دعاء اليوم السابع عشر من ايام شهر رمضان الكريم
(اَللّـهُمَّ !.. اهْدِني فيهِ لِصالِحِ الأعْمالِ ، وَاقْضِ لي فيهِ الْحَوائِجَ وَالآمالَ ، يا مَنْ لا يَحْتاجُ إلى التَّفْسيرِ وَالسُّؤالِ ، يا عالِماً بِما في صُدُورِ الْعالَمينَ ، صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ الطّاهِرينَ).
- (اَللّـهُمَّ !.. اهْدِني فيهِ لِصالِحِ الأعْمالِ...) :
في دعاء هذا اليوم الإنسان المؤمن يطلب من الله عزوجل ، أن يجعله في طريق العمل الصالح.. إذ من الخسارة العظمى أن إنساناً يعيش عمراً في هذه الدنيا ، ويندثر ذكره بموته ، وكأن هذا الإنسان إذا لم يخلق !.. وهو قد خلق ، وذهب من هذه الدنيا لا أثر له في عالم الوجود !.. كم من الخسارة أن يذهب هذا الإنسان من هذه الدنيا ولا يترك علماً ينتفع به ، ولا ولداً صالحاً يدعو له ، ولا صدقة جارية ينتفع بها بعد موته !..
ومن المعلوم أن هناك بعض صور من الصدقات الجارية في مكة والمدينة ومشاهد الأئمة (ع) ، قام بها أناس ذو حظ قليل من العلم ، أناس لم يتوقع منهم هذه الخلود ، ولكن الله عزوجل أراد أن يبارك لهم في ذلك ، ويجعلها لهم من الباقيات الصالحات ، كما قال تعالى : {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}.. إن المؤمن يطلب من الله عزوجل أن يكتب له هذا الخلود.. فهذه هي الحياة الاقتصادية المثلى !.. وهذا هو المستثمر الواقعي !.. كم من الجميل الإنسان في قبره يتحسر على حسنة بسيطة ، وعلى ركعتين ، وعلى كلمة لا إله إلا الله ، وإذا بأفواج الحسنات تنهمر عليه في قبره من دون أن يلتفت إلى ذلك !.. صاحب كتاب هذا الدعاء -مفاتيح الجنان- إنسان مات قبل عشرات السنين ، ولكن لا يخلو منه بيت مؤمن ، في حج ولا عمرة ، ولا شهر رمضان ولا موسم عبادي ، إلا وهو بجانب المؤمنين.. كم هذا الخلود الذي كتب لأمثال أصحاب هذه الكتب من الشخصيات التأريخية قبل مئات السنين : كالكليني ، والطوسي ، والمفيد ، والمرتضى ، والرضي... هذه الأعلام التي لم تمت في التأريخ..
ومع فرض أن المؤمن لم يوفق في جانب العلم ، فماذا عن جانب العمل الصالح ؟.. أن يفكر في صدقة جارية.. وقد ورد عن الرسول الأكرم (ص) : (مَن بنى مسجداً - ولو مفحص قطاة (موضع الطير)- بنى الله له بيتاً في الجنّة) .. إن الإنسان عليه أن يسعى ويفكر ويبذل جهده في هذا المجال ، ويطلب من الله عزوجل التسديد ، وأن يجري على يديه ذلك ، كما يقول الإمام السجاد (ع) في دعاء مكارم الأخلاق : (وأجر للناس على يديّ الخير).
- (وَاقْضِ لي فيهِ الْحَوائِجَ وَالآمالَ ...) :
ينبغي للإنسان المؤمن أن يرتب الأولويات في حوائجه.. ومع الأسف الإنسان عندما يذهب إلى بيت الله الحرام ، أو إلى مشهد من المشاهد العظام ، وعندما يرزق حالة من الرقة المعنوية ، من دون أن يشعر ، فإنه يفكر في أموره الفانية : في ضيق المعيشة ، وفي صحة البدن ، وفي خلاص السجين ، وفي السلامة من الآفات... ولا يفكر فيما هو أعظم من ذلك !..
ومن المعلوم أنه في يوم الحشر تتجلى كرامة الزهراء (ع) بما يذهب بالعقول والألباب.. إن الزهراء (ع) عاشت في هذه الدنيا ، عيشة قلما عاشتها امرأة في التأريخ ، من الضيق والشدة ، ومن هنا فرب العزة والجلال -الباري عز اسمه- يريد أن يكمل إحسانه في حق فاطمة (ع) ، ويعطيها ما يرضيها حقيقةً.. يقال لها : يا فاطمة تمني !.. الآن دار الآخرة.. عالم كن فيكون.. فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين.. يا فاطمة !.. تمني ما تريدين ؟.. ما هو الجواب ؟.. فاطمة (ص) -فدتها نفوسنا- تقول : يا رب، أنت المنى وفوق المنى !..
ورد في حديث عن الرسول الأكرم (ص): أنه إذا أقبلت مولاتنا فاطمة (ع) يوم القيامة، فإن الله عز وجل يوحي إليها:
يا فاطمة!.. سليني أُعطكِ، وتمنّي عليّ أُرضك، فتقول: إلهي أنت المنى وفوق المنى، أسألك أن لا تعذّب محبّي ومحبّي عترتي بالنار، فيوحي الله إليها: يا فاطمة!.. وعزّتي وجلالي وارتفاع مكاني، لقد آليت على نفسي من قبل أن أخلق السماوات والأرض بألفي عام، أن لا أعذب محبيّك ومحبّي عترتك بالنار.
الزهراء (ع) لم تطلب جنة ، ولا رضواناً ، ولا شفاعة ، ولا انتقاماً من أعدائها من أول الأمر ، وإنما تقول : يا ربي، أنت المنى !.. أنت مناي !.. أنت إذا وصلت إليك فكما يقول إمامنا الحسين (ع) : إلهي !.. ماذا وجد من فقدك ، وماذا فقد من وجدك ؟!..
لماذا لا نتأسى بفاطمة في هذا الطلب العميق ؟.. أن نطلب الله عزوجل برضوانه ، وبتجلياته ، وبعناياته الخاصة ، وبأنواره الخاصة ؛ وهو يعلم كيف يتصرف مع العبد.. إذن، لنرتب سلم الأولويات.. ولنتأسى بإمامنا الحسين (ع) الذي يقول في دعاء عرفة : (أَسأَلُكَ اللّهُمَّ حاجَتِي !.. الَّتِي إِنْ أَعْطَيْتَنِيها لَمْ يَضُرَّنِي ما مَنَعْتَنِي ، وَإِنْ مَنَعْتَنِيها لَمْ يَنْفَعْنِي ما أَعْطَيْتَنِي).
- (يا مَنْ لا يَحْتاجُ إلى التَّفْسيرِ وَالسُّؤالِ...) :
البعض منا يدعو ويعين التكليف لرب العالمين ، ويقول : يا رب، أسألك كذا ، بشرط كذا ، بهيئة كذا ، بكيفية كذا !.. ما لك وللتفسير !.. وقد ورد في مضمون الحديث : (عبدي ادعني، ولا تعلمني !).. إن الإنسان مأمور بالدعاء ، ولكن لا ينبغي أن يملي على الله عزوجل ويعلمه كيف يستنقذه !.. ولهذا إبراهيم (ع) -كما نعلم أنه رمي بالمنجنيق في النار الكبرى- هل خطر في باله أن النار ستتحول إلى برد وسلام ؟.. هو سلم أمره إلى الله عزوجل وحده ، ورفض مساعدة الملائكة ، فجاءه الفرج الإلهي.
أمر نمرود بجمع الحطب في سواد الكوفة عند نهر كوثا من قرية قطنانا ، وأوقد النار فعجزوا عن رمي إبراهيم ، فعمل لهم إبليس المنجنيق فرُمي به ، فتلقاه جبرئيل في الهواء فقال : هل لك من حاجة ؟.. فقال : أمّا إليك فلا ، حسبي الله ونعم الوكيل ، فاستقبله ميكائيل فقال: إن أردت أخمدت النار ، فإنّ خزائن الأمطار والمياه بيدي ، فقال: لا أريد ، وأتاه ملك الريح ، فقال : لو شئت طيّرت النار ، قال : لا أريد ، فقال جبرئيل : فاسأل الله !.. فقال : حسبي من سؤالي علمه بحالي.
قال تعالى : {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}.. {لَا يَحْتَسِبُ} : أي من حيث لا يخطر بباله يأتيه الفرج ، ولكن بشرط التقوى.
- (يا عالِماً بِما في صُدُورِ الْعالَمينَ ...) :
الإنسان له حوائج ، وقد لا يبدي بعض هذه الحوائج ، ولكن هو سبحانه وتعالى أعلم بعباده ، وبما يصلحهم من أمور الدنيا والآخرة.. إذن، من آداب الدعاء بين يدي الله عزوجل : أن نطلب الأمر ، وثم نفوض الأمر بتمامه وكماله إلى المولى العليم بالسرائر ، إنه سميع مجيب.
منقـــــــتول للفائدة