آين راند – موسوعة ستانفورد للفلسفة / ترجمة: علي الحارس
آين راند (1905-1982) روائية وفيلسوفة وضعت في رواياتها ومقالاتها الخطوط العريضة لفلسفة شاملة، بما فيها من إبستيمولوجيا ونظرية للفن. وكانت في أولى بداياتها قد كتبت أيضًا القصّة القصيرة والمسرحية والنصوص التمثيلية؛ وقد لاقت روايتها الأولى (نحن الأحياء)، وهي أكثر رواياتها تعبيرًا عن سيرتها الذاتية، الكثير من الرفض من جانب الناشرين قبل أن تنشر في العام (1936)، وذلك لأن أحداثها تقع في الاتحاد السوڤييتي، وكان في أمريكا حينها تعاطف واسع بين المثقّفين مع “التجربة” السوڤييتية؛ ثمّ أتبعت روايتها الأولى سريعًا برواية ثانية في العام (1938) حملت عنوان (النشيد)، وهي رواية من نمط (المدينة الفاسدة)، وقد كتبتها “كقسط من الراحة” من العمل تهيّؤًا لروايتها الكبيرة التالية (المنبع) التي صدرت في العام (1943)، ولاقت (المنبع) ما لاقته سابقتها من رفض الناشرين بسبب ما بها من فردانية، وانهالت عليها سهام النقّاد، لكنها سرعان ما أصبحت في عداد أكثر الكتب مبيعًا بسبب ما تناقلته الألسن عنها، فسلّطت هذه الرواية أضواء الشهرة على راند؛ وتوّجت هذه الشهرة بروايتها (أطلس يستريح) في العام (1957). وبحلول العام (1958) كانت روايات راند، والتي غلب عليها الطابع الفلسفي تدريجيًا، قد جمعت حول أفكارها من المتابعين المخلصين ما يكفي لكي تشكّل، بالاشتراك مع عالم النفس ناثانيل براندن (والذي انفصلت عنه لاحقًا)، حركة فلسفية رسمية دُعِيت بـ”الموضوعانية”، ذات بنية كاملة من المجلات والمحاضرات التعليمية. وعلى الرغم من شعبيتها الكبيرة، لم ينظر إلّا قلّة قليلة من الفلاسفة المتمرّسين إلى عملها بعين الجدّ، ونتيجة لذلك فإنّ معظم الأعمال الفلسفية الجادّة التي تناولت راند قد ظهرت في مجلات غير أكاديمية وغير محكّمة، أو في كتب، وفي البيبليوگرافيا التي أوردناها في ذيل هذه المادّة الموسوعية ما يعكس هذه الحقيقة، وسنناقش الأسباب الرئيسية لرفضها من قبل معظم الفلاسفة المتمرّسين في القسم الأوّل. وفي مناقشتنا لآرائها الفلسفية، ولا سيّما آراءها الأخلاقية-السياسية، سنعتمد على كتاباتها الأدبية وغير الأدبية كليهما، وذلك لأنّ آراءها لا يمكن تفسيرها أو تقييمها بدقّة إلّا على هذا النحو.
- 1. مقدّمة
- 1. 1. آين راند والفلسفة
- 1. 2. حياتها وعملها
- 1. 3. الميتافيزيقيا والإبستيمولوجيا
- 2. الأخلاق
- 2. 1. ما هي الأخلاق، ولماذا نحتاجها؟
- 2. 2. (البقاء) كغاية نهائية
- 2. 3. (بقاء الإنسان باعتباره إنسانًا) كغاية نهائية
- 2. 4. (السعادة) كغاية نهائية
- 2. 5. الفضائل، والرذائل، والأناوية (Egoism)
- 2. 6. الغيرية
- 3. الفلسفة الاجتماعية-السياسية
- 3. 1. الحقوق والرأسمالية ومبدأ التاجر
- 3. 2. النسوية
- 4. الجماليات
أ. ملحق: الإبستيمولوجيا والميتافيزيقا
أ. 1. الإدراك الحسي
أ. 2. نظرية للمفاهيم
أ. 3. الوجود، والهوية، والوعي
أ. 4. ميتافيزيقا الطبيعة البشرية
- 1. مقدّمة
- 1. 1. آين راند والفلسفة
تقول راند بأنّ حبّها الأوّل والأعظم، و”غايتها في الحياة”، هي “خلق عالمٍ […] يمثّل الكمال البشري”، أمّا اهتمامها بالمعرفة الفلسفية فلم يكن “إلّا” من أجل هذه الغاية (تدوينة في دفتر مذكّرات بتاريخ 4 مايو 1946؛ Rand 1997: 479).[i] ومع ذلك فإنّ اهتمامها بالمعرفة الفلسفية استمرّ طويلًا بعد أن قامت بخلق هذا العالم في رائعتها (أطلس يستريح) التي ختمت بها أعمالها الأدبية. ولقد طوّرت راند في أعمالها غير الأدبية تصوّرًا عن الواقعية الميتافيزيقية، والعقلانية، والأناوية الأخلاقية (المصلحة الذاتية العقلانية)، والحقوق الفردية، ورأسمالية عدم تدخّل الدول في الشؤون الاقتصادية، والفنّ، وطبّقت فلسفتها على القضايا الاجتماعية. وكتبت مقالات فلسفية مثيرة للجدل كانت في كثير من الحلات إجابات عن أسئلة للمعجبين بروايتيها (أطلس يستريح) و(المنبع)؛ وألقت المحاضرات في الجامعات، وكانت ضيفة لعدد من المقابلات الإذاعية والتلفزيونية. وهي تصف فلسفتها بقولها: “هي في جوهرها مفهوم للإنسان باعتباره كائنًا بطوليًا: سعادته هي الغاية الأخلاقية لحياته، وإنجازه المثمر هو نشاطه الأنبل، والعقل هو المطلق الوحيد لديه” (Rand 1957 [1992]: Afterword).
وهي ترى بأنّ الرأسمالية، “المثل الأعلى المجهول”، هي المنظومة الاقتصادية-السياسية الوحيدة التي تتوافق مع هذه الفلسفة لأنّها المنظومة الوحيدة التي تقوم على احترام الإنسان كغاية في ذاتها. ولقد استمدّت الحركة السياسية الليبرتارية المؤيّدة للسوق الحرّ، ولا زالت تستمدّ، قدرًا عظيمًا من الإلهام من آين راند، وإن كانت راند تبرّأت منها بشكل واسع، وذلك من دفاعها الأخلاقي عن (دولة الحدّ الأدنى)، أيّ: الدولة التي لا سبب لوجودها سوى حماية الحقوق الفردية.
وبينما نجد أفكار راند ونمط تقديمها لها قد خلقت لها شعبية بين الكثير من غير الأكاديميين، فإنّ الأمر نفسه قد أدّى إلى نتيجة معاكسة بين الأكاديميين. فبعض آرائها قامت بتطويرها في معرض إجابتها عن أسئلة قرّائها، لكنّها لم تبذل جهدًا في الدفاع ضدّ الاعتراضات المحتملة أو في توفيقها مع الآراء التي عبّرت عنها في رواياتها. ويضاف إلى ذلك أنّ مقالاتها الفلسفية تفتقر لأسلوب الانتقاد الذاتي المفصّل في الفلسفة التحليلية، ناهيك عن أيّة محاولة جدّية لتناول أيّ اعتراض محتمل لآرائها. وإنّ أسلوبها المفعم بالجدل، والذي تعلوه نبرة ازدراء، مع سلوك معجبيها الدوغمائي الشبيه بسلوك أتباع الطوائف المتطرّفة (cults)، يوحي أيضًا بأنّ عملها ليس جديرًا بأن يؤخذ على محمل الجدّ.[ii] وعلاوةً على ما سبق يتطلّب فهم آرائها قراءة أعمالها الأدبية، لكنّ هذه الأعمال ليست من النوع الذي يرضي جميع الأذواق؛ ويزيد الطين بلّة ما تقوم به دائمًا من رفض آراء الفلاسفة الآخرين على أساس قراءات سريعة وأحاديث مع قلّة قليلة من الفلاسفة ومع أتباعها من دارسي الفلسفة الشباب. ومن الفلاسفة المعاصرين من يقابل سلوكها هذا برفض أعمالها وازدرائها على أساس الأقاويل، وبعض من يقرأ أعمالها منهم يشير إلى أنّ حججها لا تؤدّي، في الكثير جدًّا من الحالات، إلى ما تخلص إليه من استنتاجات. وهذا التقييم يتشاركه حتّى الكثير ممّن يعتقدون بأصالة وبصيرة استنتاجاتها وانتقاداتها للثقافة المعاصرة، والأخلاق، والسياسة. ولهذا يجب أن لا نتفاجأ عندما لا نجد لها ذكرًا، إلّا بشكل عابر، في الموادّ الموسوعية التي تناقش الفكر الفلسفي الحالي في مجال: أخلاقيات الفضيلة، أو الأناوية، أو الحقوق، أو الليبرتارية، أو الأسواق. (ربّما يجد القارئ في المادّة الموسوعية حول الفلسفة السياسية عند نوزيك أمرًا يثير الاهتمام). وفي ما يلي سنقدّم انتقادات محدّدة لحجج آين راند وادّعاءاتها، كلًّا في قسمه الذي يتعلّق به.
- 1. 2. حياتها وعملها
وُلدت آين راند في روسيا وحملت الاسم (أليسا زينوڤييڤنا روزنباوم) وسط عائلة يهودية برجوازية في مدينة سانت بطرسبرگ الروسية، وذلك في (2 فبراير 1905). وكانت شاهدًا على ما حدث في الثورة الروسية والحرب الأهلية، فعارضت كلًّا من الشيوعية والقيصرية. وكان اختصاصها الأساسي في الجامعة هو التاريخ، لكنّ منهاج العلوم الاجتماعية في جامعة پتروگراد الحكومية كان يتضمّن الفلسفة والقانون والفيلولوجيا (فقه اللغة)، وكان أساتذتها يشدّدون، كما فعلت هي في ما بعد، على أهمّية تطوير صلات منهجية بين ميادين الفكر المختلفة (Sciabarra 1995). ولقد كان المنهاج الرسمي للفلسفة يتضمّن: الفلسفة القديمة (أفلاطون وأرسطو خصوصًا) والمنطق وعلم النفس الفلسفي والماركسية-اللينينية والفكر السياسي غير الماركسي؛ لكنّ من الواضح أنّها اطّلعت على أفكار هيگل ونيچه، والتي ازدهرت خلال تلك الحقبة المعروفة بـ(العصر الروسي الفضّي)، وقرأت الكثير من كتابات نيچه دون إشراف من أحد. وبعد التخرّج من جامعة پتروگراد في العام (1924)، دفع بها اهتمامها بكتابة النصوص التمثيلية إلى التسجيل في المعهد الوطني للسينما في العام (1924). أمّا من الناحية الأدبية فلقد درست نتاج كبار الروائيين والشعراء الروس، لكنّها وقعت في حبّ ڤيكتور هوگو، والذي تدين له بما في رواياتها من “واقعية رومانطيقية”.
وفي العام (1925) نجحت راند في الحصول على إذن رسمي بزيارة أقاربها في الولايات المتّحدة الأمريكية، فغادرت دون نيّة بالعودة لما كانت تشعر به من كراهية ضدّ الاتّحاد السوڤييتي. وأقامت راند ستّة أشهر لدى أقاربها في مدينة شيكاگو، ثم غادرتها إلى هوليود ليقودها الحظّ في اليوم الثاني من وصولها إلى لقاء منتج الأفلام الأمريكي سيسيل ديميل، وتمخّض اللقاء عن وظيفة لها (قارئة نصوص تمثيلية)، ثم أصبحت (كاتبة نصوص تمثيلية) في ما بعد. وقادها الحظّ أيضًا إلى لقاء مهمّ آخر في الأسبوع الثاني من وصولها، فالتقت الممثّل فرانك أوكونر، وتمخّض اللقاء عن زواجهما في العام (1929)، واستمرّ هذا الزواج حتّى وفاة أوكونر في العام (1979). ويُعتقَد بأنّها تبنّت اسمها المستعار (آين راند) خشيةً على أهلها في روسيا، لكنّها صرّحت لصحيفة (إيڤنينگ پوست) في العام (1936) بأنّ (راند) هو اختصار للقبها الروسي.
في العام (1951) انتقل الزوجان إلى نيويورك ليقيما فيها بشكل نهائي، وهناك انخرطت راند وتأثّرت بحلقة من المثقّفين الذين يقيم أغلبهم في نيويورك ويسعون إلى إحياء الليبرالية الكلاسيكية، ومنهم: الصحافي الاقتصادي هنري هازليت، والاقتصادي النمساوي لودفيگ ڤون ميزس، والروائية والناقدة الأدبية والفيلسوفة السياسية الأمريكية-الكندية إيزابيل پاترسون. وإلى جانب ذلك درست راند الفلسفة اللوكية التي اعتنقها مؤسّسو الولايات المتّحدة الأمريكية وأُعجِبت بها أشدّ الإعجاب. ولقد ظلّت راند تقيم وتعمل في مدينة نيويورك حتّى وفاتها في العام (1982).
تعتقد راند بأنّ الفلسفة، وحالها في ذلك حال كلّ أشكال المعارف والمنجزات، ليست مهمّة لمكانتها الضرورية في عيش حياة طيّبة وخلق عالم يفضي إلى مثل هذه الحياة وحسب، بل لأنّها تقوم أيضًا بتزويدنا بالمفاهيم التجريدية الأكثر جوهرية من الناحيتين الإدراكية (فتعيننا على تحديد هوية الأشياء) والمعيارية (فتعيننا على تقييمها). فالجميع، وفقًا لراند، يحتاجون إلى فلسفة ما، ويسيرون على هدى فلسفة ضمنيّة على الأقلّ (Rand 1982a: ch. 1). ولقد عبّرت في رواياتها عن اعتقادها بأنّ مستوى الصواب، صعودًا وهبوطًا، في فلسفتنا ينعكس على مستوى النجاح في حياتنا، أمّا إذا ضلّت الفلسفة المتبنّاة طريقها فستحلّ الكارثة بحياتنا؛ ولهذا فإنّ للفلسفة أهمية عملية ملحّة. لكنّ راند، وعلى العكس من كارل ماركس، نقيضها فلسفيًا وسياسيًا، تعتقد بأنّ التغيير الاجتماعي يجب أن يبدأ بثورة أخلاقية من داخل كلّ فرد، وبأنّ انتشار الأفكار والمثل الصائبة يتمّ من خلال الخطاب العقلاني والإلهام الفنّي.
ونجد الإنسان المثالي، كما تراه راند، في كلّ رواياتها، وبدرجات مختلفة من التطوّر؛ وهي تقدّم لنا عالمها المثالي في روايتها (أطلس يستريح). وتتمحور روايات راند حول حبكات قصصية معقّدة وصادمة يرافقها استكشاف نفساني مبطن لعواطف الشخصيات وأفكارها، وذلك بجانب تأمّلات فلسفية نادرًا ما تخرج عن السياق الدرامي. وكما هو الحال عند الكثير من مشاهير الروائيين الروس، لا سيّما دوستويڤسكي الذي تعتبره على خبرة عظيمة بعلم النفس، تقوم راند أيضًا باستخدام الخطب الطويلة لعرض فلسفتها، وهو أسلوب له من يؤيّده ومن يعارضه. وهي تصف روايتها (أطلس يستريح) بأنّها “رواية تشويقية” ولغز جريمة قتل: مقتل روح الإنسان على يد ثقافة جماعاتية؛ وهي لا تعني بـ”الروح” تلك المادّة الخالدة التي تبقى بعد موت الجسد، إذ لا يمكن اعتبار أيّ جانب من جوانب فلسفتها مؤيّدًا للثنوية، بل تعني بهذه الكلمة ذهن الإنسان، أو روح الإنسان التي تحتفل بالحياة على هذه الأرض. ولقد أخذت ظاهرة مألوفة ومجازًا أدبيًا (إضراب للعمّال)، وقلبتها رأسًا على عقب لترينا ما يحدث حين يُضرِب “أولو الألباب” (العلماء، والفلاسفة، والصناعيون ورياديّو الأعمال والكتّاب: “المحرّكون الرئيسيون” لأيّ مجتمع). وهي تدّعي أنّها تبيّن كيف يمكن للمنهج الميتافيزيقي الخاطئ أن يؤدّي إلى منهج أخلاقي خاطئ، وبالتالي إلى خيارات شخصية كارثية ومنظومة سياسية واقتصادية فظيعة، وكيف نحتاج إلى المنهج الفلسفي الصائب كي نعيد ولادة الروح ونعيد بناء العالم. إنّ البطل في روايات آين راند ليس فارسًا يهرع بحصانه الأبيض لإنقاذ إحدى الجميلات من محنتها، أو مبارز يقارع العشرات بيد واحدة، بل هو رجل أو امرأة يعيش في أمريكا الصناعية منتصف القرن العشرين، تحيط به مصانع الفولاذ وناطحات السحاب والطرق السريعة المتلألئة، فتارةً يكون البطل امرأة تدير شركة للسكك الحديدية، وتارةً أخرى يكون رجلًا يحدث ثورة في الهندسة أو يخترع محرّكًا يعمل بالكهرباء الساكنة لإنتاج طاقة نظيفة لا حدّ لها (كتبت راند عن هذا المحرّك قبل وقت طويل من عصرنا الذي أصبحت فيه الطاقة النظيفة “حديث الساعة”). وتعرض راند في رواياتها أهمّية السعي إلى أن نصبح أفضل ما يمكننا أن نكون عليه، فنقرأ في روايتها (أطلس يستريح): “لا تسمح لنارك بالخمود، فكلّ شرارة لا تعوّض، عندما تغرق في مستنقعات اليأس التي تتعدّد أسماؤها: تقريبًا، ليس تمامًا، ليس بعد، لا مطلقًا. لا تدع البطل في روحك يتلاشى في مسعاك اليائس المستوحد أملًا في حياة تستحقّها لكنّك عاجز أبدًا عن نيلها. تأكّد من طريقة، ومن كنه معركتك؛ فالعالم الذي رغبت به يمكنك الفوز به.. إنّه موجود.. إنه حقيقي.. إنّه ممكن” (Rand 1957 [1992]: 983).
إنّ روايات راند تلهم القارئ لأنّها تقدّم له أبطالًا يتحلّون بنزاهة عصيّة على الاختراق، ويحيا كلّ منهم حياة مميّزة مفعمة بالحيوية ويحقّق النجاح بسبب اعتناقه لفضيلة لا تساوم، وليس على الرغم من هذه الفضيلة. ولا شكّ في أنّ هنالك خلاف على تقييم هذه الفضيلة، فالكثير من القرّاء يرون بأنّ الشخصيات في روايات آين راند تتّسم بالتخشّب، وأنّها أسلوبها في الكتابة متصنّع، وأنّ آراءها الأخلاقية والسياسية مضلَّلة.
ولقد احتفت راند بأرسطو، والذي تعتبره أعظم الفلاسفة جميعًا، في العناوين التي اختارتها لثلاثة من أقسام روايتها (أطلس يستريح)، وهي (عدم التناقض، إمّا وإمّا، أ هو أ)، ولأحد الفصول (المحرّكون بلا تحريك). وعلى الرغم من اختلافها الحادّ مع نيچه على الكثير من القضايا (بما فيها: العقلانية، والإرادة الحرّة، وحقوق الفرد)، فإنّ تأثيره واضح في أسلوبها الكتابي الذي يتّصف بالاستفزاز ومقارعة الحجّة بالحجّة والحكم المختصرة، وكذلك “تقييمها الجديد” للقيم التقليدية وتأكيدها القويّ على الحياة والبهجة وروح الشباب. ولقد جاء في المقدّمة التي كتبتها لطبعة الذكرى الخامسة والعشرين لصدور روايتها (المنبع) بأنّ معنى الحياة كما توحي به الرواية يمكن تمثيله بأفضل ما يمكن في نصّ ورد في كتاب نيچه (ما وراء الخير والشر): “الروح النبيلة تبجّل نفسها”. (للاستزادة حول ما ورد في هذه الرواية من تعاطف وانتقاد، سويّة، في التعامل مع أفكار نيچه، راجع: Hunt 2006).
- 1. 3. الميتافيزيقيا والإبستيمولوجيا
من المكوّنات الرئيسية في الرؤية الراندية، وهو مكوّن بلغ من مكانته الرئيسية حدًا جعل آين راند تشتقّ منه اسم منظومتها الفلسفية (“الموضوعانية”)، ثلاثية تجمع بين ثلاثة صفات: الجوهرية، والذاتية، والموضوعية. فالظاهرة (الجوهرية) هي التي تعتمد طبيعتها اعتمادًا كاملًا على عوامل خارجية بالنسبة للذهن؛ والظاهرة (الذاتية) هي التي تعتمد طبيعتها اعتمادًا كاملًا على الذهن؛ والظاهرة (الموضوعية) تعرّف، من بين تعاريفها المتعدّدة، بأنّها التي تعتمد على العلاقة بين طبيعة كيان حيّ (بما في ذلك: طبيعة ذهنه) وبين بيئته، أو بأنّها التي تعتمد على العلاقة بين ذهن يعمل بشكل مناسب (عقلاني) والواقع الذي يقع خارج الذهن. وهنا ينقسم المحلّلون بشأن الطريقة الأفضل لتفسير آراء راند في هذه القضية.
وتعتقد راند بأنّ هنالك ميلًا واسعًا لتجاهل المكوّن الثالث، أو لدمجه في المكوّن الثاني، ممّا يحدث فجوة هائلة بين المكوّنين الجوهري والذاتي. وترى راند بأنّ الكثير من الأسئلة الرئيسية في الفلسفة، من وجود الأكوان إلى طبيعة القيمة، تتضمّن جدالات لا جدوى لها حول البديل الزائف ” جوهري أم ذاتي؟”، وذلك في الحالات التي تكون فيها الظاهرة المدروسة غير جوهرية وغير ذاتية، بل موضوعية.
وإذا كانت الأخلاق هي ذلك الفرع من الفلسفة الذي يُعنى بالممارسة العملية، فيمكن القول بأنّ فلسفة راند تندرج بأجمعها في إطار الأخلاق، وذلك لأنّ راند تشدّد على “أولوية (العيش الفعلي) على كلّ الاعتبارات”، وتصرّ بأن الفلسفة يجب “رفعها إلى ميدان العيش الفعلي”، وتضيف: “تعمّدت أن أقول (رفعها)، لا (خفضها)” (تدوينة في دفتر مذكّرات بتاريخ 15 مايو 1934؛ Rand 1997: 73). ونتيجة لذلك، دأبت راند على الاهتمام بالمضامين العملية والصلة الاجتماعية لا في الفلسفة الأخلاقية والسياسية وحسب، بل شمل اهتمامها هذا أيضًا الطبقات التي تبدو أكثر غموضًا ضمن الميتافيزيقيا والإبستيمولوجيا؛ ومن أمثلة عملها هذا: تعريفها للأخطاء الواقعة في تشكيل المفهوم كإحدى جذور التمييز العنصري، أو تعريفها لثنائية (الذهن والجسد) كأحد أسباب الفجوة بين الحرّية الاقتصادية والحرّية الشخصية. وعلى النحو نفسه، فهذه المقاربة تعكس تشديد راند على دمج كلّ معلومة بالسياق الإجمالي لمعارف المرء، وبالنتيجة: معاداتها لتجزئة المدركات (compartmentalization).
وإنّ اقتناع راند بالأهمّية العملية الضرورية للنظرية المجرّدة ربّما يساعدنا في تفسير الطبيعة الجدلية المتّقدة لكتاباتها الفلسفية، والتي يجدها البعض فيها إلهامًا ويجد فيها غيرهم مغالاة وإحباطًا؛ وربّما نجد تفسيرًا إضافيًا لهذه الظاهرة في ما كانت تشعر به راند من إعجاب بنيچه، وكذلك في تلقّيها التعليم ضمن بيئة ماركسية-لينينية. وقد كانت راند تميل أيضًا إلى النظر للأخطاء الفلسفية على أنّها مؤشّرات لعيوب نفسانية لدى الكتّاب، وربّما يفسّر هذا الرأي جزئيًا بالتأثيرين السابقين.
ولمن أراد عرضًا أكثر تعمّقًا في آراء راند في مجال الإبستيمولوجيا والميتافيزيقيا، يمكن الرجوع إلى (ملحق حول الإبستيمولوجيا والميتافيزيقيا) في نهاية هذه المادّة الموسوعية.
- 2. الأخلاق
- 2. 1. ما هي الأخلاق، ولماذا نحتاجها؟
ترى راند بأن الأخلاق هي: “قانون للقيم يوجّه خيارات المرء وأفعاله، أعني: الخيارات والأفعال التي تحدّد غاية حياته ومسارها” (Rand 1961b: 13). وقبل أن نحدّد أيّ قانون للقيم يجب القبول به، لا بدّ أوّلًا من الإجابة عن السؤال: لماذا نحتاج لقانون للقيم في المقام الأوّل؟. وهنا تدّعي راند أنّه لم يسبق لأيّ فيلسوف أن قدّم إجابة (علمية) لهذا السؤال، وهذا يعني أنّه ما من فيلسوف قدّم الأخلاق على النحو الكافي.
تبدأ راند بوصف القيمة أو “الخير”، وفقًا للنهج التقليدي، باعتباره هدفًا للمساعي: “ما يعمل المرء لاكتسابه و/أو المحافظة عليه” (Rand 1961b: 16). وهكذا، فإنّ مفهوم القيمة يفترض مسبقًا مفهومًا لـ”كيان قادر على العمل لإنجاز هدف ما في وجه بديل لهذا الهدف”، والبديل الرئيسي الذي يواجه أيّ كيان حيّ هو الحياة أو الموت (Rand 1961b: 16). والطبيعة المشروطة للحياة هي التي تعلي شأن القيم، دون الاقتصار على القيم الإنسانية فحسب بل القيم بشكل عامّ؛ وتعبّر عن هذا بقولها: “من الناحية الميتافيزيقية، (الحياة) هي الظاهرة الوحيدة التي تشكّل غاية في حدّ ذاتها، أي: قيمة جرى اكتسابها والمحافظة عليها بعملية مستمرّة من الفعل” (Rand 1961b: 18).
والبقاء هو القيمة النهائية للكائن الحي، و”الهدف أو الغاية النهائية الذي تكون كل الأهداف الأقلّ شأنًا وسائل له”؛ والمعيار لكلّ قيمه الأخرى هو: “ما يعزّز حياته خير، وما يهددها شرّ” (Rand 1961b: 16-17). ويمكن تطبيق الأمر نفسه على الإنسان مع إدخال التعديلات المناسبة؛ فالحياة هي المعيار والهدف لكلّ القيم الإنسانية الأصيلة، بمعنى أنّها جميعًا، من الطعام إلى الفلسفة والفنون الجميلة والأخلاق، يجب شرحها وتعليلها كمتطلّبات لبقاء الإنسان؛ وترى راند بأنّ “الأخلاق (ضرورة موضوعية ميتافيزيقية) من أجل (بقاء الإنسان)” (Rand 1961b: 24)، ولهذا فإنّ “معيار القيمة في الأخلاقيات الموضوعية […] هي (حياة الإنسان)، أو: ما يتطلّبه بقاء الإنسان كإنسان” (Rand 1961b: 25)، أي: “الشروط والأساليب والظروف والأهداف التي يتطلّبها بقاء كائن حيّ عاقل طوال عمره الطبيعي المتوقّع، وفي كلّ جوانب الوجود المتاحة لاختياره” (Rand 1961b: 27). وهذا يعني أنّ اختيار المرء للعيش هو قبوله بـ”حياته هو” كـ”(غاية) أخلاقية” له.
إنّ الحجج الميتافيزيقية التي تقدّمها راند تجعل نقطتين في صلب نظريتها للقيم والأخلاق: (1) القيم ليست مجرّد ظاهرة إنسانية بل ظاهرة حياتية: فالحياة تجعل القيم ضرورية، ولهذا فإنّ القيم لا هي صفات متأصّلة ولا هي ذاتية، ولا هي كيانات أفلاطونية غير مرتبطة ولا هي مجرّد قضايا مرتبطة بالرغبة أو التفضيل أو الثقافة أو الزمن، بل هي (علائقية) أو (موضوعية)، تعتمد على طبيعة الكيان الذي يصوغ القيمة وطبيعة بيئته. (2) قيم الكيان تحدّدها متطلّبات بقاء الكيانات التي تنتمي إلى نوعه، والأخلاق هي من متطلّبات بقاء الإنسان.
وتسعى راند إلى تقوية ادّعائها هذا عبر المحاججة بأنّ مفهوم القيمة يستلزم مفهوم الحياة: “من الناحية الإبستيمولوجية، يعتمد مفهوم ‘القيمة’ تكوينيًا على المفهوم السابق ‘للحياة’ ويُشتَقّ منه” (Rand 1961b: 18). وتدعم قولها هذا بأن تطلب من القارئ أن “يتخيّل روبوتًا معصومًا من الفناء والتلف، كيانًا قادرًا على الحركة والعمل، لكنّه غير قابل للتأثّر بأيّ شيء، ولا يمكنه تغييره من أيّة ناحية، ولا يمكن الإضرار به أو إيذاؤه أو تدميره” (Rand 1961b: 16)، وتستنتج راند بأنّ مثل هذا الكيان لا يمكن أن تكون له قيم.
وللمنتقدين اعتراضان على حجّة راند: (1) يجب السؤال أوّلًا عن صواب الافتراض بأنّ الكيان غير الحي لا يمكن الإضرار به (Nozick 1971)؛ فبخلاف الروبوت الذي طرحته راند كمثال، (يمكن) الإضرار بالروبوتات الحقيقية أو إتلافها، وهذا لا يحدث على يد الأحداث الخارجية فحسب، بل يحدث أيضًا بسبب فشلها في أداء وظائفها بشكل جيّد، أي: بسبب ما تفعله أو ما لا تفعله؛ ولذلك فلا ريب في أنّه يمكن القول بأنّها تمتلك قيمًا.[iii](2) وحتّى لو قبلنا بأنّ مفهوم القيمة يستلزم مفهوم الحياة، فليس من التناقض أن نعتبر بقاء الإنسان وسيلة لـ(نوع) بعينه من الحياة، كأن تكون حياة مكرّسة من أجل مجد إلهي أعظم، أو من أجل الصالح العام، أو البيئة، أو ما شابه (Mack 1984).
إنّ طبيعانية راند، ورفضها للجوهرانية والذاتوية مقابل تفضيلها للموضوعانية، تشعرنا بميل نحو الاتّجاهات الحديثة في الطبيعانية وتذكّرنا بحجج أرسطو، وذلك في مواجهة كلّ من الموقفين الأفلاطوني والذاتوي اللذين يريان بأنّ ما هو “صالح” يجب أن يكون صالحًا (من أجل) أمر ما. وإنّ تصوّر راند لوظيفة الأخلاق يسترعي الانتباه بسبب أمرين اثنين: (1) اتّفاقه واختلافه في آن واحد مع تصوّر هوبز، إذ تتّفق راند مع هوبز في نظرها إلى الأخلاق كوسيلة ضرورية للبقاء على المدى البعيد، لكنّه تختلف معه في أنّها لا ترى للأخلاق منزلة ضرورية تصل إلى حدّ العقد الاجتماعي أو الشؤون الاجتماعية الرئيسية، بل ترى بأنّ الحاجة إلى الأخلاق تسيّرها طبيعة الإنسان ككائن يتوجّب عليه التفكير والإنتاج كي يتمكّن من البقاء، ومن هنا تنشأ الحاجة للأخلاق حتّى في جزيرة نائية. لكنّ البقاء ليس من الواجبات، والأخلاق تقوم على إلزام افتراضي مفاده: إذا اخترت أن تعيش فلا بدّ أن تقيّم غاية البقاء على المدى البعيد كغاية نهائية، وأن تقيّم الأخلاق باعتبارها وسيلة ضرورية لبلوغ هذه الغاية. (لا يسع المجال، مع الأسف، لمناقشة المسألة التي أثارت الكثير من الجدل حول ما إذا كان خيار العيش خيارًا أخلاقيًا [Mack 1984, 2003; Long 2000; Rasmussen 2002, 2006] أو خيارًا قبل-أخلاقي [Peikoff 1991; Gotthelf 1999; Smith 2000, 2006]، ومضامين كلّ موقف في ما يخصّ موضوعية الأخلاق الموضوعانية لدى راند). وإذا كان السؤال: لماذا يقوم خيار العيش بإلزام المرء بالبقاء على المدى البعيد عوضًا عن أيّة غاية أخرى (على سبيل المثال: تحقيق أعظم قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس [Nozick 1971]، أو العمل للفوز بالحياة الأبدية في الآخرة)؛ فالجواب: لأنّ أيّة غاية أخرى تؤدّي للموت إذا التزم المرء بها التزامًا وثيقًا.
ولهذا فإنّ الأخلاق عند راند تتّصف بأنّها: شديدة الغائية، ودنيوية، وأسسوية (foundationalist)؛ فهي ترى بأنّ الفضيلة هي “العمل الذي يقوم المرء من خلاله باكتساب أو المحافظة على” القيم في ظلّ اعتراف بحقائق معيّنة (1961b: 27, 28)، وهي “ليست غاية في حدّ ذاتها […] وليست مكافأة لذاتها” (Rand 1957 [1992]: 939). وثمّة حقيقة تتبوّأ موقعًا مركزيًا من الأخلاق “العلمية” مفادها: إنّ العقل هو الأداة الإنسانية الرئيسية التي لا غنى عنها في البقاء، والإنسان يشغّل العقل باختياره. ولهذا فإنّ العقلانية هي الفضيلة الأخلاقية الرئيسية، وفضيلة تستبطنها كلّ الفضائل الأخرى، بما فيها: فضيلة الإنتاجية (انظر: القسم 2. 4).
وثمّة اتّفاق واسع بين أنصار الموضوعانية (Peikoff 1991; Binswanger 1990, 1992; Kelley & Thomas 1999 في قسم [موادّ أخرى على شبكة الانترنت]; Gotthelf 1999; Smith 2000, 2006) على أن يعزى لراند حلّ مشكلة (الحقيقة والجدارة الأخلاقية is-ought) بإثباتها أنّ الأخلاق ضرورية للبقاء على المدى البعيد للكائن العقلاني، ولذلك يجدر بمن يختار العيش أن يكون أخلاقيًا (Rand 1961b: 19). لكن إذا كان خيار العيش نفسه خيارًا أخلاقيًا، بمعنى أنّه يجدر بنا أن نختار العيش، فحينها تنتقل المحاججة من (جدارة) إلى (جدارة) أخرى، لا من (قطع) إلى (جدارة). ومن الجهة الأخرى، إذا كان خيار العيش خيارًا غير أخلاقي (وهي فكرة يصعب توفيقها مع الرؤية العامّة لراند بأنّ كلّ الخيارات المهمّة خيارات أخلاقية)، فحينها لا يمكن للانتحار أن يكون أمرًا خاطئًا على الإطلاق، حتّى وإن كان دافعه الجبن أو انعدام المسؤولية أو الظلم، وهي فكرة تبدو غير منسجمة ( ينتقد كينگ [King 1984] ونارڤيسون [Narveson 1998] هذا الجانب وغيره من الآراء الأخلاقية عند راند). بل إنّ الأكثر إشكالية من ذلك رأي مفاده: إذا لم تكن هنالك حاجة للأخلاق سوى لغاية البقاء على المدى البعيد، ولم يكن اختيار الانتحار أمرًا غير أخلاقي، فعندها لا يرتكب الانتحاري الذي يفجّر نفسه أيّ أمر خاطئ بقتله للأبرياء.
ويتّصل بما سبق: كيفية فهمنا لفكرة البقاء ككائن عقلاني، أي: الحياة “المناسبة لكائن عقلاني” (Rand 1961b: 27)؛ فهل الحياة المناسبة لكائن عقلاني هي الوسيلة الضرورية، وحسب، للبقاء على المدى البعيد حرفيًا؟ أم: هل هذه الحياة أيضًا، في جزء من المسألة، هي الغاية النهائية، أي: أمر يجب خلقه والمحافظة عليه لذاته وحسب؟ وهنا نتساءل مرّة أخرى: كيف نتعامل مع النصوص الكثيرة التي قالت فيها راند بأنّ الغاية النهائية للإنسان هي سعادته؟
لقد كانت راند نفسها تظنّ بأنّ لها رؤية بعد-أخلاقية منسجمة واحدة، مفادها: إنّ الغاية النهائية للفرد هي بقاؤه هو، وإنّ الطريقة الوحيدة للبقاء على المدى البعيد (أي: طوال مدّة كاملة للعمر المتوقّع) هي العيش وفقًا لمعيار (حياة الإنسان ككائن عقلاني)، وهذا يعني العيش على نحو أخلاقي، والسعادة هي “النتيجة والمكافأة والملازم” النفساني للعيش على هذا الأساس (Rand 1961b: 32). ويتّفق الكثير من محلّلي كتابات راند مع رأيها بأنّ هنالك رؤية منسجمة واحدة وحسب، لكنّهم يختلفون حول التفسير الصائب لها (Den Uyl & Rasmussen 1978; Machan 1984, 2000; Peikoff 1991; Bidinotto 1994 في قسم [موادّ أخرى على شبكة الانترنت]; Hunt 1999; Kelley & Thomas 1999 في قسم [موادّ أخرى على شبكة الانترنت]; Gotthelf 1999; Smith 2000, 2006). وهنالك محلّلون آخرون (Mack 1984, 2003; Badhwar 1999, 2001; Long 2000) يحاججون بأنّ كتابات راند تسمح بثلاث رؤى حول الغاية النهائية، أو اثنتين على الأقلّ، تتوافق بعضها مع بعض، ويبقى علينا أن نحدّد منهما الرؤية المهيمنة أو الأكثر معقولية؛ وهذه الرؤى هي: البقاء، والبقاء باعتباره كائنًا عاقلًا، والسعادة بالمعنى الأرسطي القديم (الازدهار أو اليودايمونيا). وفي ما تبقّى من هذا القسم سأقدّم الدليل النصّي على كلّ من هذه الرؤى المتعلّقة بالغاية النهائية، وما يشيع من اعتراضات بوجهها، كلًّا في موضعه.
- 2. 2. (البقاء) كغاية نهائية
تعتقد الرؤية البقائية بأنّه كما أنّ البقاء، بمعناه الحرفي، هو الغاية النهائية عند الكائنات الحية الأخرى، فهو كذلك عند الإنسان (Kelley & Thomas 1999; Gotthelf 1999; Smith 2000)؛ فالبقاء هو مصدر كل أفعال الكيان والغاية النهائية لها، وهو الذي يمنح المغزى لكلّ القيم الأخرى لهذا الكيان. وفي ما يخصّ الإنسان فإنّ السعادة والمساعي الفكرية والفنّية والجوانب العقلانية/الأخلاقية جميعها وسائل للبقاء؛ والإنسان الرذيل هو من لا يستطيع تحقيق أهدافه سوى “في المدى الزمني للحظة”، وهذا ما تدلّ عليه تجارب “أيّ نظام إجرامي أو دكتاتوري” (Rand 1961b: 26)؛ وحتّى من تتكوّن رذيلتهم من محاكاة الآخرين عوضًا عن نهبهم يعيشون حياة مقلقلة لأنّ من المرجّح اتّباعهم لأي مخرّب يعدهم بالخلاص على يديه (Rand 1961b: 25).
وفي ما يلي الاعتراضات التي يدلي بها معارضو رؤية (البقاء كغاية نهائية):
- 1. المقدّمة المنطقية (البقاء غاية نهائية لكلّ الأشياء الحية) خاطئة؛ فهنالك حيوانات من كثير من الفصائل تخاطر بالموت في سبيل التكاثر، أو لحماية صغارها، أو حتّى لحماية الجماعة. وحتّى إذا كان البقاء هو الغاية النهائية للفصائل الأخرى، فهذا لا يوجب أن يكون غاية نهائية للإنسان.
- 2. وحتّى إذا كانت احتياجات بقاء الإنسان هي (المصدر) لكلّ قيمه، فهذا لا يستلزم أنّ البقاء يجب أن يكون (الغاية) النفسانية والأخلاقية النهائية التي ليست القيم الأخرى سوى وسائل ضرورية لتحقيقها. والأصل التكويني لـ(س) لا يحدّد، منطقيًا، الغاية النهائية لـ(س)؛ وعلى سبيل المثال: إنّ مصدر الرغبة الجنسية لدى الإنسان هو قدراته التكاثرية، لكنّ هذا الأمر لا يستلزم أنّه ينبغي على الإنسان أن لا يرضي رغباته الجنسية إلّا إذا رغب بالتكاثر؛ وهذه النقطة ربّما تتّفق راند معها.
- 3. إنّ الرؤية البقائية التي تحوّل السعادة إلى مجرّد وسيلة للبقاء تستلزم، وعلى نحو معقول تمامًا، أنّ حياة طويلة تعيسة أفضل من حياة سعيدة أقصر نسبيًا لكنّها سعيدة، وتتساوى في الأفضلية مع حياة طويلة سعيدة.
- 4. الكثير من الدكتاتوريين، بمن فيهم فراعنة الماضي وستالين وماو وأشباههما في القرن العشرين، حقّقوا البقاء بوضع خطط تفصيلية للمحافظة على حياتهم وسلطتهم باستخدام مزيج من الرعب والخرافة والرشوة؛ وهذا ما فعله أيضًا الكثير من المجرمين العاديين. ولذلك، فحتّى إذا كانت الأخلاق (تحسّن) فرصنا في البقاء فلا يمكنها أن تكون (ضرورية) للبقاء. وفي بعض الظروف، كالأنظمة الدكتاتورية، يؤدّي التصرّف على نحو أخلاقي إلى (تقليص) فرصنا في البقاء؛ وهذه النقطة عرضتها راند بنفسها في روايتيها (نحن الأحياء) و(النشيد) بشكل درامي مقنع.
- 5. الأخلاقيات البقائية لا يمكنها، في أحسن حالاتها، أن تدعم سوى أخلاقيات هوبزية بشكلها المجرّد، لا أخلاقيات فضائلية. ولو كانت أخلاقيات راند ضرورية للبقاء لكان الجنس البشري قد انقرض منذ أمد بعيد، عوضًا عن توسّعه الأسّي. وإنّ الغنى والتحدّي اللذين تنطبع بهما الحياة والفضيلة في رواياتها تشيران إلى مفهوم للغاية النهائية أغنى وأكثر تحدّيًا، وذلك عند المقارنة مع مجرّد البقاء.
- 6. الكثير من أبطال راند، من كيرا في رواية (نحن الأحياء) إلى پروميثيوس في (النشيد) وجون گالت في (أطلس يستريح)، يخاطرون بحياتهم من أجل القيم التي تجعل حياتهم جديرة بالعيش.
- 7. أصابت راند عندما أشارت، كما فعل هوبز من قبل، إلى أنّه لو أن كلّ الناس أو معظمهم بدؤوا بافتراس بعضهم بعضًا فلن يبقى بعدها من يتمكّن من البقاء طويلًا (بالمعنى الحرفي للعبارة)، وأنّ أجيالًا من المفترسين سينتهي بها الحال إلى تدمير المنتجين أو إبعادهم، فيدمّرون أنفسهم بذلك، وهذا ما نجده في روايتيها (النشيد) و(أطلس يستريح). لكنّ هذا الرأي لا يتضمّن أنّ قلّة من المفترسين في المجتمع لا يمكنها البقاء إلّا بالافتراس؛ بل إنّ راند نفسها تعترف أحيانًا بأنّ الأشرار يمكنهم البقاء من خلال الانتفاع المجّاني (تشبّهه راند بالسفر عن طريق ركوب السيّارات العابرة) من الأشخاص المنتجين العقلانيين: “إذا حاول البعض البقاء بالقوّة الغاشمة أو الغشّ […] فهذا لا يغيّر من الحقيقة القائلة بأنّ بقاءهم لا يتحقّق إلّا من خلال ضحاياهم، أي: إلّا من خلال الأشخاص الذين يختارون أن يفكّروا وأن ينتجوا السلع التي يستولي عليها هؤلاء الناهبون” (Rand 1961b: 25).
- 8. كثيرًا ما تقول راند بأنّ الغاية النهائية هي البقاء المناسب للإنسان (Rand 1961b: 26)، أو أنّها السعادة (Rand 1961b: 27, 30)؛ وكلتا الغايتين لا يمكن اختزالهما بالبقاء وحسب.
- 9. في كلامها عن (حقوق الإنسان)، تشرح راند ما تعنيه بـحق الفرد بحياته بأنّه: “الحرّية بكلّ التصرّفات التي تتطلّبها طبيعة الإنسان العاقل من أجل تلبية احتياجات حياته وتطويرها وتحقيق الإنجازات فيها والتمتّع بها” (Rand 1963b: 93; 1967a: 321–22). ولقد بيّنت راند أنّ “الحياة” هنا لا تعني استمرار البقاء فحسب، بل تعني أيضًا التمتّع بالعيش على النحو المناسب للإنسان.
إنّ الأسباب السابقة جميعها تحيلنا إلى تفسير أكثر معقولية لرؤية راند، وهو أنّ الأخلاق المطلوبة لبقاء الإنسان كإنسان هي: عيش حياة تلائم الإنسان.
- 2. 3. (بقاء الإنسان باعتباره إنسانًا) كغاية نهائية
تمامًا كما أنّ (معيار) القيمة هو بقاء الإنسان باعتباره إنسانًا، فإنّ (الهدف) النهائي هو تحقيق المرء للبقاء باعتباره إنسانًا. والقبول بهذا المعيار وهذا الهدف يعني القبول بـ: (1) القيم الرئيسية الثلاث المتمثّلة بـ(العقل، والغاية أو الغائية، وعزّة النفس) لا باعتبارها “الوسائل” وحسب لـ”تحقّق القيمة النهائية للمرء، أي: حياته الخاصّة به”، بل هي أيضًا هذا التحقّق نفسه (Rand 1961b: 27)؛ (2) “الفضائل المقابلة” الثلاث المتمثّلة بـ(العقلانية، والإنتاجية، والفخر)، وهي وسائل في حياة المرء ما دامت تعزّز حياته باعتباره كائنًا عاقلًا، وهي تحقّق هذه الحياة ما دامت تعبّر عن القيمة التي يقيّم بها المرء حياته.
وإنّ معنى تقييم (بقاء الإنسان باعتباره إنسانًا) يعتمد على العلاقة بين القيم الرئيسية الثلاث والفضائل الثلاث؛ ولقد صرّحت راند في الكثير من الأحيان بأنّ الفضيلة ليست سوى وسيلة للقيمة؛ لكنّها عندما تشرح كيفية “التقابل” بين القيم الرئيسية الثلاث وفضائلها الثلاث، لا نجدها تقدّم تحليلًا يعتمد على موضوع (الوسيلة-الغاية) (Badhwar 1999, 2001)، بل تقول: “العمل المنتج هو (الغاية) المركزية في حياة الإنسان العاقل، والقيمة المركزية التي تدمج وتحدّد هرمية كلّ قيمه الأخرى. العقل هو المصدر، وهو الشرط المسبق لعمله المنتج، والفخر هو النتيجة” (Rand 1961b: 27).
وبهذا تصبح فضيلة الإنتاجية هي المثال المركزي للغاية (إحدى القيم الثلاث الرئيسية)، ويصبح العقل (قيمة رئيسية أخرى) هو المصدر، وتكون النتيجة هي فضيلة الفخر. وتقوم راند أيضًا بتعريف العقلانية، والتي هي “الفضيلة الرئيسية”، بأنّها: “الاعتراف والقبول بالعقل باعتباره المصدر الوحيد للمعرفة […] والدليل الوحيد للتصرّف” (Rand 1961b: 28). ووفقًا لهذا التعريف فأن يكون المرء عقلانيًا يعني تقييمه للعقل في التفكير والقول والعمل، وتحقيق العقل في حياة المرء يعني أن يكون المرء عقلانيًا: فالفضيلة والقيمة هنا يستلزم أحدهما الآخر.
ويمكن تعميم هذه النقطة على كلّ الفضائل والقيم؛ ويضاف إلى ذلك: بما أنّ القيم (الرئيسية) ليست “الوسائل” وحسب لـ”تحقّق القيمة النهائية للمرء، أي: حياته الخاصّة به”، بل هي أيضًا هذا التحقّق نفسه (Rand 1961b: 27)، فهذا يستلزم أن تكون الفضائل (الرئيسية) أيضًا ليست الوسائل وحسب لتحقّق القيمة النهائية للمرء، بل هي أيضًا هذا التحقّق نفسه، وهذه القيمة النهائية هي: بقاء الإنسان على المدى البعيد باعتباره إنسانًا. وبناءً على هذا التفسير، فإنّ بقاء الإنسان على المدى البعيد باعتباره إنسانًا هو نفسه أن يعيش حياة فاضلة يحقّق فيها إمكانياته.
لكنّ أنصار البقائية وأنصار السعادة الأرسطية (اليودايمونيون) كليهما يشيرون إلى أنّ هذا المفهوم للغاية النهائية يناقض ما اعتادت راند قوله من أنّ “الفضيلة ليست غاية بحدّ ذاتها”. ويضيف اليودايمونيون اعتراضين آخرين:
- 1. بما أنّ حتّى الحياة الفاضلة الطويلة لا يجب أن تكون سعيدة، فإنّ وضعها في موضع الغاية النهائية يناقض ادّعاء راند بأنّ “(الحياة) ثواب الفضيلة، والسعادة هدف الحياة وثوابها” (Rand 1957 [1992]: 939).
- 2. إنّ ذلك يناقض المفهوم الذي ورد في روايات راند عن الغاية النهائية، حيث أثنت على السعادة باعتبارها “غاية الحياة وقانونها ومعناها”.
ويعتقد اليودايمونيون أنّ الرؤية المهيمنة و/أو الأكثر معقولية ضمن الرؤى التي عبّرت عنها كتابات راند هي: إنّ السعادة (الحياة السعيدة) هي الغاية النهائية؛ على أن يفهم من (الحياة السعيدة): حياة الإنجاز العاطفي في أهداف ونشاطات جديرة بالعناء. وبهذا المعنى لا بدّ للسعادة أن (تتضمّن) الفضيلة، لكن دون أن (تتماثل) معها (Den Uyl & Rasmussen 1978; Machan 1984, 2000; Mack 1984; Badhwar 1999, 2001; Hunt 1999; Long 2000).[iv]
- 2. 4. (السعادة) كغاية نهائية
السعادة هي “الحالة الناجحة للحياة” (Rand 1961b: 27) من الناحيتين الوجودية والنفسانية. وهي، كعاطفة، ليست مجرّد حالة ذاتية إيجابية، وفقًا لبعض الآراء المعاصرة، وإنّما هي عاطفة تحقّق معايير قياسية محدّدة؛ فهي: “حالة من البهجة التي لا تناقض فيها، بهجة دون عقاب أو شعور بالذنب”، ولا يمكن إنجازها إلّا على يد “إنسان لا يرغب بأيّ شيء سوى الأهداف العقلانية، ولا يسعى خلف أيّ شيء سوى القيم العقلانية، ولا يجد البهجة في أيّ شيء سوى الأعمال العقلانية” (Rand 1961b: 32). والسعادة أيضًا شكل من أشكال الإقرار بالحياة؛ فهي “شعور المرء بما له من بركة على سطح الأرض جميعها، وشعوره بعلاقة الحبّ التي تجمعه مع حقيقة مفادها أنّ المرء يتواجد في هذا النوع من العالم” (Rand 1957 [1992]: 105–6). وعليه فإنّ السعادة جديرة بالعناء، من الناحية الموضوعية، وهي حالة إيجابية للحياة، من الناحية العاطفية.
وتعتقد راند بأنّ السعي إلى السعادة لا يمكن فصله عن العمل من أجل المحافظة على حياة المرء من خلال السعي العقلاني خلف أهداف عقلانية (Rand 1961b: 29, 32). ولهذا فإنّ حياة الفضيلة ضرورية للسعادة، وهي تحصّن المرء أيضًا ضدّ التعاسة المدمّرة للروح. وتمامًا مثلما لا تؤدّي المصائب العظيمة إلى إصابة الفرد الفاضل، وفقًا لمفهوم أرسطو، بالبؤس، فإنّ أبطال روايات راند لا يصابون بالبؤس أيضًا؛ ففي أحلك الساعات لا يكون ألم الفرد الفاضل “سوى ألم يختفي عند نقطة ما” (Rand 1943: 344) ولا يلامس أبدًا جوهر كينونته، أي: عزّة النفس التي تتكوّن من الاعتقاد بأنّ المرء جدير بالسعادة وقادر عليها.[v]
وتلتزم روايات راند بمفهومها الأغنى حول الغاية النهائية، ولذلك تقوم أيضًا بتوظيف مفهوم أغنى حول الفضيلة باعتبارها خصلة شخصية مدمجة فكرية-عاطفية تدفع المرء للتفكير والشعور والعمل بطرق معيّنة، بدلًا من التصرّف، ببساطة، على ضوء إدراك حقائق معيّنة (Badhwar 1999, 2001). ولهذا فإنّ شخصيات روايات راند لا تكشف عن جوهرها بالاقتصار على ما تقول وما تفعل، وما تلاحظ أو ما لا تلاحظ، أو ما تركّز انتباهها عليه أو تتجاهله، أو على هذه المناسبة أو تلك، بل هي تكشف عنها أيضًا من خلال نزعاتها الإدراكية والعاطفية، وميولها عندما تتصرّف، ونمط وجودها على الأرض؛ فأفعالها لا ترينا، وحسب، التزامًا فكريًا بالحقّ، بل تكشف لنا أيضًا عن قلوب يملؤها “حبّ الاستقامة” (Rand 1957 [1992]: 512).
هذه الرؤية، الأرسطية أساسًا، حول الفضيلة تنسجم مع رؤية، أرسطية أساسًا، حول العاطفة؛ إذ ترفض راند الفصل بين العقل والعاطفة انطلاقًا من أنّها تنشأ، في نهاية المطاف، من فصل زائف بين الذهن والجسد؛ فالعواطف لا هي مشاعر مجرّدة ولا هي عقلانية في أصلها، بل هي تقديرات أوتوماتيكية للقيمة، وبتعبر راند: “تخمينات لما يعزّز قيم المرء أو يهدّدها […] وآلات حاسبة فورية تمنحه محصّلة ربحه أو خسارته” (Rand 1961b: 27). فالعواطف تزوّد المرء بتوجيه فوري عندما لا تسمح الظروف بالحكم العقلاني على كلّ شيء يحدث لأوّل مرّة؛ والعواطف لا تختلف في صلاحيتها عن العقل، وذلك لأنّها “بُرمجت” بواسطة العقل، ولهذا لا يمكن تصحيحها إلّا بواسطة التفكير العقلاني الواعي، وإذا حدث نزاع بين العقل والعواطف، فلا بدّ من الوقوف بجانب العقل دائمًا.[vi]
ويحاجج اليودايمونيون بأنّ رؤية راند بشأن الحياة الفاضلة السعيدة في رواياتها لا يمكن فهمها إلّا كشكل من أشكال اليودايمونيا، حتى وإن كانت تكثر من العبارات التي لا تنسجم مع هذه الرؤية. ويتمثّل الاعتراض الرئيسي على اليودايمونية بأنّها عندما تعرّف الحياة السعادة وفقًا للفضيلة فإنّها توظّف مفهومًا غير مقنع للسعادة؛ والكتابات الفلسفية حول السعادة بمعناها هذا (تدعى في العادة: الرخاء) تصوغ الكثير من هذه الاعتراضات وتجيب عليها (Badhwar 2014).
- 2. 5. الفضائل، والرذائل، والأناوية (Egoism)
الأخلاق الموضوعانية الرئيسية هي: العقلانية، والنزاهة، والصدق (مع النفس ومع الآخرين)، والعدل، والاستقلالية، والإنتاجية، والفخر. أمّا العقلانية فتعني “الالتزام التامّ للمرء […] بالمحافظة على تركيز ذهني كامل في كلّ القضايا، وفي كلّ الخيارات […] وبالإدراك الحسّي الكامل للواقع بقدر طاقته” (Rand 1961b: 28). والعقلانية هي الفضيلة الرئيسية التي تشتقّ منها باقي الفضائل أو تعدّ جوانب منها، ولهذا فإنّ الفضائل متّحدة أو متبادلة، وكلّ فضيلة يمكن تعريفها جزئيًا من خلال اعترافها أو التزامها العميق بحقيقة ما أو بمجموعة من الحقائق، على أن يفهم المرء من هذا الالتزام موقعه الذي لا يستغنى عنه في كسب القيمة النهائية أو المحافظة عليها أو التعبير عنها. وعلى سبيل المثال: إنّ النزاهة هي “الاعتراف بحقيقة مفادها أنّك لا تستطيع اختلاق الاتّصاف بالوعي” (Rand 1957 [1992]: 936)، وهو اعتراف يُعبَّر عنه المرء من خلال ولائه لقيمه ومعتقداته العقلانية، لا سيّما في وجه الضغوط الاجتماعية التي تريد منه التخلّي عنها (Rand 1961b: 28; 1964a: 52, 80)؛ أمّا الصدق فهو “الاعتراف بحقيقة مفادها أنّك لا تستطيع اختلاق الاتّصاف بالوجود”، وهو اعتراف يُعبَّر عنه المرء من خلال التزامه بالحقّ فكرًا وقولًا (Rand 1957 [1992]: 936–37)؛ وأمّا العدل فيعني “الاعتراف بحقيقة مفادها أنّك لا تستطيع اختلاق الاتّصاف بطبع البشر ولا بطبع الطبيعة […] وأنّ كل إنسان يجب أن يُحكَم عليه بما هو عليه وأن يعامَل على أساس هذا الحكم” (Rand 1957 [1992]: 937). ومن المثير للانتباه أنّ قائمة راند للفضائل الرئيسية تغيب عنها “فضائل عمل الخير”، كالعطف والتصدّق والكرم والعفو؛ لكنّ راند تقول بأنّ التصدّق ليس فضيلة كبرى أو واجبًا أخلاقيًا (Rand 1964b)، ويفترض أنّها تتّخذ الموقف نفسه من العطف والكرم والعفو؛ فالقرار بمساعدة الآخرين أو الامتناع عنها، وكيفية هذه المساعدة، يعتمد على موقعهم ضمن التسلسل الهرمي للقيم الذي صاغه المرء عقلانيًا، وعلى الظروف الخاصّة (ما إذا كانوا يستحقّون المساعدة، وما هي العواقب المحتملة لمساعدتهم، …إلخ). وكلّما عظمت قيمتهم لدى المرء (مقابل) مصلحته الذاتية العقلانية، عظمت معها المساعدة التي ينبغي أن يكون مستعدًّا لبذلها (مع بقاء جميع العوامل الأخرى على ما هي عليه)؛ أمّا ما لا يمكن قبوله أبدًا من الناحية الأخلاقية فهو التضحية، أي: التخلّي عن شيء ذي قيمة للمرء من أجل شيء ذي قيمة أدنى أو بلا قيمة بالنسبة للمرء نفسه، ولهذا لا يمكن أبدًا أن يكون من الأخلاق المخاطرة الواعية بالنفس من أجل شخص غريب (إلّا إذا لم تكن حياة المضحّي تستحقّ العيش، طبعًا) أو التماس السعادة من أجل سعادة شخص آخر، سواء كان صديقًا أو غريبًا. ولا بأس في مساعدة الغرباء في الحالات الطارئة فقط، مع الاقتصار على الحالات التي يكون فيها الخطر المحدق بحياتنا أو رخائنا في حدّه الأدنى (Rand 1963c: 43–45). ويجب أن لا يفهم من هذا أن مساعدة الغرباء هو أمر غير ملزم أخلاقيًا، فالأشخاص الذين يتعاملون “بلامبالاة كاملة مع كلّ ما هو حيّ ولا يحرّكون إصبعًا لمساعدة إنسان أو كلب صدمه أحدهم بسيّارته وهرب” ما هم إلّا أشخاص “مضطربون عقليًا” (Rand 1963c: 43–45). بل إنّ راند تبدي تنازلًا أكبر تجاه “أخلاقيات الحس المشترك” عندما تقول بأنّ من الجيّد أن يساعد المرء جاره في ساعة العسرة حتّى يتمكّن من الوقوف على قدميه مجدّدًا، وذلك إذا كان يمكنه تحمّل التكاليف ولم يكن هنالك سبب يدفعه للاعتقاد بأنّ جاره لا يستحقّ المساعدة. وعمل الخير يصبح بموجب هذا الفهم فضيلة من الفضائل لأنّه يعبّر عن النيّة الحسنة المعمّمة وعن الاحترام الذي يبديه كلّ الأشخاص الطبيعيين تجاه الآخرين باعتبارهم مخلوقات تتشارك معهم القدرة على التقييم (Rand 1963c: 46–47). ولقد حاول ناثانيل براندن أن يوفّق بين عمل الخير مع الأناوية الضيّقة عندما قال بأنّ عمل الخير ينشأ من عملية التقارب بين جنس البشر، أي: إن الناس “يوقّرون حياتهم هم” بتوقيرهم للآخرين؛ ومن خلال عمل الخير يقوم الناس بتحقيق إحساس القرابة هذا، دون أن يضحّوا برخائهم في سبيل ذلك.
إنّ المقولة الأخيرة صائبة، لكنّ الرغبة باختصار كلّ الدوافع في دوافع (الفعل الأناوي) تقود براندن (وراند والكثير من الموضوعانيين) إلى تجاهل حقيقة مفادها أنّ عمل الخير هو في الأساس، وقبل أيّ شيء، اهتمام بالآخرين يحفّزه ما يصيبهم من محن وليس الاهتمام بتحقيق المرء لذاته. ويصح الأمر نفسه عندما يحاول المرء إنقاذ كلب صدمه أحدهم بسيّارته وهرب، فهنا يكون الدافع الأناوي أضعف من الدافع السابق لغياب دافع التقارب بين جنس البشر، فهو دافع التقارب مع مخلوق آخر يجمع بينهما تصنيف حيواني ما.
ومهما كان معدّل التقارب الحاصل، فإنّ حجّة التقارب يمكن استخدامها أيضًا لتعليل عمل الخير للغرباء في الحالات غير الطارئة، ومنها مثلًا: حالات الذين يعانون من إعاقة دائمة ولا يستطيعون الاعتناء بأنفسهم (Badhwar forthcoming-b). وتتنازل راند حتّى هذا الحد في كتابها (ما هي الرأسمالية [1956]) حيث تحاجج بأنّ الأشخاص العاجزين عن العمل يجب أن يعتمدوا على عمل الخير الطوعي، وهي بذلك تلمّح إلى أنّه لا بأس أن يقوم من يستطيعون تحمّل التكاليف بدعم الغرباء في الحالات غير الطارئة. ولقد كشفت الدراسات الأكاديمية الحديثة أنّ راند نفسها كانت تتعامل في كثير من الأحيان بكرم شديد لا يقتصر على الأصدقاء والمعارف فحسب، بل يشمل الغرباء أيضًا.[vii]
وهنا يبرز السؤال: لماذا تعتقد راند بأنّ عمل الخير واللطف و…إلخ ليست من الفضائل الرئيسية بينما تحقّق كلّ الشروط التي تؤهّلها لهذه المنزلة: فمن يستلمها يستحقّ المساعدة، ومن يقدّمها يستطيع تحمّل تكاليفها، ولا تتناقض المساعدة مع المصلحة الذاتية للمرء (أو لا تتناقض معها)، وما إلى ذلك؟
ربّما تعتقد راند بأنّها فضائل “صغرى” لأنّ المرء غير ملزم بالعمل بها في كلّ الأحيان، على العكس ممّا عليه الحال مع العدل والصدق. وربّما هنالك سبب أعمق يتمثّل في نظرها إلى الناس في الأساس كناشطين لا كمرضى، وكفاعلين لا كمفعولين، وكمستقلّين ذاتيًا لا كمعتمدين على الآخرين. ومع هذا فإنّ رؤية راند حول وحدة الفضائل تملي علينا بأنّنا حتّى وإن كنّا غير ملزمين بـ(التصرّف) وفقًا لعمل الخير واللطف و…إلخ في كلّ الأحيان، فإنّ أهمّية (حيازة) هذه الفضائل لا تختلف مطلقًا عن أهمّية حيازة الفضائل الأخرى. وعلاوة على هذا، فإنّ التزامها بالتشديد على أهمّية حسن النية تجاه الآخرين و”مقدّمة الكون الخيّر” يجعل أبطال رواياتها في كثير من الأحيان على قدر خارق (لكنّه يكاد يكون مناسبًا في جميع الحالات) من اللطف والكرم، وليس ذلك تجاه أحبّائهم وحسب، بل أيضًا تجاه أشخاص آخرين ليسوا سوى معارف، وقد يشمل الأعداء أحيانًا (Badhwar 1993b؛ وراجع قسم [موادّ أخرى على شبكة الانترنت]). وثمّة أمثلة صادمة منها: عندما حاول هوارد رورك في (المنبع) أن يقدّم، دون أن يطلب منه أحد، الأمل والشجاعة لستيفن مالوري النحات الشاب الموهوب الذي أوصله فشله في العثور على عمل إلى حافّة الانهيار الروحي والجسدي؛ والمساعدة التي قدّمها رورك دون توبيخ لعدوّه السابق پيتر كيتنگ الذي أصابته المحن؛ وفي (أطلس يستريح) نقرأ عن دعم داگني لشيريل تاگارت المحبطة كسيرة القلب، والتي تعاملت مع داگني باحتقار في وقت سابق؛ وكرم هانك ريردن تجاه أسرته الاستغلالية قبل أن يكتشف استغلالها له.[viii] وعلى العكس من أبطال الروايات نجد الأشرار يفتقرون إلى النيّة الحسنة الأصيلة تجاه الآخرين، وعليه: يفتقرون إلى اللطف أو الكرم الحقيقي.
إنّ التركيز على الواقع يتماثل تمامًا مع العقلانية بكونه في صلب كلّ فضيلة من الفضائل، ولذلك فإنّ اللاعقلانية والتهرّب من الواقع (بما في ذلك: الخداع الذاتي) يقعان في صلب كلّ رذيلة من الرذائل. ونجد في روايات راند أنّ كلّ الأشرار بارعون في التهرّب من الواقع تحفّزهم الرغبة بالسلطة أو المكانة الاجتماعية أو الشهرة أو اكتساب الثروة دون مقابل وكراهية الأخيار. وهم أشخاص “ثانويون”، أي: إنّ علاقاتهم الرئيسية تتّصل بالناس أكثر ممّا تتّصل بالواقع. وبين الفاضل والرذيل يقع “المخطئون الأبرياء”، وهم من يتبنّون مفاهيم أخلاقية خاطئة أو يتّخذون خيارات خاطئة، لا من خلال التهرّب من الواقع بل من خلال الخطأ في المحاكمة العقلية (تصرّح راند بأنّها لا تعترف بأيّ تصنيفات أخلاقية سوى ما ينحصر منها بـ: الفضيلة والرذيلة والخطأ الأخلاقي؛ وذلك على الرغم من أنّ رواياتها تصوّر لنا شخصيّات لا تندرج بسهولة في أيٍّ من هذه التصنيفات). وفي رواية (أطلس يستريح) يمثّل هانك ريردن شخصًا عظيمًا بريئًا يعاني من شعور غير مبرّر بالذنب نتيجة لمعنى خاطئ للشرف وتقديمه العون لعائلة لا يهمّها إلّا التلاعب به واستغلاله. ونجد أيضًا في الرواية نفسها شخصيّة شيريل تاگارت التي يقتلها اكتشافها المفاجئ بأنّ الرجل الذي أحبّته وأعجبت به كتجسيد لقيمها المثالية ليس إلّا رجلًا مخادعًا، وبأنّ العالم مليء بأمثاله من المخادعين.
ومثلما أشرنا في ما سبق، فإنّ راند تعلّل الفضيلة على أساسين ذرائعي وغير ذرائعي، لكن دون التمييز بينهما: فالحجج الذرائعية ترينا المكاسب الوجودية والنفسانية للفضيلة والخسائر المناظرة للرذيلة؛ إذ تخلق الفضيلة شعورًا بالتناغم الداخلي وتتيح التفاعل المتبادل النافع مع الآخرين، أمّا التهرّب من الواقع فهو على العكس من ذلك، إذ يحجز المرء في “شبكة متداخلة” من التعليلات والذرائع الخيالية، والمتهرّب الذي يخدع الآخرين سينكشف في نهاية المطاف أو سيعيش حياته خائفًا من أن ينكشف، فيصبح معتمدًا على انعدام الوعي لدى الآخرين؛ وتعبّر إحدى شخصيات رواية (أطلس يستريح) عن المتهرّب بقولها: “إنّه غبي يستمدّ قيمه من الأغبياء الذين ينجحون باستغباء الآخرين” (Rand 1957 [1992]: 945). ويضاف إلى هذا أنّ راند تعتقد، كما سارتر، بأنّ التهرّب من الواقع لا يحالفه النجاح الكامل مطلقًا، لأنّ الحقيقة لا تكفّ عن التهديد بالظهور من جديد، ولهذا فإنّ المتهرّب ذو “نفس قلقة” ويعيش حالة مستمرّة من النزاع الداخلي والقلق بسبب محاولته كبت وعيه بالحقائق غير المريحة وتمسّكه، في الوقت نفسه، بحقائق أخرى؛ وإنّ افتقاره للنزاهة وتثمين الواقع ينتج عنهما نقص في محبّة الذات أو عزّة النفس، بل إنّه يعاني من نفس مهتزّة أيضًا. (ومن الجدير بالذكر هنا، بغضّ النظر عمّا سبق، أنّ الهيأة التي قدّمت بها راند شخصيّة گايل وايناند في روايتها [المنبع] أقرب للهيأة التي قدّمها أرسطو للإنسان الرذيل في الفصل الثالث من كتابه [الأخلاق النيقوماخية]، كشخص “لا يعي رذيلته”، وذلك عند المقارنة بما صرّحت به راند من رأي حول المتهرّب من الواقع).
إنّ من يقرأ تاريخ الفلسفة يألف هذه الآراء، لكنّ الكثير من القرّاء يجدون تعبير راند عنها في رواياتها يحمل اعتقادًا وعمقًا نفسانيًا غير طبيعي؛ ومع ذلك فإنّ هذه الآراء عرضة لاعتراض شهير مفاده أنّ تعقيد وتفاوت البنية النفسانية والاجتماعية لا تسمح “في معظم الأحيان” إلّا بالتعميم في تقدير المكاسب الوجودية والنفسانية للفضيلة والخسائر المناظرة للرذيلة؛ وعليه، فمن الممكن لحالة صغيرة من الظلم أن تؤدّي إلى مكاسب عظيمة، لا سيّما إذا كان الآخرون مستعدّين للتعامل بلا مبالاة تجاه الاعتداءات المتفرّقة أو نسيانها؛ وكذلك فمن الممكن للتفكّر الرديء أو النسيان أو تقبّل الذات أن يسمح للمرء بالتهرّب من شيءٍ ما دون أيّ حاجة لدعم التهرّب أو الإضرار بعزّة النفس. ونكرّر هنا القول بأنّه حتّى إذا كان كلّ ارتكاب للخطأ يحمل معه خسائر نفسانية، فإنّ هذه الخسائر قد تتعادل أحيانًا مع خسائر على المدى البعيد لفعل الصواب (كما تقترح راند نفسها في تصويرها للشخصيتين التعيستين هنري كاميرون وستيفن مالوري في روايتها [المنبع]).
أمّا ما تورده راند في رواياتها من الحجج غير الذرائعية في تعليل الفضيلة، فهي محصّنة في معظمها من هذه الاعتراضات (لكنّها عرضة للاعتراضات الواردة في القسم 2. 4. أعلاه)؛ فالتنازل الأخلاقي لا بدّ أن يكون تنازلًا من المرء عن سعادته (التي استوعبها بشكل موضوعي)، وذلك لأنّه ما من خسارة وجودية يمكن مقارنتها بخسارة النزاهة الأخلاقية. وقد تحتلّ الاستقامة، من جهة، موقعًا في تكوين السعادة الأصيلة لأنّها تعبّر عن العلاقة الصائبة مع الواقع: مع الوجود، ومع الذات، ومع الآخرين؛ وفي الوقت نفسه، تحتلّ الاستقامة، من جهة أخرى، موقعًا في تكوين ذاتٍ جديرة بالعيش، أي: ذات مثالية إنسانية أو عقلانية. وتحاجج راند، كما فعل أفلاطون وأرسطو من قبل، بأنّ الفضيلة تخلق بالضرورة تناغمًا ويقينًا داخليًا؛ وأيّة فضيلة تُكتسَب على حساب اليقين ليست إلّا صورة مزيّفة لفضيلة أصيلة؛ وعليه، ومن خلال مجموعة متنوّعة من الطرائق ذات المفاهيم المتداخلة، فإنّ الفرد الفاضل هو بالضرورة أفضل حالًا عند المقارنة بمن لا يرون مانعًا من سلوك الطرق الالتفافية في الأخلاق؛ ولهذا فإنّ الأناوية الأخلاقية كما طرحتها راند تنسجم، في بنيتها وفي كثير من جوانب محتواها، مع الأناوية التي طرحتها النظريات (اليودايمونية) القديمة.
وكثيرًا ما يثار اعتراض ضد النظريات الأناوية مفاده: أنّها تقدّم السبب الخاطئ للعمل على نحو يعتني بالآخرين، أي: كالعمل على نحو يتّصف بالعدل أو اللطف أو ما شابه؛ فما أقوم به من عمل لا يكون عادلًا بشكل حقيقي إذا أعطيتك نصيبك لأنّ ذلك أفضل لي بدلًا من أن يكون السبب استحقاقك لنصيبك؛ وليس من عمل الخير قيامي بمساعدتك لأنّني أنتفع من هذه المساعدة لا أنت. ومن الأجوبة الشائعة لهذا السؤال أنّ (التعليل) الذي تسوقه الأناوية أناوي، وليس (الدافع)؛ وهو جواب يجلب لصاحبه تهمة “الفصام” الأخلاقي. ولا تتناول راند في كتاباتها اعتراض (“السبب الخاطئ”) هذا، لكنّ من غير المرجّح أنّها كانت لتقبل هذا الانفصام بين التعليل والدافع؛ ولهذا فإنّ المشكلة تبقى دون حلّ ما دامت وجهة نظر راند تتّسم بالذرائعية والعمل على أساس الأناوية. لكنّ الخيط غير الذرائعي في نظريتها ينطوي ضمنًا على أنّ الاعتراض نفسه خاطئ، لأنّ إعطائي إيّاك ما تستحقّه أو ما يجدر بك أخذه يدخل، في جانب منه، في صميم مصالحي العقلانية؛ وليس هنالك نزاع بين مصالحك العقلانية ومصالحي العقلانية (راجع: Rand 1964a: 57–65).
- 2. 6. الغيرية
تنظر راند إلى حسن النيّة تجاه الآخرين، أو عمل الخير بصورته العامّة، كفرع من فروع حبّ الذات الحقيقي، دون أن يكون له مصدر مستقلّ في الطبيعة البشرية. وليس هنالك سوى بديل وحيد لأن يكون المرء حريصًا على مصلحته الذاتية بشكل عقلاني، وهو: أن يضحّي بمصالحه الحقيقية إمّا من أجل الآخرين (وهذا ما تساويه راند مع الغيرية) وإمّا من أجل أمر غيبي (وهذا ما تدعوه راند بالغيبوية) (Rand 1982a: ch. 7). وهكذا تصبح الأخلاقيات الكانتية غيبوية معلمنة ما دامت تستند إلى أوامر مطلقة وإلى الواجب من أجل الواجب، أي: دون أيّ اعتبار لرغبة أو مصلحة دنيوية (Rand 1970). والأخلاقيات الغيرية تساوي بين الفعل الصائب وبين التضحية بالنفس من أجل صالح الآخرين، وتساوي بين اللاأخلاقية وبين “الأنانية”، دون أن تصرّح بأيّ شيء حول معيار ذلك الصالح (Rand 1964a: iii; 1974)؛ ولهذا فهي تفشل في تقديم إجابة على السؤال السابق حول لائحة القيم التي يجب أن نتّبعها والسبب الذي يدفعنا لاتّباعها، ولا تقدّم لنا دافعًا يدفعنا إلى التحلّي بالأخلاق سوى الشعور بالذنب بسبب “الأنانية”؛ وإذا أردنا أن نخلص إلى النتيجة المنطقية للغيرية فإنّها لا تكتفي بمجرّد إخبارنا بأنّ من “الأنانية” أن نسعى خلف رغباتنا الخاصّة بنا، بل تخبرنا أيضًا بأنّ من الأنانية أن نعتقد بمعتقدات خاصّة بنا، إذ “يجب أن نضحّي بها من أجل معتقدات الآخرين” (Rand 1957 [1992]: 943; Rand 1961a: 142). وتُستَخدم الغيرية في السياسة الخارجية لسوق المبرّرات وكسب الدعم للتدخّل الأمريكي في البلدان الأخرى (Rand 1966a)؛ وهي أيضًا السبب الذي يفسّر العدد الهائل من المتعاطفين مع الدكتاتوريات الدموية، أو حتّى الممجّدين لها، والتي تعلن بفخر أنّ التضحية بالفرد وسيلة ضرورية ونبيلة لخدمة غاية هي الصالح العام (Rand 1966a).
إنّ الغيرية غير عملية كقانون أخلاقي، لأنّ متطلّباتها تتضادّ مع متطلّبات الحياة والسعادة، سواء كان ذلك على صعيد الفرد أو الناس؛ بل إنّها، وحالها هذه، لاأخلاقية في جوهرها، فهي تتركنا دون أيّ مرشد أخلاقي في حياتنا اليومية وتسيء إلى كلمة الأخلاق عندما تعدّ منها.
إذن، فما هو التفسير النفساني للمساواة الشائعة بين الغيرية وبين الأخلاق؟ تقترح راند عددًا من التفسيرات التي تذكّرنا بما قدّمه نيچه من تحليل نفساني للغيرية؛ فالمحفّز الأساسي لمنظّري الغيرية والمروّجين لها هو الرغبة بالتحكّم والتلاعب بالآخرين من خلال العزف على وتر الشعور بالذنب، وإنّ من يتّبع تعاليمهم ينطلق في العادة من أحد سببين: إمّا الشعور بالذنب بسبب إنجازاته المتفوّقة، وإمّا بسبب افتقاره لأيّ “نزاهة فكرية، أو حبّ للحقيقة […] أو التزام حماسي بفكرة ما”، فليس لديه ما يستحقّ المحافظة عليه، ولذلك لا يمانع التضحية بنفسه (Rand 1973b; 1982a). وبعض الغيريين يناصرون الغيرية لأنّ ذهنيّاتهم لا تزال متجمّدة في ماضٍ قبائلي كان البقاء يتطلّب فيه التضحية بالبعض من أجل الآخرين (Rand 1973b). وراند نفسها تعترض على أيّ صورة (صفرية الحصيلة) للعلاقات البشرية ما دام الجميع في هذه العلاقات يتصرّفون بعقلانية.
إنّ دفاع راند عن “الأنانية” ورفضها للغيرية يشكّل جزءًا من السبب الذي يقف خلف شعبيتها عند القارئ العادي ونفور الفلاسفة والمثقّفين الآخرين منها في الوقت نفسه، على الرغم من أنّ البعض منهم يتّفق، دون شكّ، مع رفضها للتضحية القانطة بالنفس على نحو مذلّ واعترافها بالاهتمام الحقيقي بالنفس كأمر أخلاقي (Falk 1963; Gilligan 1982; Hampton 1993; Badhwar 1993a). والقارئ العادي الذي يستجيب بشكل إيجابي لأعمال راند يجد، لأوّل مرّة، تعليلًا أخلاقيًا للسعي خلف حياة من أجله هو وتحرّرًا من “شعور بذنب لم يرتكبه”؛ أمّا الفيلسوف الذي يستجيب بشكل سلبي لأعمالها فيجد فيها الكثير من التفسيرات المتحيّزة والتبسيطية لفلاسفة ولمعتقدات فلسفية، بما في ذلك ادّعاؤها بأنّها أوّل من قدّم دفاعًا متّسقًا عن أخلاقيات المصلحة الذاتية العقلانية، وأنّ كلّ الفلاسفة الآخرين دافعوا إمّا عن الغيرية أو الغيبوية (Pojman 1995). ويتحدّى منتقدوها أيضًا مساواتها بين الغيرية وبين التضحية القانطة بالذات (Rachels 2000, Flew 1984)، وادّعاؤها (الذي نشرحه في ما يلي) بعدم وجود نزاع بين المصالح (العقلانية) للناس (Flew 1984). ومع ذلك، فإنّ التفسير الوافي لوجهات نظرها يتطلّب الانتباه لحقيقتين اثنتين: (1) تعتقد راند بأنّ احتياجات الآخرين غير ملزمة باستثناء الالتزامات الخاصة التي تخلقها أواصر الحبّ أو التعاقد أو الأسرة؛ (2) تقف راند موقف المدافع الذي لا يلين عن العدل والصدق واحترام الآخرين باعتبارها غايات في حدّ ذاتها.
- 3. الفلسفة الاجتماعية-السياسية
- 3. 1. الحقوق والرأسمالية ومبدأ التاجر
المجتمع الأخلاقي لدى راند هو مجتمع يتكوّن من أفراد مستقلّين يحترم بعضهم ما للبعض الآخر من حقوق طبيعية بالحياة والحرّية والملكية، وهو مجتمع يبادل القيمة بالقيمة سواء كانت مادّية أم روحية. وهؤلاء الأفراد يعيشون، بحسب تعبيرها، وفقًا لـ”مبدأ التاجر”؛ والحقوق الفردية (الطبيعية) ومبدأ التاجر توجّههما كليهما حقيقة مفادها بأنّنا، ككائنات مستقلّة عقلانية، نحتاج إلى التفكير والعمل من أجل “البقاء المناسب” لنا (Rand 1961b: 31)؛ وكلا الأمرين مطلوب إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ الفرد غاية بذاته، وليس مجرد وسيلة لغايات الآخرين: “إن ’الحقوق‘ مفهوم أخلاقي. فهو المفهوم الذي يقدّم نقلة منطقية من المبادئ التي توجّه أفعال المرء إلى المبادئ التي توجّه علاقاته مع الآخرين. وهو المفهوم الذي يحفظ ويحمي الأخلاقيات الفردانية في سياق اجتماعي. وهو الصلة بين القانون الأخلاقي للإنسان والقانون القضائي للمجتمع، بين الأخلاق والسياسة. وإنّ الحقوق الفردية هي وسائل إخضاع المجتمع للقانون الأخلاقي” (Rand 1963b: 92).
وإنّ الحقوق الطبيعية، في الأساس، حقوق بأفعال، وليست حقوقًا بأشياء أو نتائج، ولا يمكن انتهاكها إلّا من خلال المبادرة بالقوة أو الغشّ؛ ولهذا فإنّ جميع الحقوق الطبيعية سالبة، أي: إنّها تتطلّب عدم قيام الآخرين بالتدخّل، ولا تتطلّب من الآخرين تقديم أشياء أو نتائج بعينها.[ix] والحق الرئيسي فيها هو الحقّ بالحياة، أي: الحقّ باتّخاذ الأفعال الضرورية لاستدامة حياة تناسب الكائن البشري: “إنّ الحقّ بالحياة يعني […] الحقّ باتّخاذ كلّ الأفعال التي تتطلّبها طبيعة الكائن العاقل من أجل توفير متطلّبات حياته، وتطويرها، وتحقيقها، والتمتّع بها (وهكذا يكون معنى الحقّ بالحياة والحرّية والسعي إلى السعادة)”(Rand 1963b: 93).
فالحقّ بالحرّية هو الحق بالتصرّف وفقًا لما تمليه المحاكمة العقلية (بما في ذلك: الكتابة والكلام)؛ والحقّ بالسعي للسعادة هو حقّ المرء بالسعي لأهداف تخدم تحقيق ذاته؛ والحقّ بالملكية هو “الحقّ بكسب القيم المادية، والاحتفاظ بها، واستخدامها، والتخلّص منها” (Rand 1963b: 94). وعلى نحو مماثل لما يحصل بالفصل بين الذهن والجسد، فإنّ الفصل الشائع بين “حقوق الإنسان” وحقوق الملكية هو فصل زائف، لأنّ امتلاك المرء لحياته يقتضي امتلاك المرء لأفعاله ولثمار هذه الأفعال (Rand 1962b: 91).[x] وتمامًا كما أنّ هنالك صلة سببية ومنطقية بين الفضائل، فإنّ هنالك صلة مماثلة بين الحقوق: فالحكومة التي تنتهك حقوق الإنسان تنتهك أيضًا حقوق الملكية؛ ولهذا، على سبيل المثال، فإنّ الحكومة التي تنتهك حقّ حرّية التعبير عبر حظر الخطاب “الفاحش” في البثّ التلفزيوني، تقوم في الوقت نفسه بانتهاك حقوق ملكية أصحاب القناة المستهدفة باستخدام ملكيتهم على النحو الذي يرونه مناسبًا. ولا تختلف راند عن باقي الليبرتاريين، سواء كانوا من اليمين (أنصار السوق) أو اليسار (أنصار المساواة)، في معارضتها لقيام الدولة بتنظيم الأخلاق، وتعارض أيضًا الخدمة الإجبارية للدولة، سواء كانت عسكرية أو مدنية. وتوجّه راند انتقادها للمحافظيين والليبراليين كليهما (وفقًا لتعريف هذين المصطلحين في السياسة الأمريكية) لرغبتهما بسيطرة الحكومة على الميدان الذي يراه كلّ منهما مهمًّا حسب رأيه: الميدان الروحي أو الأخلاقي في حالة المحافظيين، والميدان المادّي أو الاقتصادي في حالة الليبراليين (Rand 1981b)؛ فبهذه الرغبة يكشف كلا الفريقين عن عدم فهمه للحقيقة التي تقول بأنّ حرّية الإنسان في أيّ من الميدانين تقتضي حرّيته في الميدان الآخر.
وفي هذا المجال نجد لدى راند الكثير من الرؤى ذات القيمة العالية، ولا سيّما ملاحظتها المتبصّرة بأنّ الإنسان ما كان له أن يمتلك حقوقًا لو لم يكن يحتاجها من أجل بقائه وسعادته (Miller & Mossoff forthcoming; Badhwar forthcoming-a). لكنّ المنتقدين يشيرون إلى أنّ إرساء كلّ الحقوق على أساس الحقّ باتّخاذ الأفعال الضرورية لـ”البقاء المناسب” يستلزم القول بأنّ المرء ليس له الحقّ باتّخاذ الأفعال التي (تتناقض) مع البقاء المناسب، ومنها: الانقياد الأعمى لداعية روحي عوضًا عن اعتماد المرء على نفسه في التفكير، أو التبذير بالممتلكات عوضًا عن استخدامها بحكمة، أو المثال الأوضح من بينها جميعًا، أي: الانتحار (Mack 1984; Zwolinski forthcoming; Badhwar forthcoming-a)؛ ومع ذلك فإنّ الحرّية في الاقتصار على فعل ما هو جيّد أخلاقيًا أو عقلانيًا ليست حرّية على الإطلاق. لكنّ موقف راند من هذه المسألة ليس متماسكًا، فهي، مثلًا، تقول أيضًا بأنّ البشر، باعتبارهم غير معصومين من الخطأ، “يجب أن يكونوا أحرارًا في أن يتّفقوا أو يختلفوا، وفي أن يتعاونوا أو يسعى كلٌّ في طريقه الخاصّ به، وذلك وفقًا لما يقضي به تحكيم العقل عند كلٍّ منهم” (Rand 1965: 17). وبعض المعلّقين يعتمد على هذه المقولة للمحاججة بأنّ راند لا تحصر الحقوق بالأفعال الضرورية للبقاء المناسب (Miller & Mossoff forthcoming). ومع أنّ موقف راند هذا هو الأكثر توافقًا مع التزامها العميق بالحرّية وحكومة الحدّ الأدنى، فمن الأدقّ القول بأنّنا نجدها تدلي في كثير من الأحيان بعبارات تستلزم موقفًا معاكسًا.
وتحاجج راند بأنّ المنظومة الاجتماعية-السياسية العادلة الوحيدة، والمنظومة الوحيدة في توافقها مع طبيعتنا العقلانية ومع حقّ الفرد بالعيش من أجل ذاته، هي الرأسمالية (Rand 1965, 1967b)، أي: “رأسمالية عدم تدخّل الدولة في الشؤون الاقتصادية (laissez-faire capitalism)، بما فيها من فصل بين الدولة والاقتصاد، بالطريقة وللأسباب نفسها التي نجدها في الفصل بين الدولة والدين” (Rand 1961b, 1964a). وتحاجج راند بأنّ تنظيم الدولة للسوق مسؤول عن وقوع الفساد في مؤسّسات الدولة والسوق معًا، تمامًا كما أن التنظيم السياسي للدين (أو التنظيم الديني للسياسة)، وأينما وُجِد، يفسد مؤسّسات الدولة والدين معًا؛ فهذا التنظيم يتيح الفرصة لتبادل الخدمات بين السياسيين والزعماء الدينيين، وبين السياسيين ورجال الأعمال. ونجد في رواية (أطلس يستريح) صورة معقّدة جذّابة للفساد الاقتصادي والسياسي والأخلاقي الناتج عن “المحاباة” بين الحكومة ورجال الأعمال. وترى راند بأنّ (رأسمالية عدم تدخّل الدولة في الشؤون الاقتصادية) هي “المنظومة [الاجتماعية] الوحيدة التي تحظر استخدام القوّة في العلاقات الاجتماعية” على الصعيدين المحلي والخارجي، لأنّ التاجر والمقاتل ضدّان لا يجتمعان (Rand 1966a). وعليه فإنّ فهم راند للرأسمالية أكثر راديكالية من المفهوم السائد، ودفاعها عن الرأسمالية يختلف اختلافًا عظيمًا عن كلًّ من: الدفاعات المنفعية التي يقدّمها معظم الاقتصاديين، والدفاعات الدينية التي يقدّمها الكثير من المحافظيين (راجع: Den Uyl & Rasmussen 1984b; Machan 1984). ولا شكّ في أنّها تشيد بالرأسمالية (أو شبه-الرأسمالية) لما تخلقه من ازدهار واسع، لكنّ هذه الميزة هي نفسها لا يمكن شرحها سوى بحقيقة مفادها أنّ الرأسمالية تترك للأفراد حرّية الإنتاج بسلام. وفي روايتها (أطلس يستريح) تميّز راند بين القليل من رجال الأعمال الذين يكسبون المال بالجهد الصادق دون السعي خلف أفضال الحكومة، وبين الأغلبية الواسعة الذين ينخرطون في عضوية “أرستقراطية حشد الدعم” (أو: “رأسماليي المحاباة” بالمصطلح المعاصر) ولا تصل إلى الغنى إلّا من خلال هذه الأفضال، ضمن وضع تعتقد راند بأنّه يسود عالم الواقع حاليًا كما هو دأبه طوال مسيرة التاريخ (Rand 1964c). وتعتقد راند بأنّ الولايات المتّحدة الأمريكية اقتربت في حقبة وجيزة أثناء القرن التاسع عشر من منظومة (عدم تدخّل الدولة في شؤون الاقتصاد) أكثر ممّا حقّقه أيّ مجتمع سابق أو لاحق، أمّا الرأسمالية فتبقى مثلًا أعلى مجهولًا. لكنّ بعض المنتقدين يشتكون من أنّ راند دائمًا ما تهمل في كتاباتها غير الأدبية (Rand 1961c) ملاحظة (أرستقراطيي حشد الدعم) في عالم الواقع، أي: كبار رجال الأعمال الذين يحشدون السياسيين للحصول على دعم مالي لشركاتهم ولفرض القيود على منافسيهم (Rothbard 1968; Johnson 2006).
وترفض راند الانتقادات التي ترى بأنّ رأسمالية (عدم تدخّل الدولة في شؤون الاقتصاد) التي لا تنظّمها الدولة قد تؤدّي إلى تركّز السلطة في قلّة من الأيدي وتدمير تكافؤ الفرص؛ وتردّ راند بأنّ هذه الرأسمالية تتطلّب (حكم القانون)، وهو منظومة واضحة المعالم تتكوّن من: حقوق الملكية، وحرّية التعاقد، وما يستلزمانه من حكومة تمتنع عن ممارسة أيّ شكل من أشكال المحاباة.
وتعتقد راند بأنّه ليس هنالك نزاع بين المصالح العقلانية للمرء ونظائرها لدى غيره، وذلك لأنّ احترام حقوق الآخرين يتوافق تمامًا مع قيام المرء بتطوير مصالحه الشخصية والحفاظ عليها. لكن، هل يصحّ القول بأنّ المصالح العقلانية لا يمكن أن تتنازع؟ إذ يبدو أنّه كلّما كان لشخصين مصلحة في سلعة ما (وظيفة مثلًا)، وكانا يتساويان في المؤهّلات اللازمة للحصول عليها، فإنّ مصالحهما العقلانية تتنازع في هذه الحالة، ولذلك ربّما كان ما تنوي راند قوله هو أنّ المصالح العقلانية لا تتنازع (بالضرورة)، أي: ليس النزاع من طبيعتها؛ فما يصيبها من النزاع إنّما يأتي من عوامل خارجية، وفي مثالنا هذا: أن تكون هنالك وظيفة واحدة فقط لشخصين مؤهّلين. ولكن، هل يتوافق مثل هذا النزاع مع الحقوق ضمن الإطار الأناوي؟ وهل يمكن الدفاع عن الحقوق ضمن إطار أناوي؟ وهنا يعارض المنتقدون رؤية راند بحجّة أنّ احترام حقوق الآخرين لا يمكن الاقتصار في تعليله على أنّه وسيلة لتحقيق القيمة النهائية للمرء، سواء كانت هذه القيمة هي البقاء أو السعادة (Mack 1984; Flew 1984). وذلك لأنّه ضمن السيناريوات الواقعية المثالية، لا يمكن للقيمة النهائية أن تشترط على المرء أن ينتهك حقوق الآخرين بالحياة أو الملكية. وفي تعليل راند للحقوق نجد التوتّر المعلّق نفسه بين سلسلة الحجج الذرائعية وسلسلة الحجج الواجباتية الذي يوجد في تعليلها للأخلاق بالمجمل (Mack 1984, 2003). لكن سلسلة الحجج اليودايمونية في تعليل راند يسمح لها أن تردّ بأنّ احترام المرء لحقوق الآخرين يعبّر عن اعترافه بحقيقة مفادها أن الآخرين هم غايات بحدّ ذاتها (وهو اعتراف يشترطه العدل)، وأنّ العدل ضروري (مع الفضائل الأخرى) لعيش حياة سعيدة.
وتعرّف راند الحكومة بأنّها: “مؤسّسة تمسك بالسلطة الحصرية (لفرض) قواعد محدّدة للأداء الاجتماعي ضمن مساحة جغرافية ما” (Rand 1963a: 125). والحكومة المناسبة هي “(الوسيلة لوضع الاستخدام الانتقامي للقوة المادّية في يد السيطرة الموضوعية)، أي: في يد قانون معرّف بموضوعية” (Rand 1963b: 128). وهذه الحكومة تتّصف بأنها في الحدّ الأدنى، إذ تنحصر صلاحياتها في حمايتنا من المجرمين ومن المعتدين الأجانب، وفي فرض الحقوق الفردية والتعاقدات، من خلال الاستعانة بقوّات مسلّحة، وشرطة، ومحاكم وقوانين مدنية وجنائية معرّفة موضوعيًا. فمن ينتهك عقوده، أو يمارس الغشّ، يصبح مذنبًا بذنب الاستخدام (غير المباشر) للقوّة، فهو يحصل على قيمة من شخص آخر دون استحصال موافقته (Rand 1963a: 111). ووفقًا لذلك لا يمكن للحكومة أن تستخدم القوّة، أو تهدّد باستخدامها، إلّا في حالة الانتقام ممّن بدأ باستخدام القوّة، أو هدّد باستخدامها، بشكل مباشر أو غير مباشر. أمّا الحكومة التي تحاول فرض مبدأ (حارس لأخي) المتمثّل بمقولة “من كلّ بقدر ما يستطيع، ولكلّ بقدر ما يحتاج”، أو التي تجنّد المواطنين في القوّات المسلّحة أو “الخدمة العمومية”، أو التي تحاول أن تجعلهم في مستوى أعلى من الفضيلة أو التعليم أو آداب السلوك أو الصحّة أو الثروة، فهي حكومة تنتهك الحقوق. فالدولانية (Statism) بكلّ أشكالها، من الديمقراطية المحدودة فالاقتصاد المختلط إلى الدكتاتورية، تتضادّ مع وضع الإنسان ككائن عاقل مستقلّ يشكل غاية بحدّ ذاته. والدولانية أيضًا تدمّر الإمكانيات وتفشل في الاستمرار طويلًا بتلبية احتياجات الجميع بلا استثناء، لأنّ “التعامل مع الناس بالقوّة أمر غير عملي تمامًا كما هو التعامل مع الطبيعة بالإقناع” (Rand 1973a: 32). فمنبع التقدّم بكلّ جوانبه هو الذهن البشري، وهذا الذهن لا يعمل بشكل جيّد عندما يتعرّض للإجبار.
وفي رواية (أطلس يستريح) تصوّر راند مدينتها الفاضلة (اليوتوبيا)، وادي گالت، كـ”جمعية طوعية بين أناس لا يجمعهم سوى المصلحة الشخصية لكلٍّ منهم” دون أيّ تنظيم رسمي (Rand 1957 [1992]: 690). وفي هذه البقعة قاضٍ يحكّمه الناس في الخلافات، لكنّها لم تشهد أيّة حاجة للتحكيم. وبهذا يكون وادي گالت مجتمعًا لاسلطويًا على الرغم من أنّ راند لم تصفه قطّ بهذا المصطلح؛ بل إنّها ترفض اللاسلطوية في مقالة بعنوان (طبيعة الحكومة) باعتبارها أمرًا غير عقلاني وغير عملي، لأنّها ترى عدم توافقها مع أيّة منظومة قانونية موضوعية، ممّا يعني عدم توافقها مع الحقوق والتعاون (Rand 1963a). ولقد حاجج المنتقدون اللاسلطويون، من أمثال روي چايلدز (Childs 1969 [1994]) وموري روثبارد (Rothbard 1978) بأنّ الاحتكار المناطقي للقانون والقوّة (الحكومة) ليس ضروريًا، لأنّ الناس قادرون على تأسيس منظومة قانونية عادلة ومؤثّرة في سوق تنافسي لمزوّدي الأمن (راجع: Long and Machan 2009). وقانون التجّار (Law Merchant)، وهو مجموعة من القوانين تمّ تأسيسها وفرضها في محاكم خاصّة على يد تجّار من بلدان متنوّعة، يصوّر لنا إمكانية وجود منظومة قانونية طوعية مؤثّرة. وعلاوة على هذا، فإنّ كلّ الحكومات لا تتوافق مع مبدأ راند الذي يحظر البدء باستخدام القوّة، وهو مبدأ تعتبره نقطة ارتكاز أيّ مجتمع أخلاقي (Long 2013; قارن مع Cox 2013a and 2013b).
وينصّ مبدأ التاجر على أنّ أيّ تبادل طوعي نافع للطرفين بين طرفين مستقلّين متساويين هو الأساس الوحيد لأيّ علاقة عقلانية يحترم فيها الطرفان بعضهما بعضًا (Rand 1961b: 31). وهي أيضًا الأساس الوحيد لأيّ علاقة سلميّة بين البلدان: “التاجر والمحارب كانا على عداء جوهري طوال التاريخ” (Rand 1966a: 38).
وينطبق مبدأ التاجر على العلاقات العاطفية أيضًا؛ فأن تحبّ أحدهم أو تعجب به يعني أن “تدفع” له مقابل البهجة التي تستمدّها من فضائله (Rand 1961b: 31)، أو من شخصيّته كما قد تقول راند في ما يخصّ محبّة الطفل الصغير. لكن قد يبدو أنّ التبادل بين الأبوين والطفل غير متساوٍ، لأنّ الطفل يستلم من أبيه وأمّه كلًّا من البهجة والدعم المادّي. وليس من الواضح كيف أنّ مبدأ التاجر ينطبق بأيّ شكل من الأشكال عندما تؤدّي إعاقة شديدة إلى جعل طفل أو زوج محبوب مصدرًا للألم عوضًا عن السعادة.
- 3. 2. النسوية
إذا كانت النسوية هي الرؤية القائلة بأنّ المرأة مساوية للرجل فكريًا وأخلاقيًا وجنسيًا وسياسيًا، ويجب أن يعترف بها على هذا الأساس، فإنّ الفلسفة الموضوعانية للطبيعة البشرية نسوية في جوهرها، وذلك لأنّها تنطبق بالتساوي على كل كائن بشري بغضّ النظر عن الجندر (أو العرق) (N. Branden 1999). وقبل عقود من العصر الذي أصبح فيه من المقبول أن لا تحمل المرأة “غرائز الأمومة” أو أن تسعى خلف الوظيفة، قامت راند بخلق بطلات في رواياتها يتّصفن بالصفتين كليهما، دون شعور بالذنب أو تشكيك بالذات.[xi] وفي روايتها (نحن الأحياء) نقرأ عن رغبة كيرا بأن تصبح مهندسة، وفي روايتها (أطلس يستريح) ترغب داگني بأن تدير شركة (تاگارت ترانسكونتيننتال)، أكبر الشركات المحلّية للنقل بالقطارات وأكثرها نجاحًا. ولا نجد بين بطلات راند من تضحّي بمصالحها أو فكرها أو مبادئها من أجل الرجل، أو الرجال، في حياتها. ويحاجج أحد النقّاد الأدبيين بأنّ داگني هي البطلة الأولى، وربّما الوحيدة، في ملاحم الأدب الغربي، وذلك بسبب ما تتّصف به من عظمة الرؤية، والشجاعة والكرامة، وقدراتها الاستثنائية، وأهمّيتها الوطنية (Michalson 1999). ويضاف إلى ما سبق أنّ تصوير راند لبطلات رواياتها وهنّ يستمتعن بممارسة الجنس وتحرّرهنّ من كلّ الأعراف شبه التقليدية حول الجنس يكشف لنا توقّعها لحركة التحرّر الجنسي في القرن العشرين قبل وقوعها بثلاثين عامًا على الأقلّ. وفي الروايات الثلاث جميعها نجد أنّ البطلة هي التي تمتلك وحدها فقط سلطة اختيار الحصول على أيٍّ من الرجال الذين ينظرون إليها بحبّ أو إعجاب أو رغبة. ولقد عُرِف عن راند أنّها كانت من أشدّ المتحمّسين في الدعوة إلى حقّ المرأة بالتحكّم بخياراتها الإنجابية الخاصّة بها (Rand 1968a, 1981).
ومع ذلك فإنّ علاقة راند بالحركة النسوية كانت أكثر تعقيدًا، فعلى الرغم من إشادتها بكتاب (الهالة النسوية) لبيتي فريدان، فإنّ الجماعاتية السائدة في الحركة النسوية، وتشديدها على موقع المرأة كضحية، دفع راند إلى رفض النسوية القائمة على هذا الأساس. ويحاجج الكثير من الباحثين بأنّ كتابات راند، وخصوصًا روايتها (أطلس يستريح)، تساند مُثُلًا نسوية مهمّة، حتّى وإن كانت تستسلم لبعض الميول المضادّة للنسوية التي تناقض أخلاقياتها الفردانية (راجع مثلًا: Gladstein 1978, 1999; B. Branden 1999; Presley 1999; Sheaffer 1999; Taylor 1999). ويعتبر الكثير غيرهم أنّ راند وكتاباتها صريحة في معاداتها للنسوية، حتّى أنّ سوزان براونميلر تدعوها بالـ”خائنة لجنسها” (Brownmiller 1975). ومن الانتقادات ما يستهدف الفردانية في الطرح الأخلاقي والسياسي لدى راند، والذي يرفض أي عون حكومي خاصّ للمرأة أو تمييزها عن الرجل (مثلًا: Harrison 1978). وثمّة انتقادات أخرى ترى بأنّ راند اعتنقت فهمًا رجوليًا للطبيعة البشرية والفضيلة، ثمّ خلقت بعد ذلك نموذجها المثالي للمرأة على ضوء هذا الفهم (Brownmiller 1975; Glennon 1979). وربّما يكون هذا الأمر مسؤولًا عن رؤية راند المحيّرة (والجارحة) بأنّ جوهر الأنثوية هي العبادة البطولية للذكورة (لا للرجال)، مع التشديد في الوقت نفسه (كما تصوّر رواياتها) على المساواة الجوهرية بين النساء والرجال وبأنّ العلاقة الرومانسية المثالية هي بين أشخاص متساوين أخلاقيًا وفكريًا (Rand 1968b; قارن مع Brown 1999). وبجانب هذه الرؤية الجارحة ثمّة أمر آخر يتساوى معها على الأقلّ في جرح الشعور، وهو المشاهد الجنسية العنيفة في رواياتها، وخصوصًا المشهد المشين في رواية (المنبع) الذي يعتبره الكثيرون اغتصابًا، حيث يقوم هوارد رورك بممارسة الجنس مع دومينيك على الرغم من مقاومتها له.
ومن يرفضون تهمة الاغتصاب يحاججون بأنّ الأمر كان ينظر إليه في الأربعينيات والخمسينيات، الحقبة التي كتبت راند روايتها فيها، باعتباره خشونة في ممارسة الجنس وليس إكراهًا على ممارسة الجنس (McElroy 1999; Sheaffer 1999). ويمكن الاستدلال على أنّ راند نفسها كانت تعتبر ما حدث في المشهد أمرًا حصل بالتراضي، وذلك بقراءة ما ورد بعد عدّة صفحات: “كانا متّحدين بفهم يتخطّى حدود العنف، ويتجاوز الطبيعة الشهوانية المقصودة لما فعله” (Rand 1943: 218). وفي رسائل وجّهتها في العامين (1946) و(1965) راند إلى قرّاء أزعجهم المشهد، أنكرت راند حدوث “اغتصاب فعلي”، فهي تعتبر الاغتصاب “جريمة مروّعة” و”عمل وحشي وانتهاك لحقوق المرأة” (Rand 1995a). ومن جهة أخرى، تصوّر لنا راند كيف حدّثت دومينيك نفسها، وهي مبتهجة، بأنّها تعرّضت للاغتصاب؛ وهنا يتساءل ماكلروي عمّا إذا كان إنطاقها لبطلتها بأن تدعو ما تعرّضت له بـ(الاغتصاب) ليس إلّا مثالًا آخر على رغبة راند باستثارة القارئ وإصابته بالصدمة (McElroy 1999)، كما حدث حين استخدمت كلمة “الأثرة” لتعني بها (المصلحة الذاتية العقلانية).
- 4. الجماليات
تعتقد راند بأنّ أفعالنا تحتاج إلى الاهتداء برؤيةٍ ما حول الطبيعة الرئيسية للكون وفعّالية الفكر والنشاط البشري؛ وهي رؤية يمكن إدراكها بشكل مباشر دون أن تشترط التكرار الواعي لسلاسل طويلة من التفكير التجريدي. وتتمثّل الوظيفة الأولى للفنّ في تلبية هذه الحاجة النفسانية من خلال التعبير عن القيم المفاهيمية التجريدية والحقائق الميتافيزيقية بشكل متين قابل للإدراك الحسّي. والفنّ لدى راند يشكّل إعادة خلق للواقع على نحو انتقائي يتّبع أسلوبًا بعينه، ومبدأ الانتقاء هنا هو “معنى الحياة” لدى الفنّان، وهو مجموعة مبطّنة من “الأحكام العقلية الميتافيزيقية للقيمة”، أي: أحكامه العقلية بشأن ما يتمتّع بأهمّية جوهرية حول العالم وموضعنا فيه. (ثمّة خلاف بين الباحثين في فكر راند حول ما إذا كان ما يُعاد خلقه في الفنّ هو عناصر محدّدة من الواقع أم هو الواقع بأكمله، أي: “كون مصغّر”، بالإضافة إلى خلاف حول كيف وهل ينطبق مفهوم إعادة الخلق على الأشكال الفنّية التي يبدو أنّها غير قابلة للتمثيل [Torres and Kamhi 2000; Bissell 2004]). وإنّ كلًّا من العمل الإبداعي للفنّان والاستجابات العاطفية للمتلقّي يوجّههما معنى الحياة لدى الطرفين، أي: رؤاهما الشاملة التي “شكّلاها عبر عملية من التعميم العاطفي […] التي تعتبر النقيض اللاوعيي لعملية التجريد” (Rand 1966b: 27). وتورد راند في رواياتها أيضًا، وخصوصًا (المنبع)، موضوعة كثيرة التواتر تتمثّل بدور الفنّ في الإسناد النفساني للإنسان من خلال تزويده بما يجسّد قيمه الأكثر جوهرية.[xii]
وبينما يمكن استخدام الفنّ لإيصال المعلومات أو الدفاع عن موقف ما، فإنّ أمثال هاتين الوظيفيتين تعتبر مهمّات ثانوية بالنسبة للمهمّة الرئيسية، وهي: تقديم شيء ما يؤدّي مجرّد التأمّل به إلى شعور بالتحقيق الروحي. ولهذا لا تعتبر راند أنّ رواياتها هي في الأساس وسائل لنقل فلسفتها، على الرغم من أنّه خدمت هذه المهمّة ضمن مهمّات أخرى. فالرؤية الشاملة التي تتبنّاها راند تجعلها تفضّل الكتابات الأدبية ذات الحبكات القوية كوسيلة للتعبير عن الفعل البشري الهادف ضمن عالم تنظّمه السببية، وتفضّل أيضًا القصص التي تتضمّن نزاعات على القيمة كوسيلة للتعبير عن أهمّية حرّية الخيار؛ ومن هنا ينطلق تفضيلها للأدب الرومانطيقي (عوضًا عن الأدب الواقعي، مثلًا). لكنّ راند تعتقد بأنّ من الممكن تقييم العمل الفنّي جماليًا بمجرّد الاعتماد على مدى نجاحه في نقل تجسيد لمعنى الحياة لدى الكاتب، بغضّ النظر عن مشاطرتنا أو رفضنا للقيم والأحكام المنقولة بهذا الطريق.[xiii]
أ. ملحق: الإبستيمولوجيا والميتافيزيقا
أ. 1. الإدراك الحسي
طوّرت آين راند رؤاها حول الإدراك الحسّي من خلال حواراتها مع ناثانيل براندن وليونارد پيكوف بشكل خاصّ، واللذين عرضا هذه الرؤى في محاضراتهما؛ ثمّ استفاض كيلي (Kelley 1986) وپيكوف (Peikoff 1991) وغيرهما في عرضها. وتعتقد راند بأنّ المعرفة بأجمعها مستمدّة من الإدراك الحسّي، وأنّ أيّة محاكمة عقلية لا يمكن “المصادقة على صلاحيتها” (هذا المصطلح تستخدمه راند لتثبيت أساس الفكرة ضمن الواقع) إلّا باقتفاء جذورها ضمن مستوى الإدراك الحسّي. وبهذا المعنى تعدّ راند ضمن أصناف المفكّرين التجريبيين؛ لكنّها ترفض الفصل التقليدي بين ما هو عقلاني وما هو تجريبي، وتعتبر هذا الفصل تجسيدًا لنموذج (البديل الزائف)، أي: إنّ العقلانية تعتقد بأنّنا قادرون على استنتاج المعرفة من المفاهيم المكتسبة دون عون الإدراك الحسّي، بينما تعتقد التجريبية بأنّنا قادرون على اكتساب معرفة قضوية من التجربة دون عون المفاهيم؛ إذ ترى راند أن كلا الأمرين مستحيل: فبينما تقدّم الحواسّ المادّة الخام للمعرفة، لا بدّ من المعالجة المفاهيمية لتثبيت القضايا القابلة للمعرفة (ويمكن إثارة الجدل هنا حول صوابية تصنيف راند للعقلانيين والتجريبيين).
وترى راند بأنّ اكتساب المعرفة هي عملية تمييز ودمج: تمييز بين الأشياء التي يلاحظها الإنسان في حالة الوعي على أساس فروقها، ثمّ دمج الظاهرات المميّزة ضمن بنية كلّية قابلة للإدراك. وهذه العملية تبدأ في مستوى الإدراك الحسّي (تقبل راند وجود شكل للوعي سابق للإدراك الحسي تدعوه “الإحساس”، لكنّها لا تسند إليه دورًا مهمًّا في نظريتها)، وذلك عندما تخضع الكيانات إلى التمييز عما يحيطها ثمّ دمجها كبنى موحّدة.
إنّ الأهداف الرئيسية للإدراك الحسّي هي (الكيانات)، وهي كذلك المكوّنات الرئيسية لرؤيتها الأنطولوجية أيضًا. أمّا الخصائص والأفعال فلها مكانة ثانوية، فلا معنى لها إلّا إذا كانت أفعالًا وخصائص (تابعة) لكيانات. لكنّ هذا لا يعني القول بأنّ الكيانات هي مجرّد بنية أساسية لخصائصها، فالوجود ليس إلّا أنّ هنالك جسمًا محدّدًا بهوية محدّدة؛ والهوية هي الشكل الذي يتّخذه الوجود، ولذلك فالكيان (هو) مجرّد مجموع خصائصه.
وتميّز راند بين معنيين لـ”الكيان” (Rand ITOE: 268–74) فبالمعنى الضيّق يعني (الكيان) جسمًا تستقلّ وحدته عن وعينا؛ وهنا تقارن راند بين الكيانات، وفقًا لهذا المعنى، وبين الموادّ الرئيسية في الطرح الأرسطي (وإن كانت لا تدعم تفاصيل حيوية الشكل hylomorphism لدى أرسطو)، وتعتبرها بمثابة المكوّنات الأنطولوجية الرئيسية للواقع. وبالمعنى الأوسع يعني (الكيان) أيّ شيء نختاره للتفكير فيه بمعزل عن محيطه، حتّى وإن لم يكن له من الوحدة سوى ما نمنحه له عند تفكيرنا به، كما هو الحال عندما نتعامل مع أجزاء من الكيانات أو مع مجموعات من الكيانات. والكيانات بالمعنى الضيّق تأخذ منزلتها الكيانية ميتافيزيقيًا، أو جوهريًا كما هو مفترض، أي كما شرحنا سابقًا: بمعزل عن علاقتها بوعينا (وإن كانت هذه مسألة تثير الجدل لدى الباحثين في فكر راند: Jilk 2003; Bissell 2007). ولا يمكن للكيانات، بالمعنى الواسع، أن تكون لها منزلتها الكيانية إلّا إبستيمولوجيًا، أي: إلّا في ما يتعلّق بالوعي؛ أمّا منزلتها كـ(موجودات) فتظلّ ميتافيزيقية، أي: إنّها موجودة حقًّا بمعزل عن طريقة اعتبارنا لها، حتى وإن كانت لا توجد كـ(كيانات) بمعزل عن طريقة اعتبارنا لها.
وبينما تشير راند أحينًا إلى الدليل القادم من الحواسّ كـ”بيانات”، لا تعتبر ما تقدّمه الحواسّ “بيانات حسّية” تُفهَم على أنّها من ميزات خبرتنا الذاتية؛ فهي ترى بأنّ بيانات الحواسّ كيانات تجريبية أصيلة مع خصائصها، وملكات الإدراك الحسّي لدينا تجعلنا في اتّصال مباشر بالواقع؛ وبهذا المعنى تصبح نظرية راند للإدراك الحسّي نسخة من الواقعية المباشرة، والتي تعتقد بأنّ الأشياء التي يدركها الإدراك الحسّي هي كيانات خارج نطاق الذهن (بدلًا من القول، مثلًا، بأنّها خبرات ذاتية نستنتج الكيانات على أساسها باعتبارها أسبابًا لها).
إنّ صلاحية الإدراك الحسّي ليست قابلة للبرهان، لأنّها مفترضة مسبقًا في كلّ برهان، انطلاقًا من أنّ البرهان ليس سوى تقديم الدليل الحسّي. كذلك لا يمكن إنكار هذه الصلاحية أو مساءلتها، لأنّ الأدوات المفاهيمية نفسها التي قد يتوجّب على المرء استخدامها في هذا الأمر مشتقّة من البيانات الحسّية، لذلك فهي تفترض مسبقًا صلاحية هذه البيانات. ولهذا فإنّ خطأ الإدراك الحسّي ليس ممكنًا بشكل محدّد بدقّة، لكنّ من الممكن ارتكاب الخطأ في تفسير الدليل، والظاهرات التي قد يعتبرها الكثيرون أوهامًا في الإدراك الحسّي تعرّفها راند بأحد أمرين: إمّا إدراكات حسّية أسيء تفسيرها (كالأوهام البصرية)، وإمّا إدراكات غير حسّية جرى اعتبارها إدراكات حسّية عن طريق الخطأ (كالأحلام والهلوسات).
وعلى النقيض ممّا سبق، فإنّ تشكيل المفاهيم والمعتقدات على هذا الأساس الحسّي هي عملية إرادية معرّضة للخطأ بكلّ تأكيد. وتقبل راند البيانات الحسّية كنقطة بدء أساسية لا يشكّ بها وتُفترَض مسبقًا في كل أشكال المعرفة، وبهذا المعنى تعتنق راند نسخة من “المعطى” إبستيمولوجيًا. لكنّ “المعطى” عند راند هو كيانات خارج-ذهنية وخصائص هذه الكيانات، وليس محاكمات عقلية قضوية بشأنها؛ فكلّ المحاكمات العقلية القضوية ناتجة عن مستوى إرادي للإدراك الحسي ضمن الوعي، ولذلك فهو غير معصوم من الخطأ.
وترفض راند الرؤية القائلة بأنّ بعض الإدراكات الحسّية تبدي خصائص الأشياء باعتبارها مستقلّة عنّا (الخصائص الأوّلية)، بينما تكون الخصائص الأخرى (الثانوية) ناتجة عن الخصائص الأوّلية، وتتواجد في الذهن بشكل كامل (Rand ITOE: 279ff). فعوضًا عن ذلك، تميّز راند بين (محتوى) الإدراك الحسّي وبين (شكله)؛ فعندما نقوم بالإدراك الحسّي لجسم ما على أنّه مربّع وأحمر، مثلًا، فإنّ (ما ندركه حسّيًا هو صفاته الجوهرية بشكل معيّن)، أي: شكل تحدّده طبيعة الجسم، وطبيعة أعضاء الحسّ لدينا، والبيئة. وهكذا فإنّنا ندرك حسّيًا بأنّ شكل الجسم مربّع، وأنّ صفة الضوء المنعكس عن سطحه هي الاحمرار، وكلا الصفتين ناتجة عن التفاعل بين أعضاء الحسّ لدينا وبينا ما هو أمامها؛ فلا هما (صفتا الشكل المربّع واللون الأحمر) تنتميان للجسم بمعزل عن نمط الإدراك الحسّي، ولا هما تنتميان لنمط إدراكنا الحسّي بمعزل عن الجسم ضمن بيئته. ومن هنا، فإنّ هذه الخصائص لا هي جوهرية ولا هي ذاتية، بل هي علائقية وموضوعية (Kelley 1986; Peikoff 1991).
وهكذا فبينما تتّخذ راند موقف الواقعية (المباشرة) بالمعنى الذي شرحناه، فإنّها مع ذلك لا تتّخذ موقف الواقعية (الساذجة) بمعنى اعتبار كلّ الخصائص المدركة حسّيًا ذات منزلة خارج-ذهنية متساوية؛ فمن الممكن أن نخطئ في إسناد صفة شكل إدراك حسّي لمحتواه (ومن المفترض أنّ العكس صحيح)، لكنّ راند لا تعتبر هذه الحقيقة تفنيدًا لموثوقية الحواسّ، انطلاقًا من أنّ المحاكمة العقلية التي ترى بأنّ صفة بعينها تعود لمحتوى إدراك حسّي، وليس لشكله، لا يقدّمها الإدراك الحسّي نفسه، بل تنشأ هذه المحاكمة العقلية كاستجابة مفاهيمية لهذا الإدراك الحسّي تتّصف بأنّها إرادية وتكوّنت بشكل معرّض للخطأ.
وعلى النحو ذاته، فإنّ وجود صفات تنتمي لشكل الإدراك الحسّي، لا لمحتواه، ليس مؤشّرًا لوجود أيّ عيب في ملَكات الإدراك الحسّي لدينا؛ بل على العكس من ذلك، فكلّ عملية يجب أن يكون لها طبيعة محدّدة وتحدث بوسيلة محدّدة ما؛ ولهذا فلا محيد، وفقًا لرؤية راند، عن اعتماد كيفية ظهور الأشياء أمامنا على طبيعة أعضاء الإدراك الحسّي لدينا. وإنّ الحقيقة القائلة بأنّ (شكل معارفنا يتحدّد جزئيًا بالوسائل المستخدمة في اكتسابها) لا يلغي صلاحية وضعها كمعارف؛ وإذا أردنا الافتراض بعكس ذلك فسيعني أن نصل، فعليًا، إلى الاستنتاج بأنّه “لا يمكنك أن تعلم أيّ شيء، وذلك لأنك لا تعلم أيّ شيء إلّا بواسطة شيء ما” و”إنّك أعمى […] لأنّ لك عينين، وإنّك أصمّ […] لأنّ لك أذنين” (Rand 1997: 655). وأيضًا فإنّ الاكتشاف بأنّ الصفات (كاللون) ليست خصائص جوهرية للكيانات يجب أن لا يعتبر مؤشرًا ضمنيًا لذاتيتها، فما دامت الصفات لا تعتمد على الوعي وحده بل على العلاقة بين الوعي وأشيائه، فهي ليست جوهرية ولا ذاتية، بل موضوعية (وهكذا يمكن للكيان أن يوجد بشكل جوهري حتّى وإن كانت بعض خصائصه لا توجد إلّا بشكل موضوعي).
وترفض راند فكرة كانت حول الكلّيات المفاهيمية الفطرية على أساس أنّها تخلط بين شكل الفكرة حول الجسم وبين محتوى الفكرة، فتؤدّي إلى فصلنا عن الواقع (Rand ITOE, Ch. 8). لكنّ بعض المنتقدين ينظرون إلى تمييز راند نفسه باعتباره شديد الشبه بما جاء به كانت من قبل (Walsh 2000). ويحاجج المنتقدون أيضًا بأنّ راند تجعل موثوقية الإدراك الحسّي بلا معنى (بما أنّ كلّ ما يعدّ إدراكًا حسيًا يجب أن يكون دقيقًا قبل ذلك)؛ وأنّها تتبنّى مقاربة أسسية تخلط بين عملية الإدراك الحسّي التي تتشكّل المحاكمات العقلية بواسطتها وبين كيفية تعليل هذه المحاكمات العقلية؛ وأنّها لا توضّح كيف أنّ المحاكمات العقلية ذات البنية القضوية يمكن المصادقة على صلاحيتها بواسطة بيانات حسّية تفتقر إلى مثل هذه البنية (Dipert 1987; Long 2000). ومن الجانب الإيجابي، هنالك عدد من الفلاسفة الذين طوّروا نظرية راند حول الإدراك الحسّي على نحو يتناول مشاكل في الإبستيمولوجيا التحليلية المعاصرة (Kelley 1986; Ghate 2013; Salmieri 2013).
أ. 2. نظرية للمفاهيم
إنّ عملية التمييز والدمج التي تبدأ عند مستوى الإدراك الحسّي تستمر عند مستوى تشكيل المفاهيم، حيث نقوم بالاهتمام الانتقائي لخصائص بعينها من كيان ما، ونميّزه عن كيانات تفتقر لهذه الخصائص، ونجمع هذا الكيان سويّة في الذهن مع كيانات تشاطره الخصائص نفسها، ممّا يتيح التعامل مع الكيانات كوحدات، أي: كأعضاء في مجموعة ما (Rand ITOE; Kelley 1984; Kelley and Krueger 1984; Peikoff 1991). وإنّ حلول الكيان منزلة الوحدة ليس من صفاته الجوهرية، لأنّ أساس منزلته هي عملية التمييز والدمج الذهنية التي نقوم بها. لكنّ هذه المنزلة ليست ذاتية أيضًا، لأنّ العملية تقوم على أوجه للشبه والاختلاف قائمة فعليًا، ولذلك فإنّ هذه المنزلة موضوعية. ونتيجةً لذلك ترفض راند الجدل بين أنصار الواقعية وأنصار الإسمائية (nominalism) حول طبيعة الكلّيات وتعتبره بديلًا زائفًا (“الواقعية”، كنظرية حول الكلّيات، يجب تمييزها عن واقعية الإدراك الحسّي التي تقبلها راند). وتساوي راند بين الكلّيات والمفاهيم، وتفهمها على أنّها خصائص للوعي، ولهذا ترفض النزعة الجوهرية لدى الواقعيين؛ إذ ترى بأنّ مشكلة الكلّيات مضمارها الإبستيمولوجيا، لا الميتافيزيقيا. لكن بما أنّ راند تعتبر المفاهيم موضوعية، فإنّها تميّز بالطريقة نفسها بين نظريتها وبين الإسمائية، والتي تفسّرها بأنّها مقاربة ذاتية للكلّيات.
ويمكن أيضًا أن نجعل للخصائص منزلة الوحدات، فيمكّننا ذلك من القيام بعملية (القياس)، والتي تتضمّن ربط الوحدات ذات الخصائص القابلة للإدراك الحسّي بكمّيات أكبر أو أصغر، بما فيها التي تبلغ من الضخامة أو الضآلة حجمًا يستعصي على الإدراك الحسّي، ممّا يسمح لنا بتوسيع معارفنا إلى ما وراء مستوى الإدراك الحسّي. و(القياس) هنا يجب أن يُفهَم بمعناه الواسع، أي: إنّه يغطّي العلاقات الترتيبية والأصلية كليهما، ممّا يجعله قابلًا للتطبيق على كلّ المفاهيم، دون الاقتصار بشكل ضيّق على المفاهيم الكمّية. والمفاهيم توسّع مدى معارفنا من خلال تقليص عدد الوحدات التي يجب أن نتعامل معها.
وتعتقد راند بنظرية تجريد بـ”استبعاد القياسات”، أي: إنّها تعتبر تشكيل المفاهيم مسألة تتعلّق بتجميع الوحدات على أساس صفات قابلة للقياس مع استبعاد قياسات بعينها (مثلًا: تجميع الأجسام الحمراء مع استبعاد درجات بعينها من اللون الأحمر). وهذا النوع من التجريد لا يزيّف ما يطبّق عليه، لأنّ استبعاد قياسات محدّدة لا يعني الادّعاء بعدم وجودها، بل مجرّد استبعاد تحديدها. وإنّ أوجه الشبه التي نشكّل على أساسها مفاهيمنا الأولى هي أوجه شبه محدّدة بواسطة الإدراك الحسّي؛ أمّا المفاهيم الأكثر تعقيدًا فتتضمّن أوجه شبه محدّدة بواسطة المفاهيم.
إن الخصائص خارج-الذهنية التي نشكّل على أساسها مفاهيمنا يُفترَض بأنّ راند كانت تعتبرها جزئيات لا كلّيات (وإلّا لكانت راند من أنصار الواقعية التقليدية)؛ لكنّ راند لا تفيدنا إلّا بالقليل حول المنزلة الميتافيزيقية لأوجه “الشبه” أو “التماثل” التي نحدّدها ضمن هذه الجزئيات الخصائصية. وفي العادة تسعى نظريات الكليات لتفسير كلّ من: الهوية الشاملة عبر اختلاف بعينه (مثلًا: كيفية انطباق صفة الحمرة على درجتين متمايزتين من اللون الأحمر)، والهوية المحدّدة عبر اختلاف ترتيبي (مثلًا: كيفية انطباق صفة درجة محدّدة من الحمرة على حالتين جزئيتين من التلوّن بهذه الدرجة). ويبدو أنّ نظرية (استبعاد القياسات) لدى راند تستهدف قبل كلّ شيء التعامل مع القضية الأولى، إذ لا تفيدنا إلّا بالقليل حول القضية الثانية. وإنّ إصرار راند على أنّ (كلّ شيء في الواقع هو جزئية) ينظر إليه المنتقدون على أنّه يقوّض إمكانية وجود أوجه الشبه المستقلّة عن الذهن التي نحتاجها لإثبات موضوعية المفاهيم (إذ كيف يمكن لجسمين أن يتشابها إذا لم يكن هنالك شيء حقيقي مشترك بينهما؟). لكنّ من الممكن أن راند ربّما تعتبر أوجه الشبه هي نفسها جزئيات خصائصية علائقية أو مجازات، وليست كلّيات؛ كما أنّ وجه الشبهة في صفة الكلبية بين الكلبين (فايدو) و(لاسي) قد يكون جزئية مختلفة عن وجه الشبه في صفة الكلبية بين الكلبين (لاسي) و(سنوبي).
إنّ التجريد يصبح “مفتوح النهاية” منذ بداية تشكيله، فلا ينحصر تطبيقه بالأجسام المحدّدة المدركة حسّيًا التي تمّ تشكيل التجريدات منها وحسب، بل يشمل تطبيقه أيضًا كلّ الأجسام المدركة حسّيًا من النوع نفسه. أمّا المميّزات التي يتمّ على أساسها تجميع المفردات مفاهيميًا فيجب أن تتّصف بأنّها (ضرورية)، أي: أساسية من ناحية التفسير؛ لكن بما أنّ راند تعتبر التفسير صنفًا إبستيمولوجيًا، وليس ميتافيزيقيًا، فالماهيات موضوعية وليس جوهرية. وهذه المميّزات الضرورية تقوم أيضًا بتحديد تعريف المفهوم؛ فكلّ من عملية تشكيل المفهوم (الطاولة، مثلًا)، وعملية التوصّل إلى تعريف، يتوافقان مع الوظيفتين الرئيسيتين للوعي: الدمج والتمييز (Rand ITOE: 41). فجنس الطاولة يدمجها مع موجودات أخرى من النوع ذاته (الكراسي، والخزائن، و…إلخ) بينما يفرّقها تمييزها عن الموجودات الأخرى من النوع ذاته (وعن الأنواع الأخرى، طبعًا). لكنّ معنى المفهوم لا يكمن في تعريفه، بل في مدلوله، فلا تتحدّد العضوية في صنف من المدلولات تبعًا لأيّ معيار يشبه “المعنى” لدى فريگه، بل تبعًا لأوجه الشبه الأساسية لعضو محتمل (سواء كان معروفًا أو لم يعرف بعد) مع الأجسام الأصلية المدركة حسّيًا التي يقوم عليها المفهوم. وإنّ التعريفات تتعلّق بالسياق ويمكنها أن تتغيّر على نحو يستجيب للمكتشفات الجديدة دون تغيير المفهوم نفسه. وهنا نصل إلى السؤال: إذن ما هو التعريف الموضوعي الصالح للجميع؟ إنّه التعريف القائم على “أوسع سياق للمعرفة متاح للإنسان في ما يخصّ المواضيع المتعلّقة بوحدات المفهوم المعطى” (Rand ITOE: 46). وبما أنّ المفاهيم لا تتغيّر عندما تتغيّر تعاريفها مع نموّ المعرفة فهذا يعني أنّ لدينا استمرارًا في الدلالة؛ بل إنّ نموّ المعرفة البشرية ما كان له أن يكون ممكنًا لولا هذا الاستقرار والنهاية المفتوحة للمفاهيم (Rand ITOE: 27–8, 66–67). ولهذا فإنّ تطوّر العلم لا يهدّد موضوعيته أو تقدّمه، كما يزعم البعض (Feyerabend 1965; Kuhn 1970)، بل إنّ تطور البنية المفاهيمية للعلم يجسّد لنا نظرية راند بشأن المفاهيم وتطوّر الإدراك (Lennox 2013). وترفض راند التمييز التحليلي-التركيبي، أي: إنّها تنكر وجود أيّ فرق مهمّ، في المنزلة الميتافيزيقية أو الصيغية، وكذلك في وسائل التحوّل إلى معلوم، بين هذه الميّزات التي يذكرها التعريف وبين نظيرتها التي لم يذكرها. وعلى الرغم من كلّ الفروق المتنوّعة، فإنّ المناقشة الإجمالية للدلالة عند راند تحمل أوجه شبه مثيرة للانتباه مع نظريات الدلالة عند أنصار الواقعية، والتي طوّرها سول كريپكي وهيلاري پوتنام إبّان سبعينيات القرن الماضي، لكنّ راند طوّرت أفكارها بشكل مستقلّ، وعبّرت عن أولى أفكارها هذه في أعداد العامين (1966-1967) من مجلّتها (الموضوعاني).
ولقد رفض المنتقدون ما جاءت به راند لأنّها لم تقدّم أيّ حجّة في نقض إمكانية أن يكون لـ(بعض) المفاهيم دلالات يحدّدها التعريف (Browne 2000; Long 2005a,b)؛ فعلى سبيل المثال: تصف راند معنى “الرأسمالية” بقولها “الامتناع الكامل للدولة عن التدخّل في الشؤون الاقتصادية بشكل كامل وصافٍ لا يخضع للسيطرة ولا للضوابط” (Rand 1964a: 33)، وبما أنّ راند لا تعتبر أنّ مثل هذه المنظومة قد وجد قطّ، فمن الصعب أن نتبيّن كيف أمكن تشكيل مفهوم “الرأسمالية” على أساس دلالاته (أيّة دلالات؟)، ولو كان تعريف راند لـ”الرأسمالية” يؤدّي، بدلًا من ذلك، دور (معيار) يحدّد ما يمكن اعتباره دلالة فعندها يمكن لبعض العبارات أن تكون “صائبة بالتعريف” في نهاية المطاف، وبهذا تمتلك إمكانية إعادة الحياة للتمييز التحليلي-التركيبي.
إنّ المفاهيم (أو محاولات تشكيل المفاهيم) التي تجمّع ما تزعمه من دلالات وفقًا للمميّزات غير الضرورية أو غير المنسجمة، أو التي تجسّد افتراضات مسبقة خاطئة عوضًا عن ذلك (“الفلوجستون” أو “التطرّف”، مثلًا)، والتي تتعامل ضمنيًّا مع أيّ اعتقاد منسجم أو عميق التكامل باعتباره أمرًا سيّئًا بغضّ النظر عن محتواه)، إنّما هي مفاهيم تفتقر للصلاحية ولا يمكن استخدامها بعقلانية. وترى راند بأنّ “المفاهيم المضادّة” أو “حزم المفاهيم الجاهزة” (كـ”التطرّف” أو “الأثرة”) توظّف كثيرًا كاستراتيجية أيديولوجية لعرقلة قدرة الناس على إدراك المفاهيم السياسية غير المريحة؛ ولهذا فإنّ نظرية راند ذات بعد معياري (Gotthelf 2013). وإنّ الأحكام العقلية التي تنكر افتراضاتنا المفاهيمية المسبقة هي غير صالحة على النحو ذاته. وعلى سبيل المثال: إنّ إمكانية (أن تكون كلّ تجربتنا في الحياة ليست سوى حلم) ترفضها راند باعتبارها تندرج ضمن مغالطة “المفهوم المسروق”، لأنّ امتلاك مفهوم “الحلم” يفترض مسبقًا القدرة على التمييز بين الحلم واليقظة؛ وهذا لأنّ الامتلاك الحقيقي لأيّ مفهوم يتطلّب كلًّا من القدرة على اشتقاق تجريد من أمور ملموسة والقدرة على المضيّ وتطبيقه على ملموسات جديدة، ولو كانت تجربتنا في الحياة بأكملها حلمًا فإنّ مفهوم اليقظة ما كان له أن يُشتقّ من أيّ أمر ملموس ولا أن يطبَّق عليه. وإنّ من يدّعون إدراكهم لمفهوم ما وعجزهم في الوقت نفسه عن ملاحظة أمثلة له “لم يؤدّوا أيًّا من جزئي الحلقة: لا التجريد، ولا ترجمة التجريد إلى ملموسات”، كما هو الحال في الدائرة الكهربائية التي “لا يمكن لأيّ جزء فيها أن يكون نافعًا حتّى، وما لم، تكتمل الدائرة” (تدوينة في دفتر مذكّرات بتاريخ 4 مايو 1946؛ Rand 1997: 481).
ولهذا فإن الكثير ممّن يبدو بأنّهم يعملون ضمن المستوى المفاهيمي ربّما ليسوا كذلك في الحقيقة؛ وتلجأ راند إلى “الذهنية المضادّة للمفاهيم”، الناتجة عن الكسل أو التعليم الخاطئ، لتفسير هيمنة الانسجام الاجتماعي المفتقر للتفكير السليم، انطلاقًا من أنّ من لم يبرع في صياغة تجريدات أعلى مجبر على الإبحار في عالم المجتمع عبر محاكاة السلوك الملموس للآخرين. وبعبارة أخرى: إنّ الذهنية المضادّة للمفاهيم ترى بأنّ مفهومًا كالعدل لا يشير سوى إلى ممارسات ملموسة ينخرط فيها أفراد مجتمع ما باستخدامهم للمصطلح، وبذلك يعيقون إمكانية أيّ تفكّر ناقد بشأن المستوى الحقيقي للعدل في هذه الممارسات (Rand 1982a: ch. 4; 1999a: ch. 3).
أ. 3. الوجود، والهوية، والوعي
يمكننا أن نجد أهمّ المفاهيم، من الناحية الإبستيمولوجية، فيما حدّدته راند بتسمية المفاهيم “البديهية” (والبديهيات نفسها ثانوية، لأنّها تعبيرات قضوية للمفاهيم الموافقة، وهي بدورها غير قضوية). والمفاهيم البديهية الثلاثة التي تحظى بالقسم الأكبر من اهتمام راند هي: (الوجود، والهوية، والوعي)؛ وهي تخبرنا بأنّ هذه المفاهيم الثلاثة تبطّن المعرفة بأكملها، ولا يمكن رفضها دون الاعتماد عليها أثناء محاولة الرفض؛ وهي، بخلاف المفاهيم المعتادة، غير قابلة للتعريف (إلّا زعمًا)، وذلك لأنّه ليس هنالك بعدها أيّة مفاهيم رئيسية يمكن الاستناد إليها في تعريفها، بل إنّ البديهيات التي تستخدم للتعبير عنها غير قابلة للبرهان أيضًا، لأنّها مفترَضة مسبقًا في كلّ البراهين (Rand ITOE; Peikoff 1991).
يعرَّف مفهوم الوجود بأن وجود الشيء الموجود هو حقيقة أساسية غير قابلة للجدل؛ وإذا أردنا الحصول على سبب أو تفسير لوجوده غير (لا شيء) فهذا يعني ارتكابنا لخطأ في فهم موقع الوجود ضمن هرمية المفاهيم (وهذا هو أحد الأسباب التي دفعت راند لرفض فكرة الخالق الإلهي كسبب لوجود الكون؛ وعلى الرغم من أنّه يبقى مثارًا للنقاش ما إذا كان رفضها هذا صالحًا في حالة كون هذا الخالق لا يفترض به غير أن يكون مسؤولًا عن وجود أيّ شيء ما عداه هو). وتعبّر راند عن هذا المفهوم بشكل قضوي كبديهية تقول “الوجود موجود”، وهي لا تعني بها مجرّد ملاحظة تحصيل الحاصل التي تقول: “ما يوجد فهو موجود”، بل الاعتراف بأنّ شيئًا ما موجود فعلًا.
أمّا مفهوم الهوية فيحدّد حقيقة تقول بأنّ كلّ ما هو موجود يعتبر (نوعًا ما) لشيء ما؛ أي: إنّه ذو طبيعة محدّدة غير متناقضة. وهذا المفهوم (كثيرًا ما تعبّر عنه راند بشكل قضوي باسم قانون الهوية “أ هو أ”) يستتبع مفهومًا آخر هو مبدأ السببية: فبما أنّ لكلّ شيء طبيعة محدّدة، فلا يمكن لأيّ شيء أن يعمل إلّا على نحو ينسجم مع طبيعته.
وثالث المفاهيم، مفهوم الوعي، يحدّد حقيقة مفادها أنّ الوعي موجود؛ وتتّفق راند مع الرؤية الديكارتية التي ترى بأنّ المرء لا يمكنه أن ينكر بشكل مترابط منطقيًا وجود وعيه، لكنّها تخالف ديكارت في إنكارها لـ”اليقين المسبق بوجود الوعي”، أي: الفكرة التي تقول بأنّنا نستطيع أن نكون واعين بمحتوى أذهاننا دون أن نعلم ما إذا كان هنالك أيّ واقع خارج-ذهني يتطابق معها؛ إذ ترى راند بأنّه لا يمكن أن يكون هنالك أيّ محتوى ما لم يكن هنالك واقع خارجي. وتعتبر راند الوعي علائقيًا في أساسه: فأن تكون واعيًا يعني أن تكون واعيًا بشيءٍ ما خارج وعيك، أمّا وعيك بوعيك نفسه فليس له إلّا مكانة ثانوية.
وللوجود أولوية على الوعي من الناحيتين الإبستيمولوجية والميتافيزيقية معًا (والناحية الثانية تشرح الأولى): فالأولوية من الناحية الإبستيمولوجية مردّها إلى أن الوعي يجب أن يكون واعيًا بجسم محدّد قبل أن يكون واعيًا بذاته، والأولوية من الناحية الميتافيزيقية مردّها إلى أنّ الوعي هو استجابة لأجسامه ولذلك لا يمكنه أن يسبقها؛ وبهذا يجري استبعاد النظريات الميتافيزيقية المشابهة للربوبية والمثالية لأنّها، كما ترى راند، تجعل الوجود معتمدًا على الوعي.
وإنّ الحقيقة التي تقول بأنّ الوعي، كإدراك حسّي وكمفهوم، عملية معقّدة نشيطة وسببية، لا تستتبع القول بأنّها عملية خلّاقة أو مشوِّهة فيما يخص أجسامها. وترى راند بأن اقتراح ما يخالف ذلك (المطالبة بأن الوعي كي يتواصل مع الواقع لا بدّ له أن يكون منفعلًا بشكل كامل ولا يقوم بأيّ نوع من المعالجة) هو رفض للوعي على أساس واهن يرى أنّ له هوية محدّدة وأنّه يوظّف وسائل محدّدة، وهذا يعيدنا إلى ما أسلفنا ذكره: أن تكون أعمى لأنّ لك عينين، وأن تكون أصمّ لأنّ لك أذنين.
وترى راند، كما أسلفنا، أنّ حواسّنا لا يمكنها أن تخدعنا؛ وأنّنا عندما نشكّل أحكامنا المفاهيمية على أساس الدليل الحسّي فلا مجال للانخداع حينها إلّا إذا سمحنا لأنفسنا بأن نستسلم للغفلة أو التهرّب. ومن هنا فإنّ اليقين متاح لنا دائمًا؛ لكن بينما ترى راند أنّ المعرفة تتطلّب اليقين، نجدها تميّز اليقين عن العصمة: فالحكم العقلي يمكنه أن يكون (متيقّنًا)، ضمن مدى معطى من المعرفة المتاحة، حتّى وإن كان يحتاج إلى التنقيح على ضوء المعلومات الجديدة. ويفسّر پيكوف ذلك بأنّ راند تعتقد بأنّه ما دام هنالك مؤهِّل سياقي يُفهَم وجوده الضمني في الأحكام العقلية للمرء وفي كلّ مرحلة (مثلًا: “إلى الحدّ الذي يمكن تحديده في ضوء المعرفة الحالية…”) فإنّ الأحكام العقلية المنقّحة لا تحتاج إلى التناقض مع الأحكام الأصلية (Peikoff 1991). لكنّ هذه الفكرة تنطوي على إشكالية، وراند نفسها لم تدلِ بأيّة عبارة بهذا المعنى.
إن راند ترفض كلًّا من الدوغمائية (التشديد على المعرفة والمطالبة بالموافقة عند غياب الدليل الكافي سياقيًا) والشكوكية (إنكار المعرفة، أو المطالبة بالإحجام عن الموافقة، عند غياب الدليل الكافي سياقيًا)؛ وكذلك ترفض الغيبوية (بمعناها الذي تدّعي به نمطًا من المعرفة غير عقلاني وغير حسّي) باعتبارها نوعًا من أنواع الدوغمائية؛ فالمحدّد الرئيسي والنهائي للاعتقاد يجب أن يكون تطبيق المنطق، أي: “فنّ التعريف غير المتناقض”، على البيانات الحسّية.
أ. 4. ميتافيزيقا الطبيعة البشرية
إن فهم راند لدور الميتافيزيقا يتّصف بأنّه على درجة كبيرة من الأدنوية (minimalist)، فمهمتها هي: التحرّي بشأن الميّزات الأعمّ للوجود كما هي (“الوجود كوجود” بحسب تعبير أرسطو). ولهذا فإنّ قدرًا كبيرًا من التحرّي الميتافيزيقي التقليدي بشأن الميّزات المحدّدة للكون وعناصره تعتبره راند خليقًا بأن يدخل ضمن حقل العلوم الخاصّة، لا الفلسفة. وبالإضافة لهذا، وانسجامًا مع اعتقادها بأنّ الكثير من المسائل المركزية في فلسفتها تعتمد على ظاهرات يقضي الفهم المناسب بأنّها موضوعية، وليست جوهرية، فإنّ راند تميل إلى إسناد دور أوسع للإبستيمولوجيا بالمقارنة مع الميتافيزيقا؛ إذ ترى راند بأنّ الميتافيزيقا تخبرنا بأنّ الكيانات ذات طبائع محدّدة، والإبستيمولوجيا تخبرنا بكيفية تحرّي هذه الطبائع، والعلوم الخاصّة تقوم حينها بإجراء التحرّي الفعلي.
وعلى الرغم من ذلك، فإنّ راند تتّخذ موقفًا في عدد من المسائل الميتافيزيقية الأكثر تحديدًا من أولوية الوجود على الوعي أو أولوية الكيانات على الخصائص. وعلى سبيل المثال: تنكر راند إمكانية اللانهايات المتحقّقة (في مقابل اللانهايات المحتملة، بالمعنى الأرسطي للعمليات التي يمكن الاستمرار بها دون نهاية) وذلك انطلاقًا من أنّ بديهية الهوية تتطلّب من كلّ قدرة أن تكون ذات مدى محدّد قابل للقياس. ومن الجانب الآخر، تصرّ راند على أنّ اعتبار الوجود ذا طبيعة رئيسية لا جدال فيها فليس من المجدي بعدها أن نفكّر بالواقع ككلّ باعتباره داخلًا في الوجود أو خارجًا منه؛ فالكون حقيقة رئيسية لا يمكن خلقها أو تدميرها، وكان موجودًا دائمًا. وليس من الواضح ما إذا كانت راند تعتقد بأنّ الكون قديم بلا حدّ (وهو موقف قد يبدو أنّه لا يتلاءم مع إنكارها للانهايات المتحقّقة، على الرغم من أنّ أرسطو كان يعتقد بهذا الخليط من الرؤى)، أم أنّها كانت تعتقد فقط بأنّ الكون لم تسبقه مدّة زمنية من العدم (وهو ادّعاء ينطوي على شيء من التميّز إذا اعتقد المرء، كما هو حال راند، بأنّ مرور الزمن يقتضي التغيّر).
لكنّ معظم الأطروحات الميتافيزيقية الأكثر تحديدًا لدى راند هي التي تتعلّق بطبيعة نمط واحد بعينه من الكيانات: البشر. إذ تعتبر راند البشر، وبالفعل: كلّ الكائنات الحيّة عمومًا، منظومات مرتّبة غائيًا، على الرغم من أنّ غائيتها تأخذ شكلًا مطبَّعًا لا يحمل دلالة رئيسية للغائية؛ وتتلخّص رؤية راند في أنّ الكائنات الحيّة تعتمد في وجودها على النجاح في القيام بنشاطات الصيانة الذاتية (بوعي منها أو دون وعي)، ولذلك فلا بدّ لها من الانتظام حول هدف تعزيز وظائفها الحيوية. وترفض راند كلًّا من ثنائية المادّة (substance dualism) والمادّية الاختزالية (reductive materialism)، إذ تعتقد بأنّ الإنسان وحدة مدمجة من الذهن والجسد، فهو كيان موحّد ذو مميّزات ذهنية لا يمكن فصلها عن المميّزات الجسدية ولا يمكن فصلها عنها كلّيًا (ومن غير الواضح ما هو المصطلح الأفضل الذي ندعو به رأي راند هذا: ثنائية الخاصّية (property dualism)، أو الجسدانية اللااختزالية (nonreductive physicalism)، أو غيرهما).
وإنّ الوعي ليس ظاهرة مصاحبة، بل هو مؤثّر على نحو سببي، أو يمكن القول بشكل أدقّ: إن البشر مؤثّرون على نحو سببي بفضل امتلاكهم للوعي (من بين عوامل أخرى)؛ ونحن نعلم هذا بمقتضى التجربة المباشرة. وعلاوة على هذا، فبينما يحدث الإدراك الحسّي بشكل آلي، فإنّ عمل الوعي على مستوى الإدراك الحسّي لا يخضع للضرورات السببية. وإنّ من البديهيات: الواقع اللاتوافقي للإرادة الحرّة؛ وذلك لأنّ الأدوات المفاهيمية اللازمة لمساءلة واقعها تفترض مسبقًا سلطتنا الإرادية على عملياتنا الفكرية، وبالأخصّ: قدرتنا على رفع أو خفض مستوى التنبّه الذهني لدينا، نظرًا إلى أنّ قدرتنا على المحاكمة العقلية لصوابية التفكير تفترض مسبقًا أن لا يكون تفكيرنا موجّهًا بعوامل تتجاوز معارفنا وسيطرتنا (N. Branden 1971).
والخيارات الحرّة ليست دون سبب، انطلاقًا ممّا تعتقد به راند من أنّ الأفعال (بشكل عامّ، دون الاقتصار على أفعال البشر) تستمدّ أسبابها، لا من الأحداث السابقة لها، بل من طبيعة الكيانات المنخرطة فيها. بل إنّ هنالك طرح تصبح الخيارات الحرّة بموجبه من الضرورات، وبالتحديد: من الضروري للبشر، نظرًا لطبيعتهم ككائنات عقلانية واعية، أن يتّخذوا خيارات حرّة، على الرغم من أنّه ليس من الضروري أن يختاروا أمرًا دون آخر.
لكنّنا إذا ابتعدنا عن ميدان الخيار البشري نجد راند تعتبر كلّ الحقائق والأحداث بمثابة ضرورات و”معطيات ميتافيزيقية”؛ ويبدو أنّ راند تعتبر موقفها هذا نتيجة طبيعية لأولوية الوجود، على الرغم من أنّه ليس من الواضح، إذا أخذنا بعين الاعتبار استثناء راند للخيار البشري، السبب في أنّه لا يمكن أن يكون هنالك كيانات من النوع الذي تقضي طبيعته بأن يسلك سلوكًا احتماليًا، كما نصّت عليه الكثير من تفسيرات الفيزياء الكمّية (على العكس من ذلك، فإنّ الرؤية المميّزة التي تقول بأنّ “الحالة الراهنة” للجسيم الكمّي ذات طبيعة احتمالية تتناقض بوضوح أكبر بكثير مع أولوية الوجود).
بيبليوگرافيا
أعمال راند
1943, The Fountainhead, Indianapolis: Bobbs-Merrill.
1953, Anthem, (1st ed. 1938), Caldwell, Idaho: Caxton Printers.
1957 [1992], Atlas Shrugged, New York: Random House; 1992, 35th Anniversary edition, New York: Penguin Books USA Inc.
1959, We the Living, (1st ed. 1936), New York: Macmillan.
1961a, For the New Intellectual: The Philosophy of Ayn Rand, New York: New American Library.
1961b, “The Objectivist Ethics”, in Rand 1964a: 13–39. [Rand 1961b available online]
1961c, “America’s Persecuted Minority: Big Business”, in Rand 1967a: 44–62.
1962a, “The ‘Conflicts’ of Men’s Interests”, Objectivist Newsletter (August), Rand 1982b, reprinted in Rand 1964a: 57–65.
1962b, “The Monument Builders”, Objectivist Newsletter (December), Rand 1982b, reprinted in Rand 1964a: 100–107.
1963a, “The Nature of Government”, Objectivist Newsletter (December), Rand 1982b, reprinted in Rand 1964a: 125–134, and Rand 1967a: 329–337.
1963b, “Man’s Rights”, Objectivist Newsletter (April), Rand 1982b, reprinted in Rand 1964a: 92–100, and Rand 1967a: 320–328. [Rand 1963b available online]
1963c, “The Ethics of Emergencies”, Objectivist Newsletter (February), reprinted in Rand 1964a: 43–49.
1963d, “Collectivized ‘Rights’”, Objectivist Newsletter (June), reprinted in Rand 1982b, reprinted in Rand 1964a: 118–124.