أهمية الكتابة في الإسلام
ليس من قبيل المصادفة البحتة أن يكون ذكر القلم والكتابة في أول أيات تنزل من القرآن الكريم على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال الله تعالى:﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ • الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ [العلق: 3، 4] وأقسم سبحانه وتعالى بالقلم فقال: ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ [القلم: 1]، وأقسم بالكتاب ﴿وَالطُّورِ • وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ﴾ [الطور: 1، 2] وفي محكم التنزيل آية كبيرة تُسمَّى بآية الدَّين؛ وهي آيةٌ تحثُّ على الكتابة والتوثيق للدين، لقد جمع الخليفة عثمان رضي الله عنه المصحف الشريف وأرسل نسخًا منه إلى الأمصار مع القُرَّاء، فأقبل المسلمون على هذه المصاحف بحبٍّ وشغف، وتنافسوا في نسخها وتحسين صورة كتابتها وتنميق حروفها، وفي هذه المرحلة خلت المصاحف العثمانيَّة من النقط والشكل نظرًا إلى استغناء العرب في هذه المرحلة عنهما، و-أيضًا- ليشمل النصُّ القرآني جميع القراءات المتواترة.
مظاهر الاهتمام وتطوير الكتابة العربية
وقد كتب المسلمون الحروف العربيَّة كما هي؛ حيث إنَّها مرتبطة باللغة العربيَّة بروابط قويَّة لا فِكَاك منها، كما لها روابط وشيجة باللغات السامية، وعندما فشا اللحن بدخول الأعاجم في الإسلام طرأت إصلاحات الشكل والنقط للحفاظ على سلامة اللغة العربية، ويُعزى إلى أبي الأسود الدؤلي وضع نقط الشكل في المصحف، ثم إلى يحيى بن يعمر ونصر بن عاصم الليثي إدخال نقط الإعجام، ويستبعد القلقشندي أن يكون الإعجام غير معروف إلى هذا الزمان، وقد سبق أن كان للسريان والعبرانيِّين نقط لكتاباتهم، فلقد التزم العرب تقليل صور الحروف المفردة، فكانت تسع عشرة صورة، وقال القلقشندي معلِّلًا: وقصدوا بذلك الاختصار. ويبدو أنَّ النقط كان معدومًا أو قليلًا وذلك لمعرفة العرب للغتهم بالسليقة.
انتشار اللغة العربية
لقد انتشرت الكتابة العربيَّة بين المسلمين وشاعت مع الفتوحات الإسلامية، وتقبَّلتها البلدان المفتوحة مع الدين الإسلامي في مشارق الأرض ومغاربها، وهجرت كتاباتها المحلِّيَّة، وكان أوَّل خروجها من شبه الجزيرة في خلافة عمر رضي الله عنه مع الفتوح الإسلاميَّة، وأوَّل استخدامها بأصولها الأولى التي احتفظت بها بالرسم النبطي في كثيرٍ من صور الكلمات في تدوين المصحف في خلافة عثمان، وأول الافتنان والابتكار فيها في الكوفة في خلافة علي رضي الله عنه، وبعدها أوَّل اختراع الأقلام التي تبعد عن صورة الكوفي في خلافة بني أمية في الشام.
ابن مقلة أول من وضع أسس الخط العربي
لقد تطوَّرت مسيرة الكتابة العربيَّة بعد أن غدت خطًّا مميَّزًا على أيدي الأئمَّة الكبار من أمثال الإمام المهندس ابن مقلة؛ وهو أبو علي محمد بن علي بن الحسين بن مقلة الشيرازي، وُلِد عام (272هـ=886م)، وتُوفِّي بها (328هـ=939م)، وكان من أشهر خطَّاطي العصر العباسي وأوَّل من وضع أسس مكتوبة للخط العربي، ويُعتقد أنَّه مخترع خط الثلث، لكن لم يبقَ أيُّ شيءٍ من أعماله الأصليَّة، وإليه تُعزى نظريَّة الخطِّ المنسوب؛ أي المنسوب والموزون بنسبةٍ هندسيَّةٍ إلهيَّةٍ فاضلة قامت عليها الأرض والسماوات.
وقد عمل ابن مقلة للخلفاء العباسيين، وتولَّى الوزارة للمقتدر بالله سنة 316هـ ثم نقم عليه ونفاه إلى بلاد فارس عام 318هـ.
وهو رجلٌ بلغ في الخطِّ العربي شأنًا عظيمًا، صاحب خطٍّ حسنٍ، أبدع في هندسة حروفها، وقدَّر مقاييسها، وكان خطُّه يُضْرَبُ به المثل في عهده، فصار شيخ الخطَّاطين ومهندس صناعتهم، وأورد أبو حيَّان التوحيدي في رسالته "علم الكتابة" ما قاله ابن الزنجي: "أصلح الخطوط وأجمعها لأكثر الشروط ما عليه أصحابنا في العراق. فقيل له ما تقول في خطِّ ابن مقلة؟ قال: ذاك نبيٌّ فيه، أُفْرِغَ الخطُّ في يده كما أُوحِي إلى النحل في تسديس بيوته".
مظاهر تطور الخطوط العربية
وقد تواصلت الجهود العربيَّة في الحضارة الإسلاميَّة في تحسين الخطوط وتليين حروفها وابتكار أنواعها وتيسيير تنفيذها، حتى انتمت الكتابة إلى مراكز الدولة في العهدين الأموي والعباسي؛ لاهتمام الأمراء بالتدوين والخطَّاطين، وكان الخطُّ العربي ذا تأثيراتٍ عديدةٍ في شتَّى ميادين الآداب والفنون والعلوم، وفي نطاق الخطِّ نظمت أشعار في وصفه وقواعده ومدح أهله وهجائهم، وألَّف شعبان الأثاري ألفيَّةً عن الخطِّ، وحُرِّرت رسائل عن طرق كتابته، وألَّف الكفعمي رسالة سمَّاها "لغز القلم"، وقدَّم الخطَّاطون نماذج إبداعهم لتسجيلها في شتَّى صنوف الصناعات اليدويَّة والمباني، ناهيك عن المخطوطات والنسخ التي حفظت تراث الأمَّة العربيَّة، وانبهر الغرب بالخطِّ العربي منذ اتِّصاله بالحضارة الإسلاميَّة عن طريق الأندلس وصقلِّيَّة والحروب الصليبيَّة.
دار الإفتاء المصرية