«كيف نتقدم؟»... سؤال المليونالدكتور توفيق السيف* صحيفة الشرق الأوسط 24 / 10 / 2018م - 8:35 ص
ظهرت الطبعة الأولى من كتاب الأمير شكيب أرسلان «لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟» في عام 1940، ورأيت له طبعة جديدة صدرت في 2008. بين هذين العامين، طبع ما لا يقل عن عشرين مرة؛ الأمر الذي يجعله واحداً من أكثر الكتب العربية شهرة. وهو لا يزال موضع اهتمام بين الباحثين وعامة القراء على السواء.
لم يقدم أرسلان تحليلاً عميقاً لأسباب تخلف المسلمين. كما لم يفسر لقرائه أسرار تقدم الغربيين. إن إجاباته لا تختلف في الحقيقة عن التصورات الانطباعية التي يتداولها عامة الدعاة والمتعلمين، والتي تنسب التخلف في الغالب إلى قصور أخلاقي، تعاضد مع شيوع اللاعقلانية، في المجتمع المسلم. وهي بالتأكيد عوامل صحيحة، لكنها لا تقدم تفسيراً علمياً يمكن الاتكاء عليه إذا أردنا الانتقال إلى المرحلة التالية، أي سؤال: ما العمل؟
إن السر وراء الشهرة التي حظي بها كتاب المرحوم أرسلان، يكمن في السؤال الذي اختاره عنواناً لكتابه. فهو أشبه بما يسمى عند التراثيين «حديث النفس»، أي ذلك الهمّ الذي شغل أذهان المسلمين جميعاً، في مرحلة من مراحل حياتهم.
لا أدري إن كان المسلمون فرداً فرداً قد انشغلوا حقاً بالتفكير في هذا السؤال. لكني واثق بأن الغالبية العظمى من متعلميهم قد سمعوا به أو توقفوا عنده؛ في وقت ما. ونعلم طبعاً أن بعضهم قد جادلوا حوله أو حاولوا الإجابة عنه.
نعلم أيضاً أن السؤال ما زال مشرعاً، لأننا لم نتوصل إلى جوابٍ شافٍ. والحق أن هذا «سؤال المليون» كما يقال، لأن جوابه في غاية التعقيد. إنه أوسع من مجرد تحليل علمي. وهو ليس مجرد نظرية في إدارة الموارد، كنظريات التنمية الاقتصادية والسياسية مثلاً؛ بل فكرة نهضة، تستلزم - إضافة إلى نظرية التقدم متعددة الأبعاد - ظرفاً نفسياً عاماً، يسمح بانعتاق الجمهور من هموم الحاضر وأزماته والانخراط في مغامرة النهضة. الظرف النفسي يتمثل في ما يمكن وصفه ب «روحية النهضة»، التي نعرف أنها كانت وراء نهضة بريطانيا في العصر الفيكتوري «1837 - 1901»، وألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الأولى، ثم الصين بعد 1980.
ذكرت هذه الأقطار بالخصوص للتأكيد على أن النهضة ليست رهناً باتفاق المسلمين، وأنه لا يمكن لأي عدو إعاقة النهضة إذا تحلى أصحابها بالإرادة والإصرار، والاستعداد للتضحية في سبيل مستقبلهم. الأقطار التي ذكرتها نهضت بمفردها وسط محيط سياسي غير مساعد.
تحتاج النهضة في مراحلها الأولى إلى تكلف وجهد نفسي ومادي باهظ. أما التالية، فتأتي سلسة وسريعة، مثل كرة ثلج تتدحرج من أعلى الجبل.
منطلق النهضة هو تصور المستقبل والإيمان به. ولا يمكن للمستقبل إلا أن يكون مختلفاً، بل ونقيضاً للحاضر، فضلاً عن الماضي. ثم إن التضحيات المطلوبة ليست مادية حصراً... أشدها صعوبة التضحية بما اعتبرناه مسلّماً وبديهياً في رؤيتنا للطبيعة والعالم المحيط بنا.
أحد عوامل التخلف قطيعتنا الذهنية مع الطبيعة، وبسببها غفلنا عن استثمار الموارد العظيمة التي تزخر بها أرضنا وسماؤنا وبحارنا وأنفسنا. وبالمثل، فإن أحد أسرار التقدم يكمن في العودة لفهمها والتفاعل معها على نحو بنّاء.
إني واثق بأن جميعنا يتطلع إلى مستقبل مختلف تماماً عن حاضرنا. لكن السؤال الذي يجب أن نواجه به أنفسنا دائما، هو: ما الفكرة التي يمكن لها أن تكون بمثابة صاعق التفجير للطاقات والعزائم والإرادة العامة الضرورية لإطلاق النهضة؟