الشاعر الكوردي شيركو بيكه س : أنا طفل خجول صعب الاحتمال

عندما دعا القائمون على الملتقى الثاني للشعر في القاهرة، الذي نظمته وزارة الثقافة ، الشاعر الكوردي شيركو بيكه س، لم يكونوا على علم بمدى الشعبية التي يحظى بها شيركو وسط الشعراء الشباب، الغريب أن بيكه س ترك مؤتمر وزارة الثقافة، وفوجئ به الشعراء الشباب يقف بينهم في مؤتمر المستقلين واندهشوا بشدة من هذه اللفتة الكريمة منه، وعندما طلبوا أن يسمعوا شعره وجدوا منه ترحيباً كبيراً ، ولفت نظري أثناء انتظاره لدوره في إلقاء شعره أنه بمجرد ذكر اسمه ينتبه الجميع ويتركون ما في أيديهم ويبحثون عنه بدون انتظار يقدمون له أنفسهم، المفاجأة أن معظم الشعراء الذين لم يصدقوا أنفسهم أنهم يقفون أمام شيركو بيكه س ليسوا مبتدئين ولا صغاراً، بل هم شعراء كبار لهم أسماؤهم، حتى لو كانوا مازالوا يحملون صفة الشباب مثل الفلسطيني ماجد أبو غواش والعراقي وسام هاشم، ومن المصريين عاطف عبد العزيز، ياسر الزيات، فارس خضر، وغادة نبيل، وبرغم ما يبدو عليه بيكه س من شموخ واعتزاز شديد بالنفس يصل إلى حد الغرور، فبمجرد أن يمدحه الشباب، يتحول إلى طفل خجول يذوب من الإطراء، حول شعره وحياته وعلاقته بالقضية الكوردية كان لنا هذا الحوار مع الشاعر الكوردي شيركو بيكه س.
* لاحظت أن هناك حفاوة شديدة، واستقبالا غير عادي لك خاصة من الشعراء الشبان، فهل كنت تتوقع كل هذه الحفاوة ؟
- كنت أتوقع ذلك، ولكن ليس بكل هذا الود والدفء، حتى الأمسية الأولى في المجلس كانت جيدة، واللجنة العليا لم تتوقع أن قصائدي على هذا المستوى، وأنا أكره أن أمتدح نفسي، ولكن أسعدني هذا الاهتمام، من الأدباء والشعراء والمتلقين العاديين.
*لماذا تكتب شعرك باللغة الكوردية، هل بينك وبين اللغة العربية عداء ما ؟
-لا، ليس عداء، فقط أنا أكتب بلغتي الأم، وهي اللغة الوحيدة التي أستطيع التواصل معها، وأعبر بها عن إحساسي، ولا تستطيع أي لغة أخرى أن تمنحني هذا الثراء بكل ما تحمل من تراث وأساطير، رغم أن لغتي العربية لا بأس بها، خاصة في الكتابة، ولكني لا أعتمد على ذلك، وقام بعض الأصدقاء الذين هم في الأساس أدباء قاموا بترجمة أشعاري من الكوردية إلى العربية، ولكن هذا لا يمنع أن هناك العديد من الترجمات الرديئة، وأحيانا لا أعرف قصائدي، وأتصور بعد ترجمتها أنها قصائد غيري.
* إذا كانت لغتك العربية لا بأس بها، وتعاني من الترجمة الرديئة، فلماذا لا تترجم قصائدك بنفسك ؟
- هذا ليس عملي، والترجمة ليست فقط معرفة باللغة، ولكن لا بد أن يكون هناك نوع من التواصل الثقافي، وأنا حريص على مراجعة القصائد بعد ترجمتها، لكي أطمئن أنهم استطاعوا توصيل الفكرة، وروح النص، ولا أريد أن أدخل في هذه التفاصيل، ومن وجهة نظري أن الترجمة، أي ترجمة تفقد النص الكثير من جمالياته وروحه وتصير باهتة، لأن الكلمات هي التي بنيت عليها القصيدة، أي قصيدة، فمثلا هناك كلمات في لغة ما موسيقية، وحينما تترجم تفقد موسيقاها.
*هل تشعر أن الترجمة إلى اللغة العربية تفقد شعرك جمالياته؟
- ليس كلها، ولكن يفقد جزء منها، ولكن لا مفر، ولا يوجد طريق اخر، فالترجمة هي الطريق الموصل للاخر، والتراث العالمي وكل الاداب العالمية نقلت عن طريق الترجمة، سواء كان شعرا أم أي شيء اخر، ولكن الشعر منطقة جغرافية خاصة بعمق المشاعر والأحاسيس، وترجمة هذا العمق إلى لغة أخرى صعبة، ولأنها تعتمد على لغة مجازية، ولغة المجاز ترجمتها صعبة، بعكس لغة المنطق، وقد شبهت ترجمة الشعر مثل القبلة من وراء الزجاج، وأيضا الفرق بين الكتابة باللغة الأم والترجمة كالفرق بين الوردة الطبيعية، والوردة الصناعية.
* يعتبرك الكثير من النقاد المؤسس الحقيقي لحداثة القصيدة النقدية فهل هذا صحيح ؟
- لا، هذا غير صحيح، ولا أستطيع أن أنسب هذا إلى نفسي، وحسب التسلسل التاريخي هنالك النهضة الأولى للحداثة في الشعر الكوردي ما بين الحربين العالميتين؛ الأولى والثانية على يد عبد الله جوران، وهو يمثل رأس الجسر المهم بالنسبة لحركة التجديد في الشعر الكوردي، ولماذا جوران، لأنه شاعر حسي، ونستطيع أن نقول شاعر يعتمد على اللغة الجديدة الكوردية، وخرج على بعض التقاليد الشعرية، ومنها بعض العروض العربية التي ظلت تستخدم طويلا، ورجع إلي الأوزان الفلكورية الكوردية، وبدأ ينظم على إيقاعها، وهو أول من أدخل الأوبريتات الصغيرة، وأول من كتب قصائد الرحلة، وكانت لغته صافية، لا تنتمي إلى الأبراج العاجية، ولكنها تقترب كثيرا من لغة الناس، ولكن بفنية عالية، واستمر هذا التجديد في الشعر الكوردي حتي وصل إلى جيلنا.
* إذن فماذا صنعت أنت وجيلك؟
- ربما استطعنا أن نتجاوز ما قدمه جوران بكثير من الأدوات الفنية الجديدة، ومزج التراث مع الحداثة، بالرجوع إلى الأساطير الكوردية واستخدامها بصورة حديثة، وتغيرت الصورة الشعرية، وأصبحت لها أبعاد كثيرة، وفي ذلك الوقت عام 1970 كان هناك نوع من الهدوء السياسي ما بين الكورد والحكومة العراقية وفقا لاتفاق ” اذار ” في أربع سنوات، تنفسنا خلالها، فأصدرنا بياننا الكوردي التجديدي لأول مرة، وهو بيان ” الروانجه”، وترجمتها العربية ” المرصد “، وأصدرنا مجلة استمرت ثلاثة أعداد ثم تغيرت الظروف وتوقفت، وهذه كانت بمثابة خطوة للأمام، وإلقاء حجر في البحيرة الراكدة في ساحة الأدب الكوردي، وأيضا أظهرنا من خلال البيان والمجلة الجرأة الاجتماعية، وجاء البيان الثاني يحمل اسم ” اتحدي أيتها الأقلام الجديدة “، وكان على رأس ما تضمنه البيان مشكلة حرية المرأة، وقد أحدث ذلك ضجة، وثار ضدنا المشايخ وخطبوا ضدنا في المساجد، وعلقوا أسماءنا على أبواب المساجد، وأعتقد أن مسألة الحداثة لا تنحصر في مسألة واحدة فقط، وهو المجال الثقافي والأدبي، ولكن هناك أيضا مساحات اجتماعية، يجب أن نهز البوابات بصوتنا وصراخنا، ونحن قد فعلنا ذلك، وكلما أرجع إلى تلك الأيام أشعر أننا فعلنا شيئا جديدا وجريئا، خاصة في ذلك الوقت.
* لو قارنّا بين الأيام التي تتحدث عنها والوضع الحالي، هل نعتبر أن الإبداع الكوردي أصبح في وضع أفضل مما كان ؟
- نعم، فقد تقدم بشكل أكبر لأن مساحة الحرية أصبحت أكبر، خاصة في السنوات العشر الأخيرة، والفنون الكوردية تقدمت بصفة عامة، ونحن لم يكن عندنا رقابة، وهذا ساعد على اكتشاف مواهب جديدة.
*هل وضع الكورد حاليا في ظل الاحتلال الأمريكي للعراق أفضل مما كان عليه في أثناء حكم صدام ؟
- دائما كانت في العراق، حتى في أوج الحكم العراقي السابق، هناك أشياء تصدر باللغة الكوردية، وهذا يرجع إلى تأسيس الدولة العراقية منذ عام 1921، وكان من المفترض أن يعطوا للكورد حكما ذاتيا، ولكن الحكومات العراقية تراجعت عن هذا، ولكن بقيت بعض الأشياء الصغيرة، كنوع من الدراسة في المدراس ، صدور جرائد خاصة بالكورد، ولو أنها كانت قليلة، وفي الفترات الأخيرة وأثناء المقاومة في الجبال الكوردية، وقد التحقت بالمقاومة في الجبل ثلاث مرات وكان عمري 25 عاما، وكانوا دائما يعدوننا بالحكم الذاتي، ثم لا ينفذون وعودهم، واخر مرة التحقت بالمقاومة في الجبل كان عام 1984، وفي ذلك الوقت كان صدام مسيطرا كليا على كل شيء، والمعارضة العراقية كانت باهتة، ولا يستطيعون تحريك ” زقاق ” في بغداد، وكانت سياسة صدام مكافأة حتى الأدباء الذين لا ينتمون إليه كنوع من الإغراء، وكنت دائما على حافة الاستقطاب من أعوان صدام ، وحتى لا أقع في هذا الفخ، ضحيت بوظيفتي وبيتي وكل شيء وهربت إلى الجبل حتى لا أحصل على الجائزة، ومُنعت مجموعاتي الشعرية أكثر من مرة بأوامر من مجلس قيادة الثورة العراقية، وفي الجبل كان هناك أدباء التحقوا بالمقاومة قبلي، واجتمعنا وأنشأنا حركة أدبية داخل الجبل، واستطعنا طباعة كتبنا شعرا ورواية وقصصا في الكهوف، بقيت بالجبل سنتين تحت وابل من القصف اليومي، ووصل إلي القصف الكيميائي، واضطرت القيادة السياسية الكوردية إلى تهريبي بعدما تعرضت إلى قصف كاد أن ينهي حياتي، ووصل الرصاص إلى مخدتي بعد ثوان من تركي فراشي، وبعد هروبي إلى سوريا تبعتني المخابرات من سوريا والعراق حيث اذهب، واضطررت إلى طلب اللجوء إلى إحدى الدول الأوروبية، وجاءتني دعوة من جمعية حقوق الإنسان في فلورنسا وسافرت.
* هل يغيّر الشعر العالم ؟
- لا، الشعر لا يغيّر العالم، الشعر يستطيع أن يهز، هذا التصور الساذج امنت به في شبابي، بأن قصيدتي سيسمعها العالم وتهز الدنيا، وأنا أكتب لنفسي قبل كل شيء، وإذا كان شعري يضم بعض المعاني والقضايا السياسية، فيضمها كشعر، كفن، وأومن أن الشعر يجب أن يترك نوعا من التأثير داخل نفس المتلقي ، والشعر ليس لعبة مجردة في فراغ، لا مساومة على الفن الشعري، حتى لو تضمن سياسة، فيجب أن يكون شعرا جيدا أولا، وأن يصل إلى الناس في الوقت نفسه، وقصائدي بها نوع من المسرح، وتحمل الكثير من المفارقات غير المتوقعة ، وهذه كلها أشياء تشد القارئ والمتلقي.
* لماذا تكتب عن الكورد فقط ؟
- لقد كتبت لكل شعوب العالم، وعندي قصائد عن أمريكا اللاتينية، وعن فلسطين، وبصفة عامة أنا أكتب عن العذاب الإنساني بداية من الكورد إلى الاخرين ، وأنا متهم دائما بأني أكتب في السياسة، وأني شاعر سياسي، وأنا وجهة نظري أن كل شيء بداية من السياسة إلى الطبيعة إلى المرأة باستطاعته أن يدخل في مكنون الشعر، ولا شيء ولا كلمة أو موضوع ممنوع، المهم هو كيفية الاستخدام، ومع ذلك عندي كثير من القصائد لا تقترب من السياسة، وحتى السياسية منها بها فنية عالية، وليس بتهريج أو مباشرة ولا بشعارات.
*ماذا يستفيد الشاعر من السياسة وماذا تستفيد السياسة من الشاعر ؟
- إذا كان الشاعر أقل قامة في السياسة من الشعر فهذا خطر، يجب أن يكون الشاعر فوق كل شيء وأولها السياسة، وفي الوقت نفسه أعتقد أن الشعر رسالة وفن، وإذا أخذت السياسة الشاعر إلى دهليزها فهذا خطر على الشعر، وإذا أغلقت كل أبوابها، فهو أيضا خطر على الشعر، لذلك هناك منطقة ” فتح البوابات بحذر ” ، الشعر الساذج الذي يدخل إلى كل بيت نعم، ولكنه في النهاية ليس بشعر،والشعر الجيد وينغلق على نفسه ولا ينتفح على الاخرين أيضا خطر.
* هناك كثيرون يشبهون بينك وبين الشاعر الفلسطيني محمود درويش، فما رأيك ؟
- سمعت هذا، وفي تفسيري أن الأجواء التي عشنا فيها متقاربة من حيث الاحتلال والتهجير والتقسيم، والماسي التي توجد في فلسطين هي نفسها الماسي التي نعيشها، ومنذ نعومة أظافري لم أر هدوءا نفسيا أو حياتيا يعيشه الشعب الكوردي، وكل حياتنا كانت حروبا وسجنا وإعدامات بالجملة، وضربنا بالسلاح الكيمياوي، ربما هذا قارب بيننا وبين الشعب الفلسطيني، وأنا أعتقد أن محمود درويش شاعر عظيم، وقد كتبت له بعد وفاته نصا وليس شعرا، وترجم إلى اللغة العربية، ورغم أني لم ألتق به ولو مرة واحدة، ولكنه كان متألقا لغة وشعرا وفنا، واعتقادي أن الشعراء والأدباء نوعان: شاعر إنسان، وشاعر ولكنه ليس بإنسان، مثل جورج تشينابيك، كاتب أمريكي كبير، ولكنه كتب عن حرب فيتنام، والذي شبه صوت الغارات والقنابل على فيتنام بصوت السيمفونية، هو كاتب كبير، ولكنه ليس بإنسان، وشخصية الأديب تضاف بالضرورة إلى فنه أنا شيركو بيكه س تضاف مواقفي إلى شاعريتي، وفي حالة أنني لست بإنسان، فذلك ينتقص من شاعريتي.
*هل عدت إلى العراق، وكيف أصبحت حياتك بعد العودة ؟
- أعيش في السيلمانية وحيدا، وعائلتي في استكهولم، وأحب الوحدة، ولا أطيق العيش مع الاخرين، حتى لو كانت زوجة، وأزورهم في السنة مرة واحدة، وزوجتي تعيش مع أحفادي، وعندي حياتي الخاصة، وأنا يصعب احتمالي، بعاداتي ونوازعي الأخرى، ولا يستطيع أحد أن يعيش معي، فأنا طفل خجول والحب في حياتي كبير وأحب التنوع، وأملّ بسرعة من كل شيء بداية من المرأة إلى الطعام إلى كل شيء، وكثيرات من الفاتنات أعطينني كثيرا من الرحيق، الذي جعلني أتنوع في التقلب بينهن، ودائما ما أشكرهن على هذا العطاء.