا في مكاتب “تشارلي أبدو” في باريس، أصبحت عبارة “أنا تشارلي” تعبيرا جمعيا واسع الانتشار عن التضامن. وفي ألمانيا النازية، حين بدأت زوجته اليهودية باليأس من مصير وطنها المحبوب، حاول الفيلسوف والمحلل النفسي كارل ياسبرز مواساتها بعبارة مشابهة: “Ich bin Deutschland” (أنا ألمانيا). عاش كارل ياسبرز حياة استثنائية، ساهمت فيها تشكيلها تجاربه مع الرايخ الثالث. ولد في عام ١٨٨٣، بمرض عضال توقع الأطباء بأن يقتله في عمر الثلاثين – نفس العمر الذي نشر فيه كتابه الضخم عن الطب النفسي، (علم النفس المرضي العام). ومما يثير الاهتمام أن كارل ياسبرز عاش حتى عمر السادسة والثمانين، مما سمح له بالاتجاه إلى مهنة ثانية في
مجال الفلسفة.
كزوجين، فيما يسميه النازيون زواجاً مختلطاً، تعرّف كارل وجيرترود بصورة مؤذية على معاداة السامية. إلا أنهما قررا بشجاعة البقاء في ألمانيا، نجوا فيها عبر تضييق حياتهم ودوائرهم الاجتماعية. وعلى الرغم من رفض منحه درجة البروفيسور في جامعة هيدلبيرغ، ومنعه من تدريس ونشر فلسفته، إلا أن كارل ياسبرز ظل يكتب. فكما يستذكر لاحقاً، “الحياة في ظل ألمانيا النازية كانت سجناً” ولكن “الحياة الخفية للأفكار” استمرت.
فلسفياً، يمكننا بأن نعتبر بأن كارل ياسبرز هو أول الفلاسفة الوجوديين العظماء في ألمانيا ، ولكن مقاربته كانت علمية، مسؤولة، ومطلعة تاريخياً أكثر من العديد من زملائه. ككل الفينومينولوجيين الوجوديين (الدارسون لبنى التجربة المعاشة)، كان ياسبرز شديد التأثر بالتفريق الكانتي بين العالم كما هو بذاته، والعالم كما يبدو لنا. ويتبع فكرة كانط بأننا محتجزون بالمظاهر، وأننا لا نملك سبيلاً للمقارنة بين الواقع كما يبدو لنا والواقع ذاته، ولذلك فإن “ظواهر” التجربة المعاشة (الظواهر تترجم بالانجليزية لفينومينا ومنه ظهرت التسمية لعلم ال”فينومينولوجيا”) هي ما يدرسه فينومينولوجيون كياسبرز. يكتب ياسبرز بصورة منظمة، هيغلية بدرجة ما، ولكن محتوى كتاباته الفلسفية يشدد على قيود هذه الأنماط الفكرية المنظمة. وصف جون وال، زميله الفرنسي، هذا “الصراع” بين الصورة العامة والمحتوى في فلسفة كارل ياسبرز ، تلك الفلسفة التي “تقف دائما خارج النظام وتحطمه”. فكما أن حياة كارل ياسبرز المحدودة في ألمانيا النازية كانت صورة لمقاومة الدوغمائية، كانت الحياة الخفية لأفكاره صورة أخرى كذلك.
يكتب الفيلسوف البولندي ليزيك كولاكاوسكي بأن “ما اعتدنا على وصفه بفلسفة كارل ياسبرز ، هو بالواقع وصف للحالة الحرجة والمؤلمة بصورة لا شفاء لها للحالة الإنسانية.” الواقع ككل، الذي يطلق عليه ياسبرز “المحيط” يحمل ثلاثة أنماط: العالم التجريبي، الوجود، والتعالي. تمتد الحياة الإنسانية بين نمطين مترابطين: الوجود والتعالي، ليس أيٌ منهما موضوعاً للمعرفة. ومعاً فهما “يحيطان” بالعالم التجريبي. والوجود والتعالي مهمان لفهم ذلك العالم ولكن، بما أنهما ليسا موضوعان (للمعرفة) فلا يمكنهما تفسيره علمياً. بل بالأحرى فهما، كما يرى كولاكوسيكي، “يضفيان الشرعية عليه”، يعطونه المعنى.
يعرّف كارل ياسبرز البشر على أنهم مظهرون لـ “وجود محتمل”. الوجود هو ذلك الذي نثبته حين نعرِّف عن أنفسنا من خلال حريتنا الوجودية الراديكالية لتقرير من نحن وطبيعة تفاعلنا مع العالم. يمكن أن نقول بأن الوجود ينتمي للجانب “الذاتي” للإحاطة، بينما ينتمي التعالي للجانب “الموضوعي.” ولكن يصر كارل ياسبرز على اعتماد أحدهما على الآخر: لا وجود من دون تعالٍ، وكأمثلة “لوجود محتمل،” ندرك أنفسنا فقط في وجود التعالي. الانفصال بين الذات-الموضوع تفريق مهم، ولكنه ليس ثنائية منفصلة. من المستحيل علينا أن نقدم تفسيرا تجريببياً واضحاً عن العالم، ولا وجود لموجود أسمى ليساعدنا على شرحه. في فكر كارل ياسبرز، يزيل التعالي فكرة الإله كموجود. وخلافاً للإله الذي يقدمه بعض الفلاسفة لمنح تفسيرات ساذجة عن الوجود وطبيعة العالم المحسوس، ليس التعالي كياناً ضمن كيانات أخرى. لا يمكننا إثبات حقيقته علمياً أو استنتاجه عبر محاججات منطقية. وجود التعالي ضروري لمنح المعنى لعالمنا الإنساني، ولكننا نواجه التعالي خارج حدود المعرفة. إن كلمة التعالي تستحضر إلى ما لا يمكن وصفه. إنها تشير إلى مفهوم، كرائحة القهوة أو تجربة رؤية اللون الأخضر، لا يمكن بدءً فهمه أو التعبير عنه تعبيراً تاماً من خلال الكلمات. ولكن يجب علينا رغم ذلك أن نستمر في استحضاره لأن هذه المحاولة أساسية لتحقيق الذات الإنسانية.
إذا لم يكن التعالي موضوعاً ولا يمكن لنا معرفته أو الحديث عنه، كيف لنا أن نتلاقى معه؟ يقترح كارل ياسبرز سبلاً عدة، ولكن أهمها هو أن التعالي “يخاطبنا” – ليس كيهوه من خلال الزوبعة والشجيرة المحترقة ـ، ولكن عبر رمز، مجموعة من الإشارات تسمى ب”الشفرات”. إن الشفرات ليست رموزاً. فالرموز موضوعات تعبر عن موضوعاتٍ أخرى، وموضعتها في تمثيل رمزي على الرغم من احتمالية كونها موضوعات متخيلة لا يمكن أن توجد خارج الرمز. فوصف موضوعي لهيكل عظمي يمثل رمزياً حقيقة موضوعية أخرى: الموت. لكن الشفرة تستحضر التعالي، الذي يقع خارج التمييز بين الذات-الموضوع وليس موضوعاً يمكن تمثيله. يمكن للشفرة أن تكون دنيوية تماماً، تعمل كنقطة ارتكاز تكشف عن جانب لا يمكن التعبير عنه للتعالي: عملٌ فني، أسطورة دينية، ممارسة طقسية، شمعة توشك على الانطفاء. تجعل الشفرات التعالي في المتناول بالطريقة الوحيدة اللي يمكن له أن يفعل ذلك بها، ولكنها لا تكشف عنه بالصورة التي هو عليها “فعلاً” – وبما أن التعالي ليس موضوعياً تماماً، لا توجد أي طريقة لفعل ذلك. إذاً، فعلى الرغم من جعله في المتناول، يظل المتعالي مخفياً.
يشير ذلك ضمناً إلى أن التفسيرات الحرفية للأساطير الدينية، على سبيل المثال، تمنع عنا قراءة هذه الأساطير كشفرات للمتعالي. الشفرات متاحة للجميع إلا أن طرق التفكير الخرافية والدوغمائية تعمينا عنها. فليس الهدف هو قراءة الأناجيل الأربعة (مختلفة تماماً) كحقائق تاريخية، كما أنه وبالطريقة نفسها، لا يصح أن نرى رسمة ما كتعبير دقيق عن حدث فعلي. فعلى الرغم من كون بعض الرسومات والنصوص الإنجيلية صحيحة تاريخياً بصورة أو بأخرى، إلا أن قيمتها تكمن في موضع آخر. يمكن ترجمة الرموز إلى لغة غير رمزية، ولكن ليس الأمر مماثلا عندما يتعلق الأمر بالشفرات. من الممكن دائما، بعبارة أخرى، أن نعبر عما “يعنيه فعلا” رمز ما، ولكن الشفرات غير قابلة للترجمة. حيث حاجج كارل ياسبرز بذلك في مناظراته مع عالم الدين المختص بالعهد الجديد رودولف بولتمان، فالأساطير الدينية شفرات وليست رموزاً. من المستحيل إن “ننزع الأسطوري” من الأساطير الدينية (ترجمتها إلى معانٍ علمانية، كما حاول بولتمان) من دون تفريغ معناها الديني من محتواه، تاركاً فقط قشرة مجوفة خلفها. إن الشفرات يمكن تجربتها، ولكن معناها يبقى عصياً على الفك. وإنه بالتحديد عبر بقائها دون إمكانية فك تتمكن الشفرات من حماية التعالي من كل أنواع التصحيف. الشفرات إذاً، تجسد المتعالي بالصورة الوحيدة التي يمكنه أن يتجسد فيها. يقدم لنا كارل ياسبرز استعارتين لمساعدتنا لنفهم بشكل أفضل كيف يحدث ذلك: الأول هو “اللغة”، والآخر هو “علم الفراسة”. فالشفرات هي لغة المتعالي (وليست المتعالي نفسه). تشدد هذه الاستعارة على حميمية وآنية العلاقة بين الشفرات والمتعالي. فليست الشفرات هي المتعالي، وكذلك، بالقدر نفسه، ليست الأصوات للغة ما هي ما تعنيه جملة في تلك اللغة. ولكن التعالي يحتاج للشفرات ليتحقق كما إن المعنى اللغوي يحتاج لأصوات ليحمل معنىً واضحاً. ولكن على عكس اللغة المحكية، فإن لغة الشفرة لا يمكن ترجمتها. فإن ما تجسده لا يقع خارجها ولا يمكن الوصول إليه بشكل مستقل. استعارة علم الفراسة يصلح الخلل. يصف كارل ياسبرز الكيفية التي تعبر فيها إيماءات الشخص اللا إرادية عن شيء من وجوده/ها. كذلك، فإن الشفرات، كما يكتب، “كل الأشياء يبدو بأنها تعبر عن موجود ما… نحن نحس بهذه الفِراسة للوجود كله” *فكما تدل السمات على صفات الشخص، فكذلك الوجود كله دال على موجود ما (نستخدم هذا اللفظ تجوازاً لاستحالة إن تحيط به لغة)*. ولكن بينما يمكن لذلك الذي يعبر عنه علم الفراسة إن يتم الوصول إليه بوسائل أخرى (عبر علم النفس التجريبي، مثلاً)، إلّا أن التعالي لا يمكن الوصول إليه إلّا عبر الفراسة *لِفك*(الشفرة). يكتب ياسبرز: إن هذه النظرة الشفافة للوجود تشبه النظرة الفراسية – ولكن ليس كالفراسة السيئة التي تهدف إلى صورة للمعرفة، عبر الاستنتاج، من خلال رموز، إلى شيء قابع أسفلها. إنها تشبه الفراسة الحقيقية التي توجد “معرفتها” كلها في تلك النظرة التي توجهها. ولكن يمكن المحاججة بأن الفراسة الإنسانية مماثلة لها. أيقع ما تعبر عنه سمة الغصب في موقع ذهني منفصل خارج جسد الشخص الغاضب؟ أو أن الغضب مرتبط بشكل لا فكاك منه مع، ويتحقق من خلال، الجسد وسماته؟ يحاجج الفلاسفة المؤيدون لياسبرز (كموريس ميرلو بونتي وهانز-جورج غادامير) باستخدام عبارات غادمير، ب”أن ما تعبر عنه السمة ‘موجود’ في السمة نفسها… {إنها} لا تكشف عن معنى داخليٍّ خلفها.” بالحالتين، تظل النقطة التي أثارها كارل ياسبرز موجودة: الشفرات هي دلالات من دون وجود موضوع تدل عليه. كما يعبر هو” الدلالة ذاتها استعارة لكونها-شفرة”.
كاللغة الشعرية فإن للشكل والمعنى الأهمية ذاتها، محتوى الشفرات لا يمكن فصله عن صورة الشفرات نفسها. تكشف الشفرات شيئا عن المتعالي في الفراسة للعالم الإنساني نفسه. عبر قراءة العالم التجريبي كنص-شفرة للتعالي، نتحول نحن من الوجود محتمل إلى الوجود. ويُخلق التعالي في اللحظة نفسها التي يبدأ فيها في الحديث معنا في لغته المشفرة. لأن الشفرات، كما اللغة، ظواهر اجتماعية خُلقت وخُصصت من قِبلنا. من دوننا لا وجود لشفرات. على الرغم من ذلك، فأنه يجب على الشفرات أن تخصص من قبل التقاليد الثقافية والفكرية، تلك التقاليد الأقدم والأعظم منا نحن. وعند الكلام عن التمايز بين الذات-الموضوع، فإن كارل ياسبرز يقول بأن الشفرات ذاتية وموضوعية في الوقت نفسه. وعبر هذه الإعجام الأساسي، تجسد الشفرات المتعالي، الذي يسمو عن التمييز ذات-موضوع، هارباً من قبضتنا الذهنية واللغوية الحرفية. فعلى الرغم من “المتعالي أو الإله” يستبدل، في فكر ياسبرز، “إله الفلاسفة”، فإن نظرية ياسبرز للشفرات تمنحنا طريقة نتمكن من خلالها من أن نموضع الفكرة الدينية، التاريخية، ذات الأساس الروحاني بأننا كبشر مساءلون بالضرورة (في حياتنا التجريبية، فكرنا، لغتنا، وطقوسنا) أمام إله قدوس (لا يقبل الوصف)، متعالٍ ـ ليس موجوداً ضمن موجودات، بل الأساس والمصدر للوجود نفسه. تتوازى هذه الفكرة مع الفكرة الأساسية لياسبرز بأنه ليس ثمة وجود من دون متعالٍ، رغم قدرتنا المحدودة على التوصل إلى المتعالي، عبر لغته المرَمَّزة أو الفراسة – “النظر عبر زجاج، رغم العتمة”، إذا أردنا اقتباس القديس بول. وضداً “للرموز الدينية”، يجب علينا موضعة ما تحاول هي أن تجعله رمزياً (وبذلك لا يمكن فك شفراته إلى مصطلحات علمانية بحتة)، الشفرات دلالات على فشلنا المحتوم في فهم التعالي موضوعياً ـ رغم استمرار رغبتنا في فهمه. كما يصف ذلك كولاكاوسكي، إننا مجبرون على تأكيد إنسانيتنا” عبر بحث يائس عن شيء نعلم يقيناً بأننا لن نجده”. نفى ياسبرز بشدة احتمالية وجود نظام محدد، خاص للشفرات، ولكنه قَبِل أن يكون نظام للأفكار (دينياً أو غير ذلك) ذاته شفرة. من المغري اليوم، أن نرى الأنظمة الدينية، في أبعادها المختلفة، كمجرد تأكيدات على إنسانيتنا. في العالم المعاصر، حيث تتزايد الأصوات الدوغمائية واللا إنسانية بشتى أنواعها ويعلو دويها، نحن بأمس الحاجة لأن يسمع صوت كارل ياسبرز اللا دوغمائي.
ترك لنا ياسبرز إرثاً فكرياً غنياً وواسع النطاق يحيط فيه بالطب النفسي، التاريخ الفكري، السياسة، والفلسفة كذلك. فبعد تحرير هايدلبرغ، حيث مكث هو وزوجته أثناء الحرب العالمية الثانية، أعيد ياسبرز إلى منصبه كبروفيسور للفلسفة في الجامعة وأصبح ضمن أوائل من من تأملوا علناً الإحساس الجمعي بالذنب في ألمانيا. وإن صوته في عمله الأخير يخاطبنا الآن بقوة نادرة وإلحاح مؤثر.
ففي كتابه “سؤال الذنب الألماني (١٩٤٦)” يواجه ياسبرز الأسئلة الأسئلة الأكثر صعوبة فيما يتعلق بالإحساس الجمعي بالذنب الذي أثقل ألمانيا بأجمعها. وفكرته عن “الذنب الميتافيزيقي” تشير إلى المسؤولية المشتركة للشخص، تجاه الفظائع التي تم ارتكابها، بناء على أسس الإنسانية المشتركة. وبالضرورة، فإن الذنب الميتافيزيقي ينطبق على البشر جميعهم، وليس فقط على فئات معينة. اتفق ياسبرز مع طالبة الدكتوراه السابقة عنده حنة أرندت، بأن الإدانة الجمعية لفئات ما يمكن بسهولة أن يصبح النقيض المقلق للنظرية النازية الراديكالية التي محت هي كذلك إنسانية البشر. إن الذنب الميتافيزيقي يتخطى الواجب الأخلاقي في أن يخاطر المرء بحياته من أجل أناس آخرين إذا ما كان هنالك ما يمكن كسبه من خلال القيام بذلك. إنه ينطلق من نقص التآخي مع أخوته البشر: لا يكفي أن أخاطر بحذر بحياتي لمنع {جريمة} لو حدث ذلك وكنت هناك، ونجوت في حين قتل آخر، سأعلم من خلال صوتٍ داخلي: أنا مذنب لكوني ما زلت حياً.
إذاً، فإن مفهوم ياسبرز يصف كذلك أحساساً نفسياً، متوقعاً الفكرة المنتشرة حالياً ل”أحساس الناجي بالذنب”. في العالم المعاصر، حيث يرمى كتاب ورسامون بالرصاص، لن يبدأ السؤال الفلسفي بالذنب الجمعي أو الظاهرة النفسية لإحساس الناجي بالذنب بالاختفاء قريباً. إن الإرث الذي تركه ياسبرز مهم اليوم كأهميته في ألمانيا عام ١٩٤٦. ولكن الأكثر أهمية هو أفكاره حول التجديد مستقبلاً. متذكراً العبارة التي تمتم بها لزوجته في أحلك لحظاتهم، رأى ياسبرز بأن ما هو مطلوب من ألمانيا كدولة مطلوب كذلك من كل فرد. بالنسبة لياسبرز فأن تكون ألمانياً وأنساناً ليسا ظروفاً مسبقة، بل مهمات ملزمة. وكان يأمل بأن إدراكاً مقلقاً للذنب الميتافيزيقي سيساعد في هذه المهام، بدلاً من أن يؤدي إلى اليأس. وفيما يتعلق بالأخطار المقبلة، حتى في عام ١٩٤٦، تنبأ ياسبرز بشكل مقلق، بأنه لو صعد إلى السلطة في أميريكا نظام هتلري، فإن كل أمل سيفقد “لزمن بعيد”: “إذا هزم العالم الأنجلو-سكسوني من الداخل دكتاتورياً، فلن يكون هنالك ما هو خارج عنه ولا تحرر”.
نظر ياسبرز نظرة مطولة إلى مكانه ضمن تاريخ الفلسفة. رأى نفسه كحلقة وصل بين سلسلة مطولة من الفلاسفة، الحاملين لفكرة المتعالي، الذين حموا التعالي من أن يفقد منا. تستمر هذه الفكرة بالانتقال كشعلة من جيل إلى آخر، في بعض الأحيان كشرارة لامعة، إلى أن يستطيع المفكر الأعظم الذي يليه إعادة ايقادها لتصبح ناراً أشد بريقاًً. ولكن الخطر باقٍ بأن الشعلة قد تنطفئ يوماً ما. ويمكننا أن نكون شاكرين، نحن وحنة أرندت، بأن ياسبرز نجى داخل ألمانيا النازية من الطوفان “مثل نوح في فلكه” وأن نرى وجوب أن تحمل الأجيال القادمة أفكاره قدماً. وفي خطابها في حفل تأبينه عام 1969، اعترفت أرندت بأهمية صوت ياسبرز. إلا أنها، وعبر استخدام ابيات (مقطع شعري مؤلف من بيتين couplet) من “فاوست” لغوته، بدت بقول متفائل يرى بأنه سيكون هنالك دائماً من يسمع ويعي لغة المتعالي – لغة كارل ياسبرز: “لأن الأرض ستجلبهم مرة أخرى/ كما جلبتهم دائما منذ بدأ الزمن”.
ترك ياسبرز لغة فلسفية ثرية يمكن لأصحاب الدين استعمالها اليوم للتعبير عن الأهمية المركزية لأفكار مثل الحلول. وعبر مساعدته، يمكن للمسيحيين والآخرين أن يحملوا المصادر التي ستجعل أيمانهم أكثر إقناعاً في خطاب أعم وأشمل.
غاي بينيت فيلسوف وكاتب في لندن. مؤلف كتاب “استحالة الوصف والتجربة الدينية” (٢٠١٤).