عالمية الإسلام
على الرغم من ازدياد القوة المتنامية للدولة الإسلامية والتي ظهرت بجلاء بعد غزوة الأحزاب، إلا أن الاستقرار الحقيقي لم يأتِ إلا بعد صلح الحديبية؛ فاعتراف قريش أكبر قبائل العرب وزعيمة الجزيرة سياسيًّا ودينيًّا واقتصاديًّا وتاريخيًّا، هذا الاعتراف أعطى المسلمين شهادةَ ميلادٍ حقيقية، وأعلن للجميع سواءٌ من العرب أو من العجم أن هناك دولة جديدة ولدت في المدينة المنورة، وهذه هي الدولة الإسلامية، وزعيمها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وكان أول شيء فكر فيه بعدما عاد إلى المدينة المنورة بعد صلح الحديبية هو إعلام العالم أجمع بهذا الدين الجديد؛ ليثبت لنا وللجميع أن هذا الدين دين عالمي، ونزل لخير الأرض بكاملها، فالله سبحانه وتعالى يقول في القرآن الكريم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول -كما جاء في حديث البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما-: "أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِي الْمَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً"[1].
ونحن كذلك علينا دور مهم في تبليغ رسالة الإسلام لكل بقعة في العالم، وهذا ليس تفضُّلًا منا، بل واجب علينا. والرسول صلى الله عليه وسلم كان يدرك من أول أيام الدعوة عالمية الإسلام، ويدرك أهمية وصول هذه الدعوة إلى كل بقاع الأرض، وكان صلى الله عليه وسلم يبشر المسلمين في مكة قبل سنوات من الهجرة أن لهم دورًا تجاه العالم، وكان يقول لهم: "قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، قولوا: لا إله إلا الله تملكوا العرب والعجم"[2].
فالقضية كانت واضحة في ذهنه صلى الله عليه وسلم تمامًا، ولكنه لم يشرع في تنفيذها إلا بعد صلح الحديبية.
واقعية المنهج الإسلامي في مراسلة شعوب الأرض
عند قراءة السيرة النبوية نرى أنه من اللافت للنظر أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرسل رسائل إلى عموم وملوك وأمراء الأرض من أول أيام الدعوة، أو من أول أيام المدينة المنورة، حتى إنه -أحيانًا- كان هناك بعض التعاملات مع بعض الممالك والدول الأخرى، ومع ذلك ففي هذه التعاملات لم يخطِّط رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دعوتهم في ذلك الوقت، ولم يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك؛ لأنه يعلمنا الواقعية، ولأن إرسال رسالة تدعو فيها الناس إلى تبديل دينهم، والدخول في دين جديد لم يسمع به أحد، حتى لو أن أحدهم سمع به فسوف يسمع عن التشريد والاضطهاد والتعذيب لأبناء هذا الدين.
ولذلك فإن إرسال مثل هذه الرسالة قد لا يقدِّم ولا يؤخِّر كثيرًا. ومَن هذا الذي يقدم على مثل هذه الخطوة الجبارة، ويبدِّل عقيدته لأجل مجموعة من الضعفاء في بلدة صغيرة من بلدان العالم، لدرجة أننا رأينا الصحابة رضي الله عنهم أجمعين عندما هاجروا إلى الحبشة لم يكن من مهمتهم دعوة النجاشي -رحمه الله- إلى الإسلام، بل إنهم لم يعرِّفوا النجاشي بدينهم، ولولا الموقف الذي قام به عمرو بن العاص ومحاولته إثارة النجاشي ضد المسلمين، ما شرح له جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه الإسلام؛ وحتى بعد هذا الشرح فإن جعفر بن أبي طالب لم يدعُ النجاشي إلى الدخول في هذا الدين الجديد، مع أنه كان يدرك أن هناك ميولًا في كلام النجاشي للإسلام، ومع ذلك لم يفعل، ولم يدعه إلى الإسلام.
قوة الإسلام تسطع في الجزيرة العربية كلها
وبذلك نرى واقعية الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة لأبعد درجة، فلا يصح ولا يجدي أن تُراسل جماعة صغيرة ضعيفة كبارَ زعماء العالم لتدعوهم لتغيير معتقداتهم وإظهار التبعية لفكر جديد أو فلسفة جديدة أو قانون جديد. بل لعلنا لا نكون مبالغين إذا قلنا: إن هذه الدعوة قد يكون لها من الآثار السلبية أكثر من الآثار الإيجابية، وما كان يعجزه صلى الله عليه وسلم أن يرسل رسولًا إلى كل دولة من دول العالم من أول يوم من أيام الإسلام، ولكنه وجد أن لا جدوى من هذا الكلام، بل إن العقل يقول: إنه سوف يلفت الأنظار بدعوته هذه إلى جماعته الصغيرة الناشئة فتستأصل في مهدها؛ أما أن نفترض أنه من الممكن أن يفتح الله عز وجل قلوبهم، وتتغير، ويضحوا بملكهم وسلطانهم لأجل هذا الرجل البسيط الذي ظهر في قرية صغيرة في صحراء مكة وفي صحراء الجزيرة، فهذا افتراض بعيد لا يرقى إلى درجة الواقعية.
كل هذا الكلام كان قبل صلح الحديبية، ولكن بعد صلح الحديبية تغير الوضع تمامًا، فالجميع في العالم كان يسمع عن قريش تلك القبيلة العربية العزيزة، نَعَمْ لم تكن قريش في قوة فارس والروم، ولكنها كانت معروفة لكل الناس حتى خارج الجزيرة العربية، وكانت لها عَلاقات سياسية واقتصادية مع معظم القوى الموجودة في العالم؛ لذلك ندرك حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على إبرام صلح الحديبية؛ ليحصل على اعتراف قريش بالدولة الإسلامية كدولة لها سيادة، وكل دول العالم لن تتعامل مع هذه الدولة الإسلامية إلا بعد اعتراف قريش بها؛ لأنه قبل ذلك سيُعتبَر المسلمون جماعة غير شرعيَّة خرجت عن مبدأ الدولة الأم قريش.
لأجل ذلك بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوة من حوله من العرب في الجزيرة في فترات الدعوة الأولى؛ لأنه يعلم عدم جدوى مراسلة الآخرين قبل اعتراف قريش، أما الآن وبعد الاعتراف الواضح من قريش فإن العالم الآن سيتقبل فكرة المراسلة بينهم وبين زعيم الدولة الجديدة الرسول صلى الله عليه وسلم، وسيسقط حاجز الشكليات والرسميات، وسوف يناقشون الموضوع بموضوعية إلى حد ما، وستكون مناقشة هذه النقطة أو هذه الرسالة أفضل -بلا شك- إذا كان المُرسِل قويًّا ممكّنًا؛ لأن الله سبحانه وتعالى يَزَع بالسلطان ما لا يَزَع بالقرآن[3]، فكل هذا تحقق إلى حدٍّ كبير بعد صلح الحديبية؛ لذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ما إن وجد الفرصة سانحة حتى أرسل الرسائل مباشرةً إلى كل زعماء العالم القديم آنذاك.
الرسول يدعو زعماء العالم إلى الإسلام
كانت الرسائل التي أرسلها الرسول صلى الله عليه وسلم في منتهى الوضوح، ودعا الرسول صلى الله عليه وسلم زعماء الأرض للدخول في الإسلام، وحملهم مسئوليتهم ومسئولية شعوبهم أيضًا، وبدأت فعلاً هذه الرسائل تخرج من المدينة المنورة، وخرجت هذه الرسائل في نفس الشهر الذي رجع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم من صلح الحديبية في شهر ذي الحجة سنة ست من الهجرة، والبعض يؤخّرها إلى غرة محرم سنة 7هـ، أي بعد أيام من صلح الحديبية. وانظر إلى حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على توصيل الإسلام إلى كل مكان، ولكن الظروف لم تكن مهيأة قبل ذلك، وعندما سنحت الظروف خرجت هذه الرسائل، وهي في معظمها في وقت متزامن لا يفصل بينها إلا أيام. والرسائل التي أرسلت في شهر ذي الحجة سنة 6هـ وأوائل محرم 7هـ، كانت سبع رسائل:
- رسالة إلى النجاشي أصحمة -رحمه الله- ملك الحبشة، وحملها عمرو بن أميَّة الضمريّ رضي الله عنه.
- ورسالة إلى المقوقس زعيم مصر، وحملها حاطب بن أبي بلتعة اللخميّ رضي الله عنه.
- ورسالة إلى كسرى ملك فارس، وحملها عبد الله بن حذافة السهميّ رضي الله عنه.
- ورسالة إلى قيصر ملك الروم، وحملها دِحْيَة بن خليفة الكلبي رضي الله عنه.
- ورسالة إلى المنذر بن سَاوَى ملك البحرين، وحملها العلاء بن الحضرميّ رضي الله عنه.
- ورسالة إلى هَوْذَة بن عليّ ملك اليمامة، وحملها سَلِيط بن عمرو العامريّ رضي الله عنه.
- ورسالة إلى الحارث بن أبي شَمِر الغساني ملك دمشق، وحملها شجاع بن وهب الأسدي رضي الله عنه[4].
تحليل الرسائل إجمالًا
سبع رسائل، وفي داخل هذه الرسائل والحوار الذي دار بين السفراء وملوك العالم، من الدروس ما لا يحصى، ولكننا لا نستطيع أن نحلل كل هذه السفارات، ولكننا سنحلل هذه الرسائل إجمالاً، ونأخذ مثالاً أو مثالين على هذه الرسائل إن شاء الله. وبتحليل هذه الرسائل نجد أن مضمون الخطاب متحد في كل المراسلات، والرسائل ليست دعوة إلى إقامة علاقات دبلوماسية، أو إلى تبادل السفراء أو إلى مجرد التعارف، أو لطلب استمداد شرعية، أو باعتراف الدول الأخرى به، وإنما كان الهدف واضحًا تمام الوضوح، وهو الدعوة الصريحة للإسلام، وترك أي دين أيًّا كان، والدخول في نور الإسلام.
وهذه الدعوة خطيرة؛ لأنَّ ذلك يقتضي اتِّباع أتباع الدين الجديد، واتِّباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهنا سينقلب الملك من مَلِك مُطاع لا تردُّ له كلمة إلى تابعٍ مطيع يردُّ الأمر كلَّه لله عز وجل ولرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. ولا شك أنَّ من سيقبل هذه الدعوة سيكون مؤمنًا، والذي يرفض هذه الدعوة قد يغضب ويثور ويعترض، وقد يُرسل الجيوش ويُهدِّد بالقتل. وكلُّ ذلك مع أنَّه صعبٌ إلا أنَّه لا يمنع من تبليغ دعوة ربِّ العالمين إلى العالمين.
وهذه الخطابات تثبت -بما لا يدع مجالًا للشك- أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان قائدًا قويًّا، وكان مجاهدًا عزيزًا لا يخشى في الله لومة لائم، وكان صلى الله عليه وسلم متجردًا تمامًا لله عز وجل، طائعًا لكل أوامره؛ لأنه لو كان أحد ملوك الدنيا فلن يفكر أبدًا في مثل هذه المراسلات؛ لأنها سوف تقلب عليه الأوضاع تمامًا، وتثير عليه أهل الدنيا، ولكن لكونه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يعلم أن مهمته تقتضي البلاغ للعالمين مهما كان الثمن، وهو يعلم أن الله عز وجل سينصر الدين حتمًا، ويُخرِج المسلمين من الأزمات مهما اشتدت، وقد أخرجهم قبل ذلك من أزمات مكة وبدر وأُحُد والأحزاب وبني قينقاع وبني النضير وبني قريظة. ولم تكن هذه الانتصارات لضعف أعداء الأمة قَطُّ، فكل أعداء الأمة كانوا من القوة بمكان، ولكن هذا الانتصار كان بقوة الله عز وجل، وبإرادة الله رب العالمين سبحانه وتعالى، ونصره للذين آمنوا به سبحانه وتعالى. وكل هذه المعاني كانت واضحة جدًّا في ذهن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لذلك جاءت الرسائل قمة في الوضوح، لا تميُّع فيها ولا مداهنة.
د. راغب السرجاني
[1] البخاري: كتاب التيمم (328)، وكتاب أبواب المساجد، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا" (427)، ترقيم مصطفى البغا.
[2] ابن قيم الجوزية: زاد المعاد، مؤسسة الرسالة، بيروت - مكتبة المنار الإسلامية، الكويت، الطبعة السابعة والعشرون، 1415هـ- 1994م، 3/43.
[3] أي ليمنع بالسلطان عن ارتكاب الفواحش والآثام ما لا يمتنع كثير من الناس بالقرآن.
[4] المباركفوري: الرحيق المختوم، دار الوفاء، مصر، الطبعة السابعة عشرة، 1426هـ- 2005م، ص303- 311.