بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
لا يستكمل عبدٌ حقيقة الإيمان إلا بالاعتقاد بالمعصومين الأربعة عشر عليهم السلام، ومنزلتهم الرفيعة التي خصّهم الله تبارك وتعالى بها، وهم جميعاً نورٌ واحد، وذرّيّةٌ بعضُها من بعض.
وفي الذُّرى من هؤلاء الأطهار الخمسةُ أصحابُ الكساء، والزهراءُ عليها السلام هي واسطةُ العقد؛ «أمُّ أبيها»، والحُجّة على حُجج الله على العالمين.
أن الوقوف على عظيم منزلة مولاتنا السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام، يرتبط جذريّاً بمعرفة المنزلة التي أنزل الله تعالى فيها نبيّه صلّى الله عليه وآله، والأئمّة من بنيه عليهم السلام.
جاء في تعزية أمير المؤمنين لرسول الله صلّى الله عليه وآله عند فقد الزهراء، قوله عليه السلام:
«.. وسَتُنْبِئُكَ ابْنَتُكَ بِتَظَافُرِ أُمَّتِكَ عَلَى هَضْمِهَا، فَأَحْفِهَا السُّؤَالَ واسْتَخْبِرْهَا الْحَالَ، فَكَمْ مِنْ غَلِيلٍ مُعْتَلِجٍ بِصَدْرِهَا لَمْ تَجِدْ إِلَى بَثِّه سَبِيلاً، وسَتَقُولُ: ويَحْكُمُ الله وهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ.
(السلام عليك) سَلَامَ مُوَدِّعٍ لَا قَالٍ ولَا سَئِمٍ، فَإِنْ أَنْصَرِفْ فَلَا عَنْ مَلَالَةٍ، وإِنْ أُقِمْ فَلَا عَنْ سُوءِ ظَنٍّ بِمَا وَعَدَ الله الصَّابِرِينَ. وَاه وَاهاً والصَّبْرُ أَيْمَنُ وأَجْمَلُ، ولَوْلَا غَلَبَةُ الْمُسْتَوْلِينَ لَجَعَلْتُ الْمُقَامَ واللَّبْثَ لِزَاماً مَعْكُوفاً، ولأَعْوَلْتُ إِعْوَالَ الثَّكْلَى عَلَى جَلِيلِ الرَّزِيَّةِ، فَبِعَيْنِ الله تُدْفَنُ ابْنَتُكَ سِرّاً، وتُهْضَمُ حَقَّهَا، وتُمْنَعُ إِرْثَهَا، ولَمْ يَتَبَاعَدِ الْعَهْدُ ولَمْ يَخْلَقْ مِنْكَ الذِّكْرُ، وإِلَى الله يَا رَسُولَ الله الْمُشْتَكَى، وفِيكَ يَا رَسُولَ الله أَحْسَنُ الْعَزَاءِ، صَلَّى الله عَلَيْكَ، وعَلَيْهَا السَّلَامُ والرِّضْوَانُ».
هذا المقطع من تعزية أمير المؤمنين عليه السلام يأخذ بأيدينا إلى حقائق بالغة الأهمية، أقف منها عند حقيقة واحدة هي عظَمة الزهراء، ويدعو إلى الحديث عن عظَمتها عليها السلام:
أولاً: أنّ معرفتها من العقيدة.
ثانياً: تضافر عوامل عديدة أدّت إلى التقصير في معرفتها عليها السلام، من أبرزها الفهم الخاطئ للوحدة الإسلامية. وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ حبّ أهل البيت عليهم السلام وتقديسهم، هو أبرز أُسس الوحدة الإسلامية بعد التوحيد والنبوّة. ويجب أن يُعنى الحوار في سياق الوحدة الإسلامية بتحديد الموقف من مظلومية الزهراء صلوات الله عليها، وبما ينسجم مع هذا الأصل الأبرز من أُسس الوحدة بين المسلمين.
عظَمة المعصوم عموماً
الحديث عن عظمة الزهراء المحمّدية يستدعي التمهيد لذلك بالحديث عن المعصوم عموماً، والأهم في هذا المجال أمران:
1) أنّ الحديث عن المعصوم حديثٌ عن الإنسان المكرّم، فالمعصومون هم التجلّي الأتمّ لجوهرة الإنسانية الفريدة.
2) تختلف مقاربة عظَمة المعصوم عن غيره، اختلافاً جذرياً يمكن تحديد خطوطه العامة بما يلي:
أ) تلازم الغيب والشهادة في إنسانية الإنسان. ويبلغ هذا التلازم ذروته في المعصوم. الإنسان قادمٌ من الغيب ومروره في الدنيا مستغرق في الغَيب، وهو يغذّ السير إلى الغيب.
ب) تقترن بداية عظَمة المعصوم ببداية مشروع الخلق، لأنّ المعصومين ذُرى الكمال الإنسانيّ، وقد علم الله تعالى عصمتَهم، وهي تستلزم موقعهم من هداية الإنسان، فنوّه بهم قبل خلْق الخَلق. معرفتُه تعالى بعصمتهم كمعرفة الأستاذ قبل الامتحان تفوّقَ تلميذه بعد إجراء الامتحان، مع إضافة الفارق بين علم الخالق والمخلوق.
ج) تلازم الغيب والشهادة في المعصوم في هذه النشأة - رحلة الدنيا - أجلى مظاهر غيبيّة الإنسان، وأوضح مصاديق استحضارها في المسار العمليّ. الغَيبُ حاضرٌ في كلّ موجودٍ وواقع، إلّا أنّ حضوره في الإنسان أقوى. ثمّ إنّ استحضار الإنسان الغيبَ الحاضرَ فيه متفاوتٌ بتفاوت مراتب إنسانية الإنسان. المعصوم هو الذروة أيضاً في هذا الاستحضار.
* والنتيجة: إنّ الفصل بين الإنسان والغيب تشييءٌ للإنسان قد يؤدّي إلى الكفر، والفصل بين المعصوم والغيب كفرٌ قد يؤدي إلى مسْخ الفطرة، وتحوّل الإنسانية إلى شَيطنة ومن لوازمه الخلود في النار.
د) إنّ المعصوم كالقانون، يُعرف فيُطاع ويُلتزَم. والرادّ عليه رادٌّ على الله تعالى، لأنّ العصمة تعني محْض الطاعة ومحض العبودية لله عزّ وجلّ.
هـ) إنّ الاعتقاد بالمعصوم عموماً، تكليفُ جميع الأجيال. وهذا التكليف امتحانٌ للمعصوم ولغير المعصوم. الإرسال والمحادثة تكاليفُ إضافية للمرسَل والمحدَّث، والرسالة دعوةٌ إلى العمل والالتزام.
* والخلاصة:
1) بدأ مشروع الإنسان المكرّم، بتظهير أبرز أفراد النوع الإنساني، فكان تميّز المعصومين كطليعة الأسرة الواحدة عبر أجيالها والقرون: بني آدم وحواء.
2) الهدف من تظهير أبرز أفراد النوع، إنسانيّ، بمعنى أنّ هذا التظهير لكي يقتدي بهم غير المعصومين.
عظَمة رسول الله صلّى الله عليه وآله
في كتاب (الأربعون حديثاً) وتحت الرقم الحادي والثلاثين، أورد الإمام الخميني الرواية التالية، عن (أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب المصافحة، ح 16)، نذكر منها موضع الشاهد:
«..عن أبي جعفر (الباقر) عليه السّلام، قال [الراوي]: سَمعْتُهُ يقول: ..وَإنَّ النَّبيِّ صلّى اللهُ عليه وآله وسلّم لا يوصَفُ، وَكَيْفَ يوصَفُ عَبْدٌ احْتَجَبَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِسَبْعٍ وَجَعَلَ طاعَتَهُ فِي الأرْضِ كَطاعَتِهِ فِي السَّماءِ فَقالَ: ﴿.. وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا..﴾، وَمَنْ أطَاعَ هذا فَقَدْ أطاعَني وَمَنْ عَصاهُ فَقَدْ عَصاني، وَفَوَّضَ إلَيْـهِ...».
عظَمة أهل البيت عليهم السلام
في (مدينة المعاجز) للسيّد هاشم البحراني، عن الشيخ الطوسي بسنده عن الإمام الباقر عليه السلام، قال: «بَيتُ عليٍّ وفاطمةَ حُجْرَةُ رَسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلّم، وَسَقْفُ بَيتِهِم عَرْشُ رَبِّ العالَمِين، وفِي قَعْرِ بُيوتِهِم فُرجَةٌ مَكْشُوطَةٌ إلى العَرْشِ مِعْراج الوَحْي.
والمَلائِكَةُ تَنْزِلُ عَلَيهم بِالوَحْيِ صَباحاً ومَساءً وَكُلَّ ساعةٍ وطَرْفة عَين. والمَلائِكَةُ لا تَنْقَطِعُ أفواجُهُم، فَوجٌ يَنزِلُ وفَوجٌ يَصعَد.
وإنَّ اللهَ تباركَ وتَعالى كَشَفَ لِإبراهِيمَ عليهِ السَّلامُ عن السَّماواتِ حَتّى أَبْصَرَ العَرْشَ، وزادَ اللهُ في قُوّةِ ناظِرِهِ، وإنَّ اللهَ زادَ في قُوّةِ ناظِرِ مُحَمَّدٍ وعليٍّ وفاطمةَ والحَسَنِ والحُسَينِ عليهم السَّلام، وكَانوا يُبْصِرُونَ العَرْشَ ولا يَجِدونَ لِبُيوتِهِم سَقفاً غيرَ العَرْشِ، فبُيوتُهُم مُسَقَّفَةٌ بِعَرشِ الرَّحمَنِ ومَعارِجِ المَلائِكةِ، والرُّوحُ فيها بِإذْنِ رَبِّهِم مِن كُلِّ أمرٍ سلامٌ...».
«إنما شَرُفَت بالمهديّ»
علماء المسلمين متّفقون على أنّ الحديث عن الزهراء حديث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله، ما عدا النبوّة. من هنا يجب تنزيه الحديث عنها من كلّ ما لا يتناسب مع رسول الله صلّى الله عليه وآله. يقدّم النصّ الآتي عن العلّامة المناوي نموذجاً من تعامل علماء المسلمين السنّة مع منزلة أهل الكساء عموماً، والصدّيقة الكبرى عليها السلام خصوصاً.
قال المناوي في (فيض القدير: 555/4)، نقلاً عن (مطامح الأفهام في شرح الأحكام) للقاضي عيّاض بن موسى اليحصبي المتوفّى سنة 544 هجرية: «والتحقيق أنّ الفضيلة رتبة ذاتية.. وفاطمة فضيلتها بالذات والاتصال..».
يضيف المناوي: «قال – أي ابن عياض: ..وقد زلّ قدمُ البعض، فقال: إنّ فاطمة إنّما شَرُفَتْ بالمهديّ الذي يخرج منها. وهذا كفرٌ لا غبار عليه، وسمعتُ بعض شيوخنا يحكيه عن السهيليّ عفا الله عنه، وقد كفر وامتُحن من أجلها، فإنّما قال ذلك من قلّة الدين، والاجتراء على الهوى والباطل».
ثمّ يعلّق المناوي على كلام ابن عيّاض واتهامه السهيلي بالكفر، فيقول: «وقد اجترأ عفا الله عنه على السهيليّ ونسب إليه ما لم يقله. فإنّه لم يقل: إنّها شَرُفَتْ بالمهديّ كما زعمه، بل قال: إنّ ذلك من جملة سُؤددها، وشتّان ما بين التعبيرين، وعبارة السهيليّ في (روضه) عند كلامه على خبر (إنّها سيّدة نساء أهل الجنّة)، ما نصّه: (.. ومن سُؤددها أيضاً: أنّ المهديّ المبشَّر به في آخر الزمان من ذريّتها، مخصوصةً بذلك كلّه).
هذه عبارته بحروفها، وليس فيها أنّها إنّما شَرُفَتْ بالمهديّ، كما عُزي إليه..».
والسهيليّ (508 - 581) المذكور، هو أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد ابن أبي الحسن السهيليّ الخَثعيّ الأندلسيّ المالكيّ النحويّ الحافظ.
ويريد ابن عيّاض من كلامه المتقدّم وإشكاله على السهيليّ القول بأنّ فضائل الزهراء صلوات الله عليها بالذّات، وليست بالاتّصال وحسب.
وهذه القاعدة تصحّ في جميع المعصومين عليهم السلام، أي إنّ فضائلهم «بالذات وبالاتصال»، ومن هنا يتّضح البَون الواسع بين منزلة المعصوم ومنزلة الصحابيّ، ولا مجال للمقارنة بينه وبين أيّ صحابيّ، كيف والأخير لا تصحّ صحبته لرسول الله صلّى الله عليه وآله، إلّا بالاعتقاد بمنزلة أهل البيت المحمّدية، ومن ثمّ يجب عليه أن يحصل على رضى مَن يرضى الله تعالى لرضاها.
على الكفن والعمامة
ومن النصوص التي تبين أيضاً عظيم منزلة آل بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله في نفوس المسلمين عامّة، ما أورده السيد عبد الحسين شرف الدين في (الفصول المهمّة في تأليف الأمّة)، نقلاً عن (التفسير الكبير) للثعلبي، بالإسناد إلى جرير بن عبد الله البجليّ، قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم:
«مَنْ ماتَ على حُبِّ آلِ مُحمَّدٍ ماتَ شَهيداً، أَلَا ومَنْ ماتَ على حُبِّ آلِ مُحمَّدٍ ماتَ مغفوراً له، أَلَا ومَنْ ماتَ على حُبِّ آلِ مُحمَّدٍ ماتَ تائِباً، أَلَا ومَنْ ماتَ على حُبِّ آلِ مُحمَّدٍ ماتَ مؤمناً مُستَكمِلَ الإيمانِ، أَلَا ومَنْ ماتَ على حُبِّ آلِ مُحمَّدٍ بَشّرَهُ مَلَكُ الموتِ بالجنّة ثمّ مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ، أَلَا ومَنْ ماتَ على حُبِّ آلِ مُحمَّدٍ يُزَفُّ إلى الجنّة كما تُزَفُّ العَروسُ إلى بيتِ زَوجِها، أَلَا ومَنْ ماتَ على حُبِّ آلِ مُحمَّدٍ فُتِحَ له في قَبرِهِ بابانِ إلى الجنّة، أَلَا ومَنْ ماتَ على حُبِّ آلِ مُحمَّدٍ جَعَلَ الله زُوّارَ قبرِهِ ملائكةَ الرّحمةِ، أَلَا ومَنْ ماتَ على حُبِّ آلِ مُحمَّدٍ ماتَ على السُنّة والجماعَة. ألَا ومَنْ ماتَ على بُغْضِ آلِ مُحَمّدٍ جاءَ يومَ القِيامةِ مكتوباً بينَ عَينَيه: آيِسٌ من رحَمةِ الله..».
ثم يعلّق السيّد شرف الدين قدّس سرّه على هذا الحديث، فيقول:
«المرادُ من آل محمّدٍ صلّى الله عليه وآله في هذا الحديث ونحوه مجموعهم من حيث المجموع باعتبار أئمّتهم الذين هم خلفاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وأوصياؤه، ووارثو حكمه وأولياؤه، وهم الثِّقلُ الذي قَرَنَه بالقرآن ونصّ على أنّهما لا يفترقان، فلا يضلّ مَن تمسّك بهما، ولا يهتدي مَن تخلّى عنهما. وليس المراد هنا، من الآل، جميعهم على سبيل الاستغراق والشمول لكلّ فرد فرد، لأنّ هذه المرتبة السامية ليست إلّا لأولياء الله القوّامين بأمره خاصّة، بحُكم الصِّحاح المتواترة من طريق العترة الطاهرة.
نعم، تجب محبّةُ جميع أهل بيته وذريّته، كافّة، لتفرّعهم من شجرته الطاهرة صلّى الله عليه وآله، وبذلك تحصل الزُّلفى لله تعالى، والشفاعةُ من جدّهم، بأبي هو وأمّي.
وكنت أوصيتُ أولادي أن يكتبوا هذا الحديثَ على كَفني بعد الشهادتين لألقى اللهَ تعالى بذلك، والآن أكرّر وصيتي هذه إليهم، وَلْتَكُن الكتابةُ على العمامة.