"شاعرة القصة".. أول دراسة بالروسية عن إبداعات غادة السمان
على خلفية شُح الدراسات عن الثقافة العربية بالروسية وترجمة الأعمال الأدبية العربية لها، وشبه انعدام التواصل الثقافي بين العالم العربي وروسيا، صدرت في موسكو دراسة رصينة كرست لأعمال غادة السمان وجاءت بعنوان ” شاعرة القصة. القاصة غادة السمان. ال60ـ 90 القرن العشرين”.
والكتاب الصادر عن دار نشر جامعة العلاقات التابعة لوزارة الخارجية الروسية حيث تحاضر الباحثة في قسم لغات الشرق الأوسط، ثمرة عمل طويل ودؤوب للباحثة ناتاليا شويسكا، ودراسة موسعة وعميقة لأدب غادة السمان، كما سبق وأن ترجمت للروسية بعض قصصها ودافعت في رسالة دكتوراه عن أعمالها.
وكما جاء في تقديم الناشر ف” شاعرة القصة. القاصة غادة السمان. ال60ـ 90 القرن العشرين” هو أول بحث من نوعه في الاستعراب الروسي والاجنبي الذي يتناول بدراسة مجمل الإبداعات للاديبة غادة السمان، من زاوية علم أدب تقويمية تحليلية. وتنطلق الباحثة من أن أعمال السمان تمثل وثيقة سايكولوجية للعصر وللمشكلات السياسية / الاجتماعية التي لم تجد لها حلولاً ناجعة لحد اليوم. وتلفت الى أن النقد العربي رصد قواسم مشتركة بين أعمال السمان وأعمال فيرجينيا وولف وسيمون دي بوفوار وبالدرجة الأولى في إمعان الأديبة النظر في مصائر المرأة العربية.
يتوزع البحث على ثلاثة فصول، تسبح فيها الباحثة في عوالم غادة السمان الشاسعة والمتنوعة : كاتبة قصة وناقدة أدب وكاتبة مقالة في الشؤون الاجتماعية والسياسية، حملت هموم عصرها وأمراض المجتمعات العربية، وخاضت معركتها من أجل تنمية وعي عصري وحضاري في عقلية الإنسان العربي.
تولج الباحثة الى عوالم غادة السمان من خلال مقدمة تحدد فيها الأعمال التي تركز عليه البحث، وتظهر للقارئ بصورة أولية ملامح المنهج الأدبي الذي اعتمدته السمّان ” الذي منذ بداية نشاطها كقاصة تفاعلت فيه الواقعية والأفكار الرئيسية للوجوديين العرب وموقفهم النقدي للواقع”. وترى “أن في مركز اهتمامات السمان كانت الشخصية وماهيتها وجوهرها الداخلي وحياة الروح الانسانية، ومأساوية العالم الروحي للفرد”.وإن قصص السمان مشبعة بالابعاد النفسية وغالباً ما يتجسد بهذا الأسلوب اهتمامها في أجواء الوعي الذاتي للإنسان، وما فيه من إمكانات روحية، مما يتيح اعتبار قصص الكاتبة قصصاً سايكولوجية. وفي هذا المنحى تدور محاور أعمالها على قضية ” المرأة” وموضوع الهجرة والاغتراب بأشكالها المتنوعة، والقصة كرد فعل على الأحداث والنزاعات السياسية والتتناقضات الاجتماعية والبناء الاجتماعي في البلدان العربية. فأعمال السمّان مشحونة بمشاعر الاحتجاج ومسكونة بروح ناقدة، علاوة على المضامين العامة والإنسانية والفلسفية. وتتميز أعمدة البنية الفنية لأعمال السمّان بخصوصية اللغة الفنية وشاعرية الأسلوب وإيحائاته ورمزيته والتركيز على تجديد فناني الكلمة في الغرب وممثلي الحداثة.
وتأخذنا ناتاليا شويسكا بجولة واسعة في الأعمال التي ظهرت بالعربية وغيرها من اللغات التي كرست لأعمال غادة السمان، وتظهر رؤية وقراءة للأعمال الادبية. وتستخلص من كافة تلك الأعمال إنها مشبعة بمواد تدرس الوقائع والعلاقات بينها، وتتميز بتركيز كتابها بالأساس على دراسة أفق مضامين أعمال السمّان القصصية، وتوجهاتها الاجتماعية وتولي اهتماماً أقل لمناحي الشكل. علاوة على أن التحليل الذي يقومون فيه للأعمال القصصية، يكتسب طابعاً سطحياً.
وتحدد الباحثة في الدراسة مصادر تشكيل إبداعات غادة السمان وطبيعة نشاطها الأدبي. وبعد أن تمر سريعاً في السيرة الشخصية، وتولى شطر اهتمامها الى معالم الحياة الثقافية في ستينيات القرن الماضي، ونمو النزعات الحداثية والوجودية وأدب اللامعقول فيها، وتشير الى أبرز ممثليها العرب والغربيين، وبالتالي تأثيرها على الوعي الفني / الفكري
على غادة السمان التي تكتب أطروحتها عن أدب اللامعقول، وتدمن على قراءة أعلام أدباء الغرب، وليس وحدهم، الذين تركوا بصماتهم في أعمال السمان. وتواكب الدراسة ظهور أعمال السمان الأدبية التي بدأتها في عيناك قدري، ومقالاتها الاجتماعية والسياسية ونشاطها الصحفي ومنحها الأحاديث الصحفية، التي شكلت منبراً للتواصل مع المتلقي العربي لتفجير وعيه في مواجهة التخلف والفقر والهزيمة والاحتلال. وتقول إن السمان استحقت التقدير والتقويم الرفيع منذ بادية نشاطها القصصي حيث وقفت بثبات الى صف الكتّاب المناظلين من أجل مساواة المرأة.
وتقول إن روايات السمّان مشبعة بالحزن ولكن ليس بالاكتئاب. وإن الكاتبة لا تضع هدفها ب “إخماد حرائق” المشاكل وفك عقد التناقضات وتتمثل مهمتها في تعريتها بصدق والإفصاح الكامل عنها وجعلها واضحة قدر الإمكان. إن فنها لا يقلد هذه الحياة الكئيبة ولكنه يمنحها بالأمل ويدفعها للمثابرة وجرأة التفكير. إن أبطال أعمال غادة السمّان والعالم الفني الذي أقامته واللغة المجازية التي اعتمدتها أصبحت جزءاً من الوعي الثقافي للقرن العشرين ثم دخلت الواحد والعشرين ما أُطلق عليه يوري لوتمان ” الذاكرة الجماعية الثقافية”
وما يلفت النظر أن أكثر من ثلث الدراسة مكرس لتحليل البنية الفنية لأعمال غادة السمان، وأدوات التعبير التي تعتمدها الخ وتكشف أمام القارئ والمختص / الناقد / المحلل نبرة الكاتبة المميزة الخاص بأسلوب إبداعاتها
وما يثير الأسف إن هذه الدراسة التي تمنح القارئ تصوراً كاملاً عن إبداعات غادة السمان كروائية وناقدة وكاتبة مقال، التي اعتمدت التحليل المتأني والعميق لم تشمل أعمالاً أخرى هامة للأديبة البارزة، مثل روايات ليلة المليار والرواية المستحيلة وسهرة تنكرية للموتى فسيفساء دمشقية.
وفي ردها على سؤال لكاتب هذه السطور عن سبب اختيارها غادة السمان مادة لدراستها قالت ناتاليا شويسكايا: إنها كانت دائما مخلصة لأدبها وموهبتها وتمارس الكتابة لأن مشاكل مجتمعها تقلقها، وخاصة وضع المرأة في المجتمع العربي وفي أوروبا وأميركا، ولكون أن أعمالها تُقرأ بحوالي 20 لغة في مختلف أنحاء العالم، ولأنها أديبة مجددة تكتب نثراً احتجاجياً، ولأن النقاد يقيمون أدبها بشكل رفيع، ولأن أعمالها تثير اهتمام ليس للقارئ العادي وإنما للمستعرب، ولأنها زارت موسكو والتقت بالعلماء الروس في معهد الاستشراق وبقيت ذكرى هذا اللقاء عالقة في إذهان لدى جميع المستعربين وعلماء اللغة الذي شاركوا في اللقاء.