سن الأربعين وبعثة الرسول صلى الله عليه وسلم
إذا تأملنا في بعث النبي على رأس سنِّ الأربعين فيتَّضح لنا على سبيل اليقين أنَّ سنَّ الأربعين له أهميَّةٌ خاصَّةٌ في حياة الإنسان بشكل عام؛ حتى إنَّ الله عزَّ وجلَّ ذكره على وجه التخصيص في كتابه الكريم حين قال: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المـُسْلِمِينَ} [الأحقاف: 15]، فهذا التمام في العقل، وهذا النضوج في الأخلاق، وهذا العمق في الرؤية، وهذه القدرة على فهم الأمور فهمًا صحيحًا، بدأت عند سنِّ الأربعين.
ولكن يلفت الأنظار هنا أنَّ رسولنا صلى الله عليه وسلم حتى هذه اللحظة -مع ما كان يتميَّز به من الشرف والمكانة والأخلاق الحميدة والحكمة- لم يكن يحمل دورًا قياديًّا في مكة، وكانت أمور مكة تُدار ببعض الرجال الآخرين من قبائل مختلفة، لم يكن من بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حتى إنَّ الممثِّل لبني هاشم في قيادة مكة كان عمُّه أبو طالب، وهذا بالطبع لعوامل السن، وعوامل القيادة في بني هاشم ذاتها.
لكن النقطة التي أُريد أن ألفت لها الأنظار أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد سنِّ الأربعين سيبدأ لا أقول في قيادة مكة وحدها، أو قيادة العرب؛ بل سيبدأ في قيادة الدنيا بكاملها، وهنا لفتةٌ لكلِّ المسلمين الذين يقرءون سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنَّه ينبغي ألَّا يظن أحدٌ أنَّه إذا فات من عمره أربعون سنة أنه قد مضى به قطار العمر؛ فقد يكون أمامك خطواتٌ يُمكن أن تُغيِّر بها خريطة الدنيا.
وقفات مع النفس عند سن الأربعين
فينبغي لكلِّ من وصل إلى هذه السنِّ أن يقف مع نفسه وقفات، وينظر ماذا فعل في المدَّة التي سبقت من عمره؟ وماذا هو فاعلٌ في المرحلة المتبقِّية؟ مع العلم أنَّ الفترة المتبقِّية قد تحمل فيها من الخير والصلاح للنفس وللمجتمع وللأرض بكاملها أضعاف أضعاف ما حملته الفترة السابقة؛ لأنَّ الإنسان قد اكتمل عقله، وكثرت خبراته، وتعمَّقت رؤيته، وبذلك يُمكن أن يُحدِث أثرًا كبيرًا في الحياة الدنيا بعد هذه السن.
ووقفةٌ كذلك مع المدَّة التي سبقت البعثة، وهي مدَّة أربعين سنةً كاملة، وهي مدَّةٌ كبيرةٌ للغاية بالقياس إلى عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه بذلك صارت مدَّة النبوَّة ثلاثًا وعشرين سنةً فقط، وهذا يُوضِّح لنا أهميَّة الإعداد والتأنِّي في التربية؛ فقد كان من الممكن أن يُعَدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في عامٍ أو في يوم؛ لكنَّ الله عزَّ وجلَّ يُعَلِّمنا كيف تكون السُّنن، وكيف يكون إعداد الدُّعاة للقيام بالمهامِّ الكبرى، فكانت هذه الفترة المهمَّة في حياة رسولنا صلى الله عليه وسلم.
جاءت اللحظة التي سيلتقي فيها جبريل عليه السلام مع رسولنا صلى الله عليه وسلم للمرَّة الأولى، وكان هذا في رمضان من السنة الأولى من البعثة، وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من العمر أربعين سنة، يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "بُعِثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأَرْبَعِينَ سَنَةً، فَمَكَثَ بِمَكَّةَ ثَلاَثَ عَشْرَةَ سَنَةً يُوحَى إِلَيْهِ، ثُمَّ أُمِرَ بِالهِجْرَةِ فَهَاجَرَ عَشْرَ سِنِينَ، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلاَثٍ وَسِتِّينَ" [1].
هذه الرواية حدَّدت مددًا معيَّنَة لكل فترة من فترات حياته صلى الله عليه وسلم، فهناك أربعون سنة مرَّت عليه قبل البعثة، وهناك ثلاث عشرة سنة بمكة، وعشر سنوات بالمدينة، ثم توفي بعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والبعض قد يظن أن هذه أرقام تقريبية؛ لأن جبريل عليه السلام جاء في رمضان؛ بينما نعرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وُلِدَ في ربيع الأول [2]، وبهذا يكون في حساب البعض أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الشهر -أعني شهر رمضان الذي جاء فيه جبريل عليه السلام- قد تجاوز الأربعين بستة أشهر، وتُصبح فترة مكة في هذا الحساب ثلاث عشرة سنة ونصف؛ لأنه هاجر في ربيع الأول من السنة الرابعة عشرة من البعثة؛ بينما تبقى فترة المدينة عشر سنوات كاملة؛ لأنه مات في ربيع الأول كذلك من العام الحادي عشر من الهجرة.
وواقع الأمر أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كان دقيقًا جدًّا في حسابه؛ لأنه أدخل فترة الرؤيا الصادقة في الوحي، ونصُّ عائشة رضي الله عنها في البخاري يُؤَكِّد أنها داخلة فيه؛ حيث قالت: "أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ"[3].
وقد بدأت هذه الفترة قبل رمضان بستة شهور، أي في ربيع الأول، وبذلك تُصبح النبوَّة عند سن الأربعين تمامًا، وهذا دليل جديد على أن فترة الرؤيا الصادقة كانت ستة أشهر، وهذا تُؤَكِّده رواية أنس بن مالك رضي الله عنه في البخاري كذلك: "بَعَثَهُ اللهُ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً"[4]. فكلمة أنس رضي الله عنه هذه: "عَلَى رَأْسِ". تُوَضِّح أن البعثة كانت بعد تمام الأربعين مباشرة (أي وهو يبدأ عامه الواحد والأربعين).
ومن الثابت أن قدوم جبريل عليه السلام كان في رمضان؛ إذن أول البعثة التي كانت على رأس أربعين سنة كانت في ربيع الأول عندما بدأت مرحلة الرؤيا الصادقة؛ وبذلك تُصبح فترة مكة ثلاث عشرة سنة تمامًا؛ لأن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت في ربيع الأول، وكذلك فترة المدينة عشر سنوات كاملة، ويُصبح عمر الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثًا وستين سنة كما قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
ثم إن لنا وقفة مع بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عند سن الأربعين:
من الواضح أن سن الأربعين له أهمية خاصة في حياة الإنسان؛ حتى إن الله عز وجل ذكره على وجه التخصيص في كتابه الكريم حين قال: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المُسْلِمِينَ} [الأحقاف: 15]، فهذا التمام في العقل، وهذا النضوج في الأخلاق، وهذا العمق في الرؤية، وهذه القدرة على فهم الأمور فهمًا صحيحًا، بدأت عند سن الأربعين.
ولكن يلفت الأنظار هنا أن رسولنا صلى الله عليه وسلم حتى هذه اللحظة -مع ما كان يتميَّز به من الشرف والمكانة والأخلاق الحميدة والحكمة- لم يكن يحمل دورًا قياديًّا في مكة، وكانت أمور مكة تُدار ببعض الرجال الآخرين من قبائل مختلفة، لم يكن من بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حتى إن الممثِّل لبني هاشم في قيادة مكة كان عمُّه أبو طالب، وهذا بالطبع لعوامل السن، وعوامل القيادة في بني هاشم ذاتها.
لكن النقطة التي أُريد أن ألفت لها الأنظار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد سن الأربعين سيبدأ لا أقول في قيادة مكة وحدها، أو قيادة العرب، بل سيبدأ في قيادة الدنيا بكاملها، وهنا لفتة لكل المسلمين الذين يقرءون سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه ينبغي ألا يظن أحد أنه إذا فات من عمره أربعون سنة أنه قد مضى به قطار العمر؛ فقد يكون أمامك خطوات يمكن أن تغير بها خريطة الدنيا.
فينبغي لكل من وصل إلى هذه السن أن يقف مع نفسه وقفات، وينظر ماذا فعل في المدة التي سبقت من عمره؟ وماذا هو فاعل في المرحلة المتبقية؟ مع العلم أن الفترة المتبقية قد تحمل فيها من الخير والصلاح للنفس وللمجتمع وللأرض بكاملها أضعاف أضعاف ما حملته الفترة السابقة؛ لأن الإنسان قد اكتمل عقله، وكثرت خبراته، وتعمَّقت رؤيته، وبذلك يمكن أن يُحدث أثرًا كبيرًا في الحياة الدنيا بعد هذه السن.
ووقفة كذلك مع المدَّة التي سبقت البعثة، وهي مدة أربعين سنة كاملة، وهي مدة كبيرة للغاية بالقياس إلى عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه بذلك صارت مدَّة النبوة ثلاثًا وعشرين سنة فقط، وهذا يوضح لنا أهمية الإعداد، والتأنِّي في التربية؛ فقد كان من الممكن أن يُعَدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام أو في يوم؛ لكن الله عز وجل يُعَلِّمنا كيف تكون السنن، وكيف يكون إعداد الدعاة للقيام بالمهامِّ الكبرى، فكانت هذه الفترة المهمَّة في حياة رسولنا صلى الله عليه وسلم.
والحق أن هذه الفترة تحتاج إلى دراسة خاصة، وأتمنى أن أُفْرِد لها كتابًا منفردًا بإذن الله تعالى، يتناول حياته صلى الله عليه وسلم منذ وُلد إلى أن وصل إلى لحظة الوحي، وأنا على يقين أننا سنُخرج منها كنوزًا شتى، وعِبَرًا لا تحصى، في كيفية إعداد الدعاة وتربيتهم، حتى يصلوا إلى المستوى الذي يمكن أن يحملوا فيه أمانة تبليغ هذا الدين.
[1] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، (3689)، وأحمد (3517).
[2] قال الصوياني: كونه ولد في شهر ربيع الأول هو الصحيح، فقد ورد في ذلك حديثان يقوي بعضهما بعضًا، الأول: عند ابن أبي شيبة وفيه انقطاع (سيرة ابن كثير 1/199)، والآخر رواه مالك وعقيل ويونس وهو مرسل محمد بن جبير بن قطع، (سيرة ابن كثير 1/199)؛ لكن تحديد أي يوم هل هو الثامن أو الثاني عشر من ربيع، فلم أعثر على خبر صحيح يحدده؛ لكن ابن كثير يقول: إن جمهور العلماء يرجحون يوم الثاني عشر، لكن ترجيحهم يبقى دون سند صحيح. الصوياني: السيرة النبوية 1/24.
[3] عن عائشة رضي الله عنها قالت: "أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ جَاءَهُ المَلَكُ، فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق: 1 - 4]". البخاري: كتاب التفسير، سورة العلق، (4673).
[4] البخاري: كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم (3355)، ومسلم: كتاب الفضائل، باب في صفة النبي صلى الله عليه وسلم ومبعثه وسنه، (2347).
د. راغب السرجاني