مثَّلت المراعي الطبيعية موردًا مهمًّا لتغذية الحيوانات وتربيتها، ولا تزال تحظى بأهميَّةٍ كبرى للحفاظ على الثروة الحيوانيَّة وتنميتها، ولقد كان الإنسان منذ القدم يُهاجر من أرضٍ إلى أرضٍ بحثًا عن أنسب الأماكن التي تصلح للرعي والزراعة والتجارة، واستيفاء ما ينقصه من وسائل العيش وتهيئة ظروف الأمن والاستقرار.


وقد كانت رعاية الماشية والإبل وغيرها من مصادر الغذاء والدخل المادِّي في جزيرة العرب، وحين انتشر الإسلام في بقاع مختلفة خارج هذه الجزيرة ودخل الناس في دين الله أفواجًا، صارت العديد من البقاع المختلفة بما فيها من حيوانات متنوِّعة ومراعي خصبة تحت يد المجتمع الإسلامي، وفي ظلِّ حالة التقدُّم العلمي والانفتاح الثقافي التي عاشها المسلمون في هذه الفترة؛ فقد اعتنوا بكلِّ تفاصيل الحياة، ومنها المراعي التي تُسهم بشكلٍ أساسيٍّ في حفظ وتنمية الثروة الحيوانيَّة، فتعرَّفوا على أنواع المراعي المختلفة وحدَّدوا صفاتها، والمخاطر التي تتعرَّض لها... إلخ.


وهو أمرٌ سبق فيه المسلمون علماءَ الحضارة الغربيَّة في بيانه وتقريره بالعديد من القرون؛ فقام أبو نصر الباهلي بتأليف "الزرع والنخل" و"الشجر والنبات"، وألَّفَ أبو حنيفة الدينوري المتوفَّى عام 282هـ كتاب "النبات" وضَمَّنَهُ بابًا بعنوان "الرعي والمراعي" قال في آخره: [قد أتيت بما حضرني ذكره في وصف الرعي والمراعي وما يعرض لها من الآفات وحال السائمة فيها وما يعتريها من الأمراض على ما استحسنت وضعه في هذا الكتاب] اهـ؛ فالمرعى عبارةٌ عن مجموع النباتات التي تنمو طبيعيَّة في منطقةٍ معيَّنةٍ ولا تُستخدم لأغراضٍ أخرى غير الرعي.


وفيما يتعلَّق بإدارة المراعي وإنشاء المحميَّات البيئيَّة، فإنَّنا نجد أنَّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد بدأ هذا الأمر حين قال: «لَا حِمَى إِلَّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ» رواه البخاري، والحِمَى هو: الموضع الذي يكون فيه الكَلَأُ والعُشْبُ يحميه الإمام من الناس فلا يرعى فيه أحدٌ ولا يقربه أحدٌ؛ والمعنى لا يُحْمَى شيء من الأرض إلَّا ما يُرصد لرعي خيل الجهاد وإبلها وإبل الزكاة وما في معنى هذا، وتطبيقًا لهذه الرؤية حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم عين "النقيع"، وهي عينٌ قريبةٌ من المدينة، وحمى سيِّدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه "الشَّرَف" وهي من أعمال المدينة، و"الرَّبَذَة" وهي قريةٌ قريبةٌ من ذات عرق، و"ضرية" وهو الحمى الذي قال عنه الحميري: [وهو أكبر الأحماء، وهو من ضرية إلى المدينة، وهو أرض مرب منبات كثيرة العشب، وهو سهل الموطئ كثير الحموض، تطول عنه الأوبار، وتتفتق الخواصر، وأول من أحمى هذا الحمى عمر بن الخطاب رضي الله عنه لإبل الصدقة وظهر الغزاة، وكان حِماه ستة أميال من كل ناحية من نواحي ضرية، وضرية أواسط الحمى، فكان على ذلك إلى صدر خلافة عثمان رضي الله عنه، إلى أن كثر النعم حتى بلغ نحوًا من أربعين ألفًا، فأمر عثمان رضي الله عنه أن يزاد في الحمى ما يحمل إبل الصدقة، فزاد فيها زيادة لم تحدها الرواة] اهـ.


كما منع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الصيدَ عبر الحمى، وحدَّد مناطق محميَّة أخرى من الرَّعْيِ فيها، وحُمِّلَتْ بحمولاتٍ حيوانيَّة معتدلةٍ من خيول الجهاد أو أنعام الزكاة، جاعلًا الحِمى بصفةٍ عامَّةٍ لله ورسوله.
وقد أوضح الدينوري في كتاب "النبات" بعض المصطلحات الرَّعويَّة البيئيَّة الهامَّة مثل: "الأرض الحمضيَّة"؛ أي كثيرة الحمض التي فيها ملوحة، و"الخُلة"؛ التي لا ملوحة فيها، و"السهب"؛ أي الأرض الواسعة البعيدة التي لا نبات فيها، و"الخُبَّة"؛ وهو المرعى الوسط، ليس بالخصب وبالجدب، كما شرح أنواع المياه في المراعي، وبماذا كانوا يُسمُّون الإبل والأغنام التي تأكل أكلًا معينًا أو ترعى في مرعى معين أو تشرب من ماء معين بأسماءٍ تُناسب كلَّ طعام ومرعى وماء.
وذكر الدينوري أنَّهم كانوا يُميِّزون بين آثار الأطعمة المختلفة التي تتناولها الحيوانات في المراعي، فنقل عن الأصمعي قوله: [أطيب الإبل لبنًا ما أكل السَّعْدان، وأطيب الغنم لحمًا ما أكل الحربث] اهـ.


وصنف الدينوري نباتات المراعي -استنادًا إلى خبرة العرب الواسعة- على أساس الصفات المتعلِّقة بالطعم واللون والملمس والشكل الظاهر وموسم النمو، وغير ذلك من الصفات، فتحدَّث عن "مجموعة الحمض" التي تتميَّز بالطعم الحامض أو المالح، وهي التابعة "للفصيلة الرمرامية"، حسب التقسيم النباتي المعروف حاليًّا، ومن أمثلتها نباتات الرمث والغضي والحاذ.


وتحدَّث عن "مجموعة الخلة" التي لا ملوحة فيها؛ مثل السبط، "ومجموعة العضاة" التي تضم الأشجار الشائكة؛ مثل الطلح والعرفط، و"مجموعة العض" التي تضم ما صغر من شجر الشوك؛ مثل القتاد، و"مجموعة المرار" ومجموعة البقول ومجموعة الحرف، وأخيرًا مجموعة الأرواث والدمن التي تضم النباتات السيئة في المرعى والمحبة للنتروجين، وهي من دلائل الرعي الجائر.


كذلك أوضح الدينوري معرفة العرب لأنواع المراعي المختلفة وتحديد درجة جودتها، وتأثير ذلك على الحيوانات الرعويَّة، فذكر "المرعى المرئي الناجع" أي: الجيد، و"المرعى الخصبة"؛ أي متوسِّط الجودة، ليس بالخصب ولا بالجدب، و"المرعى الوبيل الموخم"؛ أي المتدهور الخرب الذي تُعْرِضُ عنه السائمة، وقد فطن العرب إلى العلاقة بين جودة المرعى وقربه من مصادر الماء أو بعده عنها، وطوَّروا اصطلاحات خاصَّة بذلك.


ويستمتع من يُطالع كتاب "النبات" للدينوري بالعديد من أبيات الشعر والمواقف الأدبيَّة التي تُعبِّر عن مدى شيوع ثقافة الرعي والمراعي والنبات والحيوانات وإدراك الفروق بينها، ممَّا سجَّله الشعر وهو ديوان العرب؛ ليُؤكِّد على اهتمام واعتناء العرب والمسلمين بالرعي والمراعي بصورةٍ كبيرة.

مصادر البحث:

- "كتاب النبات" لأبي حنيفة الدينوري (3/4 وما بعدها، ط. فرانز شتاينر، ڤيسبادن، ألمانيا).
- "الروض المعطار في خبر الأقطار" أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد المنعم الحِميرى (ص: 377، ط. مؤسسة ناصر للثقافة، بيروت).
- "صحيح البخاري": كتاب المساقاة، باب لا حمى إلا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم (2241).
- "إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب" للحموي (1/ 227، ط. دار الغرب الإسلامي).
- "أساسيات العلوم المعاصرة في التراث الإسلامي" للدكتور أحمد فؤاد باشا (ص: 164-167، ط. دار الهداية).

موقع دار الإفتاء المصرية