نظرة تأريخية و علمية ... للشر !
لماذا يتصرف الانسان في بعض الاحيان بصورة فاضلة و اخلاقية وفي حالات اخرى يكون قادرا على ارتكاب افظع الجرائم ؟
سؤال حاولت المدارس الفكرية و الدينية الاجابة عليه منذ بدء التاريخ .
قصة المهندس النمساوي جوزيف فريتزل ( في الصورة ) الذي احتجز بنته و اغتصبها في قبو منزله لمدة 25 سنة .. او قصة الامريكية تشاينا ارنولد التي قامت بقتل طفلتها الرضيعة بوضعها في فرن المايكروويف ... و قصص الحروب و التعذيب التي تغطي كافة ارجاء الارض ... امام كل هذه القصص تتبادر الى الذهن اسئلة في غاية الاهمية : ما هو الشر ؟ لماذا هو موجود ؟ هل الانسان شرير الى هذا الحد ؟ و لماذا ؟
الاجابات مختلفة لكنها ليست مقنعة دائمة ... بعض الفلاسفة كسقراط يرون ان الشر هو مجرد الجهل و عدم القدرة على فهم ماهية الخير ... اما بالنسبة لأخرين مثل هيغل ... فالشر هو الجانب الاخر للخير , وجه لا مفر منه و لا بديل عنه ... اديان كثيرة تتحدث عن الشر المطلق الذي هو فوق العالم الطبيعي الذي نعرفه : انه الشيطان !
ورغم وجود الالهة العادلة و الرحيمة في الاديان ... لكنهم يختلفون عندما يسئلون : لماذا يوجد هذا الشيطان ؟؟ لماذا الكون ليس خيرا بالمطلق ؟
تعريف الشر المتوافق عليه بين الجميع هو انه نقيض الخير , اي انه كل ما لا يرغبه احد ... اما البحث عن جواب اكثر دقة فهذا سيدخلنا في خلافات معقدة ... لماذا ؟ لنأخذ مثلا القتل حيث انه تمثيلا فعليا للشر بنظر الكثيرين ... لكنه كان ضروريا لوضع حد لطموحات هتلر المجنونة مثلا ... و كذلك هؤلاء الذين ينتحرون بأسم الجهاد بتفجير انفسهم وقتل الناس ماهو بالنسبة لهم الا جهاد مقدس .
اليوم علماء النفس و الاجتماع و الايثولوجيا ( السلوك الحيواني ) و التطور البيولوجي يعملون على دراسة الشر بصورة اكثر واقعية دون ان يتوقعوا الوصول الى تعريف كلي شامل ... بل من اجل التوصل الى سبب وجوده ... الطب اخبرنا ان اشكالا عديدة من التصرفات العنيفة من الممكن عزوها الى حالات نفسية عنيفة .
عالم الايثولوجيا النمساوي ايبل ايبسفيلت Eibl Wibesfeldt من معهد ماكس بلانك و مؤسس الفرع العلمي ( الايثولوجيا البشرية ) يرى ان الخير و الشر , الايثار و الانانية كتصرفات غريزية في الانسان كانت نتاجا للتطور البيولوجي خلال ملايين السنين : وهو صراع مستمر بين غريزة التملك و الدفاع عن المجال الحيوي ( Territory ) لذلك الانسان من جانب و بين غريزة التعاون مع الاخرين من جانب اخر .
لماذا يوجد الايثار ؟
يقول البروفيسور ستيفن هارند Steven Harnad الباحث في جامعة كيبك في مونتريال : ( كي يكون الايثار موجودا ... يجب ان تكون الحاجات الاساسية للأنسان كالماء و الطعام و المسكن و الجنس ... الخ مشبعة )
لهذا نرى ان مجتمعات اوروبا الشمالية ( الاسكندنافية مثلا ) حيث ان هناك توزيع عادل للثروة وظروف رفاهية افضل , لا يعانون من الظلم ويوجد شر اقل ... في حين ان الدول التي تشح بها الثروات و المصادر و تزيد بها الكثافة السكانية يكون فيها ظلم اكثر و انعدام للمساواة مثل اكثر دول العالم الاخرى .
ووفقا لما كتبه تشارلز داروين في كتابه اصل الانواع عام 1851 : ( القبيلة المتكونة من عدة افراد مستعدين لتقديم العون لبعضهم و التضحية بأنفسهم لأجل المصلحة العامة ستكون منتصرة على بقية القبائل )
اذن فأن الانتخاب الطبيعي Natural Selection تفضل بقاء و استمرارية كل عضو من تلك القبيلة و سلالته على افراد اخرين قرروا العيش بشكل منفرد .
وجهات نظر
هل من الممكن القول ان الشر مسالة نسبية ؟ من يرتكب اعمالا شريرة يؤمن بأنه عمل خيرا بها ؟ البعض قد يرفض هذه الفكرة , لكن اذا اخذنا عددا من الامثلة حول هذا الموضوع فستتضح صحته :
1- عندما وقعت احداث الحادي عشر من سبتمبر ... وصم الغرب ماحدث بالشر المطلق , لكن مرتكبوا الجريمة امنوا بأنهم سيذهبون للجنة و فعلوا ما فعلوا لأجل خير الامة الاسلامية .
2- ما قامت به الولايات المتحدة في العراق و افغانستان اعتقد الغرب به بأنهم يجلب الخير لمواطني تلك الدول , لكن برأي الاخرين فأن الغزو و نواتج من انفلات امني و خطف و قتل ... الخ كلها نتاج شر مطلق .
3- في بعض الاحيان حتى الشخص او المجموعة التي ارتكبت شرا ما تعود لتتسائل عن المنطق الذي جعلها تفعل ما تفعل معتقدة انه كان خيرا وقت ارتكابه .
معتقدات عن الشر
يقول الدكتور روي بوميستر Roy Baumeister استاذ علم النفس في جامعة فلوريدا : ( ما يتوجب علينا معرفته اولا هو اننا جميعا قادرين على ارتكاب امور قد يراها الاخرين شريرة , وحشية , و عنيفة ... فهذا يعتمد على الظروف المحيطة التي تسمح لنا بتفسير الاحداث ) .
هناك امور كثيرة يسود اعتقاد بصحتها في حين انها غير صحيحة , و هذا عدد منها :
1- ليس صحيحا ان من يرتكب امورا شريرة يفعل ذلك دائما برغبته و بصورة متعمدة , ربما هكذا يبدو الامر بالنسبة للضحية , لكن للمتسبب بالشر فهناك دائما عذر مقبول و مبرر منطقي .
2- ليس صحيحا ان هناك من يرتكب امورا شريرة لمجرد شعوره بمتعة ارتكابها فهناك دائما سبب يدعوه لذلك لذا ليس هو حب الشر بحد ذاته .
3- ضحية الشر ليست دائما بريئة و خيرة ... ففي حالات كثيرة الضحية ترتكب امورا تؤدي الى ردود فعل شريرة و تجعل الجاني مقتنع تماما ان ما يقوم به له ما يبرره .
4- الشر ليس حكرا بالانسان كما تدعي بعض المعتقدات ... فهو موجود بالمملكة الحيوانية ايضا .
طاعة عمياء !
في عام 1963 قام العالم النفساني ستانلي ميلغرام Stanley Milgram بنشر اعلان في جريدة يومية طالبا عدد من المتطوعين لتجربة علمية خاصة بالفهم و الادراك , لكن ما اراده ميلغرام فعلا كان معرفه الحد الذي يمكن ان يصله اي شخص في اطاعته للأوامر من سلطة عليا بأرتكاب اعمال شريرة .
كان على المشاركين ان يستمعوا الى اسئلة توجه الى اشخاص موجودين في غرفة مجاورة ( معزولة عن غرفتهم لذا لا يمكن رؤيتهم لكن يمكنهم سماعهم ) ثم الاستماع الى اجاباتهم , ففي حالة تقديم شخص ما لجواب خاطيء توجب على المتطوع ضربه بتيار كهربائي تتزايد قوته مع الاجابات الخاطئة حتى الـ 420 فولت .
مع ان المتطوعين يمكنهم سماع صراخ الأخرين ( صراخ مصطنع ... فالاشخاص الاخرين ليسوا موصولين بالكهرباء في الحقيقة ) الا انهم واصلوا صعق الأخرين بالكهرباء دون التفكير بعواقب هذا ... لم يكن هؤلاء الاشخاص اشرارا ... بل فقط كالكثير من الناس يمثل الاوامر دون التفكير بالعواقب .
لماذا الشر ؟
لا يوجد اي شخص لا يرى نفسه شريرا على الاطلاق .. كل من يرتكب شرورا ( من وجهة نظرك ) قام بها لوجود اسباب مشروعة و منطقية ( من وجهة نظره ) وفقا لرؤية استاذ علم النفس في جامعة ستانفورد البيرت باندورا Albert Bandura , ربما يكون السبب هو ان القواعد الاخلاقية لدى الانسان ليست ثابتة و عميقة كما نعتقد . فالأنسان ارتكب في الماضي اعمال مريعة لغرض بقاؤه على قيد الحياة متجاهلا هذه القواعد .
من جانب اخر .. و من اجل البقاء ايضا , فقد كان ضروريا اظهار العدو بمواصفات الشرير لتحريك المشاعر المزروعة داخلنا و التي نرغب بها ان نكون خيرين حتى عندما نتجه للحرب لقتل الأخرين , و لأظهار العدو بهذه الصورة فهناك حاجة الى اله دعائية تحرك مشاعر افراد القبيلة , المدينة او الدولة .
في حقيقة الأمر ... قد تكون تلك الروايات المختلفة عن اصل الشر و منبعه الرئيسي مجرد اسلوب ابتدعه الانسان مع بدء تاريخه ليرمي مسؤولية افعاله ( التي لا يرضى ضميره عنها عندما ينطر الى مرآة نفسه ) على قوة سفلية سماها الشيطان او العفاريت او وساوس العالم الاخر .
لكن مايجب على الانسان فعله هو البدء بتحمل نتائج افعاله بنفسه و النظر الى الأخرين كأفراد مماثلين له مهما اختلفت افكارهم و معتقداتهم و تاريخهم و لغتهم
منقووووووووووووووول
رد مع اقتباس
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ميرزا حسين المنذري
