التحف البشر السماء منذ الأزل، ونظروا إليها وكانت مصدر أكثر العناصر المجهولة بالنسبة لهم. ولكل ما هو قادمٌ منها وقعٌ عليه؛ فهي تارةٌ مصدر سعده وأحيانًا كانت مصدر لعناتٍ بالنسبة له.
بالطبع، الإنسان عدو ما يجهل، لقد خاف النار أول ما خاف ثم أصبحت المحرك لتطوره، ولم يكن الحال أفضل بالنسبة إلى باقي عوامل الطبيعة، والتي بعد أن عرف ماهيتها تعلم درء أخطارها، بل والاستفادة منها في معظم الأحيان.
لكنّه لم يكن حبيس بيئته الأرضيه، لقد بهرته السماء وأثارت فيه تساؤلات كثيرة وخشيةٌ كبيرة، فبات يسأل الأسئلة الوجودية الكبرى: من نحن؟ من أين أتينا؟ ما الذي يقبع هنالك بعيدًا في السماء؟ ثم…كيف نشأ كل ذلك.
لنشأة الكون وتطوره أسفارٌ كثيرة، لم تكن أسطورة التكوين السومرية أولها، كما أنّ نظرية الانفجار العظيم لم ولن تكن آخرها، وقلما تجد ثقافةً لإثنيةٍ أو شعب على هذه الأرض لم تكن نشأة الكون في صلب معتقداته، وله في ذلك حكايةٌ مثيرة.
لقد كان ذلك محور جدلٍ ونقاشات دينية وفلسفية وعلمية. وضمت قائمة أولئك الذين حاولوا اكتشاف لغز نشوء الكون علماء مشاهير مثل ألبرت أينشتاين وإدوين هابل وستيفن هوكينغ. وكانت أحد النماذج الأكثر شهرة وقبولًا لنشوء الكون هي نظرية الانفجار العظيم The Big Bang Theory.
ما هي نظرية الانفجار العظيم ؟
على الرغم من شهرة نظرية الانفجار العظيم، لكنّها غالبًا ما تحاط بسوء فهمٍ كبير، وأول التباس لفهمنا هذه النظرية هو أنّها تصف أصل الكون. فذلك ليس صحيحًا تمامًا، فالانفجار العظيم هو محاولةٌ لتفسير الكيفية التي نشأ (وأفضّل استخدام كلمة تطور هنا) من حالةٍ فائقة الصغر والكثافة إلى ما هو عليه الحال اليوم. إنّها لا تحاول البتة التحدث عن بداية خلق الكون، أو ما الذي كان قبل الانفجار العظيم أو حتى ما الذي يقبع خارج الكون.
سوء فهمٍ آخر يحيط بهذه النظرية، ألا وهو أن الانفجار العظيم هو ضربٌ من الانفجارات، إلّا أن ذلك ليس دقيقًا بالمطلق، فالانفجار العظيم يصف تمدد الكون، وعلى الرغم من أنّ بعض إصدارات هذه النظرية تشير إلى سرعة تمدد تفوق سرعة الضوء، لكنّ ذلك يبقى تمدّدًا وليس انفجارًا وفق التعريف التقليدي للانفجارات.
إنّ تلخيص جوانب نظرية الانفجار العظيم هو أمرٌ تشوبه تحديات كبيرة، وتتضمن الكثير من جوانبها أمورًا تتعارض والطريقة التي ننظر بها إلى العالم. وتركز المراحل الأولى من النظرية على لحظةٍ كانت فيها كل قوى الكون المنفصلة جزءًا من قوةٍ موحدة. لقد بدأت قوانين العلم بالانهيار كلما أمعنا النظر أكثر، وفي نهاية المطاف، لن نحصل على أيه إجابة ولن نصيغ أية نظرية حول ما يحدث، فالعلم ذاته لم يفعل ذلك بعد.
المآخذ على الانفجار العظيم
تصف نظرية الانفجار العظيم تطور الكون منذ وجوده وحتى الآن. إنّها واحدةٌ من عدة نماذج علمية تحاول تفسير الكيفية التي يبدو عليها الكون اليوم. وللنظرية تنبؤات كثيرة، أثُبت الكثير منها بواسطة البيانات الرصدية. كنتيجةٍ لذلك، هي أكثر نظريات تطور كوننا قبولًا لدى العامة.
وأكثر ما ينبغي تجاوزه لدى الحديث عن نظرية الانفجار العظيم هو التمدد. فالعديد من الناس ما يدور بأذهانهم لدى تناول الانفجار العظيم هو لحظةٌ كان فيها كل محتوى الكون من المادة والطاقة مركزًا في نقطةٍ واحدة صغيرة، ومن ثم انفجرت هذه النقطة ناشرةً المادة في الفضاء، ومن هنا وُلد الكون. لكن الحقيقة هي أنّ الانفجار العظيم يفسر تمدد الفضاء ذاته، ما يعني بدوره أنّ كل ما في الفضاء ينتشر مبتعدًا عن كلّ شيء آخر. والرسم التوضيحي التالي يوضح ذلك.
نظرية الانفجار العظيم، تمدد الكون
اليوم; ولدى نظرنا نحو سماء الليل، نرى المجرات مفصولةً عن بعضها البعض بما قد يبدو وكأنه فجوات هائلة من الفضاء الخالي. لقد كانت كل أزمنة الانفجار العظيم وكل المادة والطاقة والمكان الذي يمكننا أن نرصده اليوم مضغوطٌ في منطقةٍ صفرية الحجم بكثافةٍ لا متناهية، سماها علماء الكونيات بالمتفرد Singularity.
ما الشكل ا لذي كان عليه الكون في بداية الانفجار العظيم؟ وفقًا للنظرية، كان الكون فائق الكثافة والحرارة. وكانت هنالك طاقةٌ هائلة في الكون أثناء هذه اللحظات الأولى بحيث لم يكن هناك إمكانية لتشكل المادة بالصورة التي نعرفها. لكنّ الكون تمدد بسرعةٍ كبيرة، ما يعني أنّه أصبح أقل كثافة وانخفضت درجة حرارته. وعندما تمدد، بدأ تشكل المادة وبدأت الأشعة تفقد طاقتها. وفي غضون بضع ثوانٍ فقط، تشكل الكون من متفرد وأخذ بالتمدد في أرجاء الفضاء.
من نتائج الانفجار العظيم تشكل القوى الأساسية الأربع في الكون وهي:
- الكهرومغناطيسية.
- القوى النووية القوية.
- القوى النووية الضعيفة.
- الجاذبية.
في بداية الانفجار العظيم، كانت هذه القوى جميعها جزءًا من قوةٍ موحدة. لكن وبعد الانفجار العظيم بفترةٍ وجيزة انفصلت هذه القوى إلى ما هي عليه اليوم. وتبقى الكيفية التي كانت عليها هذه القوى يومًا جزءًا من قوةٍ موحدة لغزًا للعلماء. وما زال العديد من الفيزيائيين وعلماء الكونيات يعملون على صياغة نظريةٍ موحدةٍ عظمى Grand Unified Theory من شأنها أن تفسر كيف كانت القوى الأربعة موحدة وكيف تتصل مع بعضها البعض.
من أين أتت نظرية الانفجار العظيم
إنّ نظرية الانفجار العظيم هي نتاج منهجين مختلفين لدراسة الكون: هما علم الفلك وعلم الكونيات. لقد استخدم علماء الفلك المعدات لرصد النجوم وغيرها من الأجرام السماوية. لكن علماء الكونيات يدرسون الخصائص الفيزيائية الفلكية للكون.
الانتشار الموجي
في القرن التاسع عشر، بدأ الفلكيون دراسة الكون بواسطة أدواتٍ تدعى مناظير التحليل الطيفي Spectroscopes كذلك تُعرف بمرسمات الطيف Spectrographs. وراسم الطيف هو جهاز يجزئ الضوء إلى طيفٍ مؤلف من الأطوال الموجية لمكوناته. لقد أظهرت مناظير التحليل الطيفي أن الضوء الصادر من مادةٍ معينة، كأنبوب هيدروجين متوهج، ينتج توزعًا من الأطوال الموجية خاص بتلك المادة. وأصبح واضحًا أنه بالنظر إلى توزع الأطوال الموجية في مناظير التحليل الطيفي، يمكنك تحديد نوع العناصر الموجودة في المصدر الضوئي.
في هذه الأثناء، اكتشف الفيزيائي النمساوي كريستيان دوبلر أن تردد موجةٍ صوتية يعتمد على الموقع النسبي لمصدر الصوت. عندما يقترب منك مصدرٌ صوتي، تنضغط الموجات الصوتية الناتجة عنه. ما يغير من تردد الصوت، وبالتالي سيكون إدراكك لنغمة الصوت مختلفًا. وعندما يبتعد الجسم عنك، تتمدد الموجة الصوتية، وتنخفض نغمة الصوت. يُسمى ذلك بتأثير دوبلر Doppler effect..
ينتقل الضوء عبر موجاتٍ أيضًا، وقد اكتشف علماء الفلك أنّ بعض النجوم لها إصدارٌ ضوئي أكثر مما كانوا يتوقعون واقعٌ في المجال الأحمر من الطيف المرئي. وأصدروا حكمًا نظريًّا بأن تلك النجوم كانت تتحرك مبتعدةً عن الأرض. وبابتعاد النجوم، تتمدد الأطوال الموجية للضوء الصادر عنها. وهي تنزاح إلى النهاية الحمراء من الطيف الضوئي لأن للنهاية أطوال موجية أكبر. يدعو علماء الكون هذه الظاهرة بالانزياح نحو الأحمر Redshift. وانزياح نجمٍ نحو الأحمر هو مؤشرٌ على مدى سرعته بالابتعاد عن الأرض؛ فكلما زادت سرعة انزياحه نحو الأحمر ازدادت سرعة ابتعاده عن الأرض.
في عشرينيات القرن الماضي، لاحظ الفلكي إدوين هابل أمرًا مثيرًا للاهتمام؛ فقد لاحظ أن سرعة النجم تبدو وكأنها متناسبة طردًا مع بعده عن الأرض؛ أي كلما كان النجم أبعد عن الأرض، بدا وكأنه يتحرك مبتعدًا عنها بسرعةٍ أكبر، استنتج هابل نظريةً مفادها أن الكون ذاته يتوسع.
قاد اكتشاف هابل إلى جدالٍ طويل ما زال مستمرًّا حتى اليوم: ما هي العلاقة تمامًا بين سرعة جرم سماوي بعيد والمسافة التي تفصله عن الراصد؟ أطلق علماء الكونيات على هذه العلاقة تسمية ثابت هابل Hubble constant ، لكن لا يوجد إجماعٌ عن ماهية تلك العلاقة. قال هابل إنها 464 كيلومتر في الثانية لكل ميغا بارسيك (الميغا بارسيك هي وحدة قياس المسافات بين النجوم وهي مساويةٌ لأكثر من 3.08 *10 مرفوعة للأس 22 متر).
لقد تبين أن هابل بالغ في تقدير هذا الرقم، ويعود ذلك إلى قصور التقنيات العلمية التي كانت تقيس المسافات بين الأرض والأجرام السماوية أيام هابل، فبتطور المعدات التي تقيس تلك المسافات، أعاد العلماء تحديد ثابت هابل، لكن الجدال ما زال قائمًا.
ما علاقة ذلك بالانفجار العظيم
قال هابل إنّ الكون يتمدد بمرور الزمن، ويعني ذلك انّه ومنذ مليارات السنين، لا بدّ وأنّ الكون كان أصغر بكثير وأشد كثافة. وإن عدت بالزمن بما يكفي إلى الوراء، سينتهي الكون إلى منطقةٍ فائقة الكثافة، تضم كل مادة الكون وطاقته والمكان والزمان في الكون. بطريقةٍ ما، كانت نظرية الانفجار العظيم نتيجةً للهندسة الرجعية (العودة إلى الوراء).
لكن ذلك لم يلقَ إعجاب الكثيرين، ومنهم العالم الشهير ألبرت أينشتاين؛ فقد انحاز أينشتاين إلى فكرة الكون الثابت. كونٌ ثابت لا يتغير، وُجد دومًا وسيبقى دومًا على هذه الشاكلة. تمنى أينشتاين أن تقدم له نظريته في النسبية العامة فهمًا أعمق للبنية الكونية.
عند انتهائه من نظريته، فوجئ أينشتاين باكتشافه أنّه ووفقًا لحساباته أنّ الكون إمّا أنّه يتمدد أو ينكمش. وبما أنّ ذلك يتعارض مع اعتقاده بأنّ الكون كان ثابتًا، بدأ البحث عن تفسيرٍ معقول. اقترح ثابتًا كونيًّا، وهو عددٌ عند تضمينه بنظرية النسبية العامة، يقصي الضرورة الظاهرية لكونٍ يتمدد أو ينكمش.
اعترف أينشتاين بخطئه عندما وُوجه باكتشافات هابل. فالكون فعلًا آخذٌ بالتمدد، ونظرية آينشتاين ذاتها دعمت هذا الاستنتاج. لقد أفسحت كلٌّ من النظرية وعمليات الرصد المجال لعدة تنبؤات، ثبتت صحة العديد منها منذ ذلك الحين.
صورة للمجرات مأخوذة بتلسكوب هابل
واحدةٌ من هذه التوقعات هي أنّ الكون متجانس ومتناظر، يعني ذلك بالضرورة أنّ للكون مظهرٌ واحد بغض النظر عن منظور الراصد. يبدو هذا التنبؤ زائفًا لدى النظر له من مستوى محلي، لكن وبعد كل شيء، لا تحظى كل النجوم بأنظمةٍ شمسيةٍ من الكواكب مثل مجموعتنا الشمسية، ولا تبدو كل المجرات مثل درب التبانة. لكن على مستوى عياني يمتد لملايين السنين الضوئية، يتجانس توزع المادة إحصائيًّا على امتداد الكون. وهذا يعني أنك إن كنت سائرًا في رحلةٍ كونية، فإن مشاهداتك لبنية الكون ستبدو نفسها التي يحصل عليها راصدٌ أرضي.
من التنبؤات الأخرى لهذه النظرية كان أن الكون لا بد وأنّه كان شديد الحرارة في مراحل الانفجار العظيم الأولى. وسيكون الإشعاع المنبعث من تلك الحقبة كبيرًا جدًّا، ولا بد من مخلفات عن هذا الانفجار تدل عنه. وبما أنّ الكون ينبغي أن يكون متجانسًا ومتناظرًا، هذا الدليل ينبغي أن يكون موزعًا بالتساوي عبر الكون. وفي أوائل أربعينيات القرن الماضي، اكتشف العلماء أدلةً على هذا الإشعاع، رغم أنّهم في تلك الآونة لم يكونوا على درايةٍ بما كانوا ينظرون إليه.
وبقي الوضع كذلك حتى ستينيات القرن الماضي، حين اكتشف فريقان منفصلان من العلماء ما نسميه اليوم إشعاع الخلفية الكونية الميكروي Cosmic Microwave Background Radiation (CMB) أو اختصارًا CMB. إنّ CMB هي بقايا الطاقة الهائلة الصادرة عن الكرة الملتهبة الابتدائية في الانفجار العظيم، لقد كانت يومًا ذات حرارةٍ هائلة، لكنها اليوم أصبحت باردةً جدًّا وتصل درجة حرارتها إلى 2.725 كلفن.
إشعاع الخلفية الكونية الميكروي
ساعدت عمليات الرصد هذه على ترسيخ نظرية الانفجار العظيم كنموذجٍ سائد عن تطور الكون. وقبل الغوص في تفاصيل نظرية الانفجار العظيم لا بد من الإشارة إلى أنّ عبارة Big Bang يعود الفضل في ظهورها إلى الفلكي البريطاني السير فريد هويل Fred Hoyle أثناء حديث له حولها في هيئة الإذاعة البريطانية، والمضحك في الأمر أنّ العبارة استُخدمت في معرض رفضه لهذه النظرية لتصبح بعد ذلك اسمًا لها.
فريد هويل
الثانية الأولى من الانفجار العظيم
بسبب قصور قوانين العلم، لا يمكننا أبدًا تخمين اللحظة التي وُجد فيها الكون. وعوضًا عن ذلك، يمكننا النظر إلى الفترة التي أعقبت ولادة الكون مباشرة. وفي اللحظة الراهنة، أبكر اللحظات التي يتحدث عنها العلم هي عند ز= 1*10 مرفوعة للأس -43 ثانية، حيث ز هي الزمن بعد ولادة الكون. بكلمات أخرى، ضع صفرًا وفاصلة بعدها 43 صفرًا ثم واحد.
تشير جامعة كامبريدج إلى دراسة اللحظات المبكرة تلك بالكون الكمومي. في اللحظات الأولى من الانفجار العظيم، كان الكون صغيرًا جدًا بحيث لا تنطبق عليه قوانين الفيزياء الكلاسيكية. وبدلًا من ذلك، كانت فيزياء الكم هي اللاعب الأساسي. تتعامل فيزياء الكم مع الفيزياء على المستوى دون الذري، ويبدو معظم سلوك الجسيمات على المستوى دون الذري غريبًا بالنسبة لنا، لأن الجسيمات تبدو وكأنها تتحدى فهمنا للفيزياء الكلاسيكية. ويأمل العلماء باكتشاف الرابط بين الفيزياء الكلاسيكية وفيزياء الكم، ما سيعطينا المزيد من المعلومات عن كيفية عمل الكون.
في اللحظة المذكورة أعلاه، كان الكون بالغ الصغر والكثافة والسخونة. وقد غطت هذه المنطقة المتجانسة مساحة 1*10 مرفوعة للأس -33 سم. واليوم تغطي هذه المنطقة من الكون امتدادًا يُقدر بمليارات السنين الضوئية. أثناء هذه المرحلة، كانت المادة والطاقة متلازمتين، كما كانت قوى الكون الأساسية الأربع متحدة في قوة موحدة واحدة. كانت درجة حرارة هذا الكون تُقدر ب 1*10 مرفوعة للأس 32 كلفن، وبمرور جزءٍ صغير من الثانية، تمدد الكون بسرعةٍ كبيرة. ويشير علماء الكونيات إلى تمدد الكون باسم التضخم
inflation. لقد تضاعف حجم الكون عدة مرات في أقل من ثانية.
عندما تمدد الكون، انخفضت درجة حرارته، وعند اللحظة ز= 1*10 مرفوعة للأس -35، انفصلت المادة عن الطاقة. يسمي علماء الكونيات ذلك بنشأة الباريونات
baryogenesis، والمادة الباريونية هي نوع المادة التي يمكننا رصدها. وعلى النقيض من ذلك، لا يمكننا أن نرصد المادة المظلمة، لكننا نعلم بوجودها من خلال الطريقة التي تؤثر بها على الطاقة والمادة الأخرى. وأثناء نشأة الباريونات، امتلأ الكون بكميات متساوية من المادة والمادة المضادة. لقد كان هناك مادة أكثر من المادة المضادة، لذا وفي حين كانت معظم المكونات من المادة والمادة المضادة يفنيان بعضهما البعض، بقيت بعض المادة. ستتحد هذه الجسيمات فيما بعد لتؤلف معظم مكونات الكون من المادة
.
تلت فترةٌ من الكون الجسيمي العصر الكمومي. بدأت هذه الفترة عند ز= 1*10 مرفوعة للأس -11 ثانية، وهذه مرحلة يمكن للعلماء إعادتها في ظروفٍ مخبرية باستخدام مسرعات الجسيمات. يعني ذلك أنّنا نملك بعض البيانات الرصدية حول ما ينبغي أن يكون عليه الكون آنذاك. وتفككت القوة الموحدة إلى مكوناتها، وهي القوى الكهرومغناطيسية والنووية الضعيفة، وفاقت الفوتونات الجسيمات المادية، لكنّ الكون كان بالغ الكثافة بحيث لا يمكن للضوء أن يشع عبره.
بعد ذلك، أتت فترة الكون القياسي، الذي بدأ في اللحظة ز= 0.01 ثانية بعد بدء الانفجار العظيم، ومنذ هذه اللحظة، يعتقد العلماء أنّهم على درايةٍ بكيفية تطور الكون. لقد استمر الكون بالتمدد والتبرد، وبدأت الجسيمات دون الذرية التي تشكلت أثناء الحقبة الباريونية بالاتحاد مع بعضها البعض. لقد شكلت البروتونات والنترونات. وبحلول الزمن الذي مضت فيه ثانيةٌ على الانفجار العظيم، استطاعت هذه الجسيمات أن تشكل نوى العناصر الخفيفة كالهيدرجين ( على شكل نظيره الديتيريوم) والهيليوم والليثيوم. تُدعى هذه العملية بالاصطناع النووي
nucleosynthesis، لكن الكون كان لا يزال كثيفًا وحارًا جدًا لتتشكل الإلكترونات وترتبط بهده النوى لتشكل ذرةً مستقلة
.
هذا حال الكون في ثانيته الأولى، ماذا عن 13 مليار سنة التي تلت ذلك؟
لقد حدث الكثير في الثانية الأولى من الانفجار العظيم، لكن ذلك ليس سوى بداية الحكاية، فبعد 100ثانية، انخفضت درجة حرارة الكون حتى 1 مليار كلفن. واستمرت الجسيمات دون الذرية بالاتحاد، وكنسبةٍ كتلية، كان توزع العاصر 75 % تقريبًا من نوى الهيدروجين و24 % من نوى الهيليوم (النسبة المتبقية هي لعناصر خفيفة كالليثيوم).
كانت درجة حرارة الكون ما زالت مرتفعةً جدًا لترتبط الإلكترونات بالنوى، عوضًا عن ذلك، اصطدمت الإلكترونات بجسيمات دون ذرية أخرى تدعى البوزيترونات، لينتج عن ذلك المزيد من الفوتونات. لكن الكون كان كثيفًا جدًّا على السماح للضوء بالتألق داخله.
استمر الكون بالتمدد والتبرد، وبعد حوالي 56000 سنة، أصبحت درجة حرارة الكون 9000 كلفن. وفي هذه الأثناء، كانت كثافة توزع المادة في الكون مطابقةً لكثافة الإشعاع. وبعد 324000 سنة أخرى، تمدد الكون بما يكفي ليبرد حتى درجة الحرارة 3000 كلفن. وفي النهاية، تمكنت البروتونات والإلكترونات من الارتباط لتؤلف ذرات هيدروجين معتدلة.
أصبح الكون شفافًا بعد 380000 من الحدث الابتدائي، وتمكن الضوء من التوهج عبر الكون. وبقيت الأشعة التي أسماها البشر فيما بعد بأشعة الخلفية الكونية الميكروية حبيسة مكانها، لذا بدراستنا لهذه الأشعة اليوم يمكننا أن نستقرئ صورةً لما كان عليه الكون حينذاك.
في المئة مليون عام التي تلت ذلك، استمر الكون بالتمدد والتبرد. وتسببت تذبذبات جذبوية بتجمع جسيمات المادة مع بعضها البعض. وسببت الجاذبية تداعي الغازات في الكون لتشكل جيوبًا محكمة. وبانكماش الغازات، أصبحت أكثر كثافةٍ وحرارة. وبعد 100 إلى 200 مليون عام بعد الحدث الابتدائي لولادة الكون، تشكلت النجوم من هذه الجيوب الغازية.
بدأت النجوم تتجمع مشكلةً المجرات، وفي نهاية المطاف أصبح بعضها مستعرات عظمى (سوبرنوفا). وحين تنفجر النجوم، فإنها تلفظ المواد عبر الكون. تتضمن هذه المواد العناصر الأثقل التي عثرنا عليها في الطبيعة (كل شيء وصولًا إلى اليورانيوم). كما تؤلف المجرات بدورها عناقيدها الخاصة. وقد تشكل نظامنا الشمسي منذ ما يقارب ال4.6 مليار عام.
تبلغ درجة حرارة الكون اليوم 2.725 كلفن، وهي درجتين فقط فوق الصفر المطلق. ويصل القسم المتجانس من الكون الذي يمكننا الحديث عنه حتى 1*10 مرفوعة للأس 29 سم، وهذا أكبر مما يمكننا رصده فيزيائيًّا باستخدام أكثر المعدات الفلكية تقدمًّا.
ما الذي تخبرنا به نظرية الانفجار العظيم
يستخدم بعض علماء الكونيات نظرية الانفجار العظيم لتقدير عمر الكون. لكن وبسبب اختلاف تقنيات القياس، لا يوجد إجماعٌ بين العلماء على الرقم الفعلي. وفي الحقيقة، تمتد منطقة الخلاف لأكثر من مليار عام.
مصادم الهادرونات الكبير
لقد قاد اكتشاف أنّ الكون يتوسع إلى سؤالٍ آخر، هل سيستمر تمدده إلى الأبد؟ هل سيتوقف؟ هل سيصبح الأمر معكوسًا (ينكمش)؟ ووفقًا لنظرية النسبية العامة، يعتمد ذلك على مقدار المادة الموجودة في الكون.
يتلخص ذلك في الجاذبية. والجاذبية هي قوة التجاذب بين جسيمات المادة. ومقدار القوة الجاذبة التي يطبقها جسم على جسم آخر يعتمد على حجم كلا الجسمين والبعد بينهما. وإن كان هناك ما يكفي من المادة في الكون، ستبطئ قوة الجاذبية من تمدد الكون مسببةً انكماش الكون. سيسمي علماء الكونيات ذلك بالكون المغلق closed universe ذي الانحناءات الموجبة. ولكن إن لم يكن هناك ما يكفي من المادة لعكس التمدد، سيتمدد الكون إلى الأبد. ومن شأن هذا الكون ألّا يمتلك انحناءات أو أن تكون انحناءاته سالبة.
بالنظر إلى سيناريو الكون المغلق، سيتقلص الكون بأكمله ليتداعى على نفسه في نهاية المطاف. ويدعو علماء الكونيات ذلك بالانكماش العظيم Big Crunch. وقد صاغ بعضهم نظريةً مفادها أن كوننا ما هو إلّا الأخير في سلسلةٍ من الأكوان الناشئة في دائرةٍ من فضاءٍ يتمدد ويتقلص.
وفقًا لنظرية الانفجار العظيم، لا يوجد مركز للكون. فكل نقطةٍ من الكون تماثل جميع نقاطه الأخرى تمامًا، دون موقعٍ مركزي. من الصعب تخيل ذلك طبعًا، لكنّ ذلك من متطلبات كونٍ متجانس ومتناظر. ومن منظورنا نحن، يبدو وكأن كل ما في الكون يتحرك مبتعدًا عنا وفق ما اقتُرح بنظرية الانفجار العظيم. نظريةٌ أخرى بديلة هي أنّ الأرض هي مركز الكون، ما سيفسر السبب في أن تبدو جميع الأجسام مبتعدةً عنها. وقد صرف العلماء النظر عن هذه النظرية، فمن غير المرجح وبشدة أن نكون نحن الكائنات التي يحتل موطنها مركز الكون.
ساتل بلانك
لا بد من الإشارة أيضًا إلى أنّ نظرية الانفجار العظيم لا تجيب عمّا يلي:
- ما الذي حدث قبل الانفجار العظيم؟ وانطلاقًا من مفاهيمنا العلمية، لا يمكننا أن نعرف ذلك. إن قوانبن العلم تنهار كلما اقتربنا من ز=0 ثانية. وبما أن نظرية النسبية العامة تخبرنا بأن الزمان والمكان مرتبطان، يتوقف أيضًا وجود الزمن. وما دامت إجابة هذا السؤال تكمن خارج المقاييس التي يمكن للعلم معالجتها، فلا يمكننا افتراض شيءٍ حول ذلك.
- ماذا يوجد خلف الكون، أو خارج الكون؟ وثانيةً يُعد هذا السؤال دون إجابة. وذلك لأننا لا نستطيع أن نرصد أو نقيس أي شيء كائنٍ خارج حدود الكون. وقد لا يكون الكون متمددًا في بعضٍ من بناه، لكن يستحيل أن نعرف ذلك.
- ما هو شكل الكون؟ هناك عدة نظريات حول الشكل المحتمل للكون. يعتقد البعض أن الكون لا شكل ولا حدود له. ولا تتعرض نظرية الانفجار العظيم إلى هذه النقطة على وجه الخصوص.
رغم شيوعها ، لكنها لا تروق للكثيرين. فلماذا لا يوافق البعض على نظرية الانفجار العظيم، وما البديل المفترض لهذه النظرية؟؟؟
مشاكل نظرية الانفجار العظيم
منذ أن طرح العلماء نموذج الانفجار العظيم، والكثير من الناس يتساءلون وينتقدون هذا النموذج. وإليكم ملخصًا عن أبرز الانتقادات الموجهة لنظرية الانفجار العظيم.
- انتهاكها القانون الأول في الترموديناميك، والذي يقول بأنه لا يمكن خلق المادة أو الطاقة أو إفناؤهما. ويقول القائلون بذلك أنّ نظرية الانفجار العظيم تشير إلى كونٍ بدأ من لا شيء. أما أنصار النظرية فيقولون أنّ هذا الانتقاد لا مبرر له لسببين: أولهما أن نظرية الانفجار العظيم لا تُعنى بموضوع خلق الكون، بل هي معنيةٌ بتطوره ونشأته. امّا السبب الآخر فهو وبما أن قوانين العلم تنهار بالاقتراب من لحظة خلق الكون ز=0 ثانية، فلا داعٍ للاعتقاد بان القانون الأول في الترموديناميك سيكون ساري المفعول.
- يقول بعض النقاد أيضًا أن تشكل النجوم والمجرات ينتهك قانون الأنتروبي، والذي ينص على أنّ الأنظمة المتغيرة تصبح أقل انتظامًا مع مرور الزمن. لكنّك إن نظرت إلى الكون المبكر ككيانٍ كامل التجانس والتناظر، ستجد أنّ الكون الحالي ينسجم وقانون الأنتروبي.
- يقول بعض الفيزيائيين الفلكيين وعلماء الكونيات أن العلماء أساؤوا تفسير أدلةٍ كالانزياح نحو الأحمر للأجرام السماوية وأشعة الخلفية الكونية الميكروية. ويستشهد البعض بغياب الأجسام الكونية الغريبة التي كان ينبغي أن تكون ناتجًا للانفجار العظيم وفقًا للنظرية.
- إنّ حقبة التضخم المبكرة للانفجار العظيم تبدو وكأنها تنتهك قاعدة أنّ لا شيء ينتقل بسرعةٍ أكبر من سرعة الضوء. ولم يلقِ مؤيدو نظرية الانفجار العظيم كثير بال إلى هذه النقطة. ففي بداية الانفجار العظيم، لا تسري نظرية النسبية. وكنتيجةٍ لذلك، لا ضير من الانتقال بسرعةٍ أكبر من سرعة الضوء. كذلك من الردود على ذلك أنّ الكون ذاته يمكنه أن يتمدد بسرعةٍ أكبر من سرعة الضوء، بما أن الفضاء (الفراغ) يقع خارج نظاق الجاذبية.
بالطبع هناك العديد من النماذج البديلة المطروحة والتي هي محاولات لتقسير نشوء الكون وتطوره، رغم أنّه ولا واحدةٍ منها تلقى القبول الذي تلقاه نظرية الانفجار العظيم.
- نظرية الحالة المستقرة Steady State theory: تقترح هذه النظرية كونًا كان دومًا وسيبقى ذو كثافةٍ ثابتة. وتتوافق هذه النظرية مع الأدلة الظاهرية لتمدد الكون باقتراح أنّ الكون يولد مادة بمعدلٍ يتناسب طردًا مع تمدده.
- نظرية الكون الإكبيروتيكي Ekpyrotic Universe: تقترح هذه النظرية أنّ كوننا هو نتيجة تصادم عالمين ثلاثيي الأبعاد في فضاءٍ له بعدٌ مكاني إضافي رابع. وهي لا تتعارض بالكامل مع نظرية الانفجار العظيم، فبعد مرور زمنٍ معين، تصطف إلى جانب الأحداث الموصوفة بنظرية الانفجار العظيم.
- نظرية الارتداد العظيم Big Bounce: تقترح هذه النظرية أنّ كوننا هو واحدٌ من سلسلة أكوان تمددت أولًا، ومن ثم انكمشت ثانيةً. وتُعاد الكرة بعد عدة مليارات من السنين.
- نظرية كون البلازما Plasma Cosmology: تحاول وصف الكون بعبارات خصائص الديناميكا الكهربائية للكون. فالبلازما هي غازٌ متأين، ما يعني أنّه غاز بإلكترونات حرة جوالة يمكنها إيصال الكهرباء.
وهناك العديد من النماذج الأخرى كذلك، فهل من الممكن أن تحل واحدةً من هذه النظريات يومًا ما مكان نظرية الانفجار العظيم.. كل شيء وارد، فبمرور الوقت تزداد إمكانياتنا المتاحة لدراسة الكون، وسنغدو يومًا قادرين على إنشاء نموذجٍ دقيق عن تطور الكون ونشأته.
للامانة منقول