نظريات العلمية في تفسير الظاهرة الاجرامية:
تعددت النظريات التي طرحت بشأن تفسير الظاهرة الاجرامية، فهي ظاهرة فردية وظاهرة اجتماعية في آن واحد، وبالنظر اليها كظاهرة فردية اتخذ بحثها طابعاً بيولوجياً ونفسياً، وبالنظر اليها كظاهرة اجتماعية اتخذ بحثها طابعاً اجتماعياً.
1ـ نظرية لومبروزو ونموذج الانسان المجرم بالولادة:
عمل الاستاذ سيزاري لومبروزو (1835ـ1909) في بداية حياته طبيباً في الجيش الايطالي ثم عين بعدها استاذاً للطب الشرعي والعقلي في جامعة بافيا ثم في جامعة تورينو. وبحكم امتلاك لومبروزو الروح التأملية وعمله في الجيش ومراقبته للسلوك الاجرامي للجنود قام بوضع اساس فكرته عن السلوك الاجرامي من خلال دراسته للظاهرة العضوية للمجرمين، ووضع خلاصة بحوثه العلميه في مؤلفه الشهير (الانسان المجرم).
حيث ابتدأ رحلته العلمية بالتأمل في سلوك الجنود المنحرفين عن طريق فحصهم ودراسة تكوينهم الجسماني. وكان لومبوزرو يهدف من وراء ذلك ايجاد الخصائص المشتركة بين الجنود المنحرفين ومن ثم مقارنتها مع الخصائص المشتركة للجنود الاسوياء.
وقد لاحظ لومبروزو ان الجنود المنحرفين يتميزون بعدة مميزات جسدية لم تكن موجودة في الجنود الاسوياء، حيث لاحظ ابتداءا ومن الناحية الظاهرية ان الجنود المنحرفين يميلون الى احداث الوشم والرسوم القبيحة على اجسادهم كما وتبين له عند تشريحه لجثث عدد من المجرمين الذين ارتكبوا جرائم تتسم بالعنف والقسوة وجود عيوب خلقية في تكوينهم الجسماني وشذوذ في الجمجمة.
واثباتاً لدور الصفات العضوية قام لومبروزو بتشريح مايقرب من 383 جمجمة لمجرمين متوفين كما فحص حوالي 5907 من المجرمين الاحياء، ومن ابرز الحالات التي درسها حالة لص وقاطع طريق خطر يدعى فيللا، حيث فحصه اثناء حياته وشرح جثته بعد وفاته. وقد وجد تجويفاً في قاع جمجمته مشابهاً لما هو موجود لدى بعض الحيوانات الدنيا كالقرود والطيور، كما وتوصل الى نتائج مشابهة عند دراسته حالة مجرم خطر اخر يدعى فرسيني الذي اعترف بقتل عشرين امرأة بطريقة وحشية وشرب دمائهن، حيث تبين له اتصاف هذا المجرم ببعض الخصائص الجثمانية والتشريحية.
وقد ولد ذلك القناعة لدى لومبروزو بوجود نموذج للانسان المجرم بطبيعته، وهو الشخص الذي ترشحه منذ ولادته خائص بيولوجية معينة لان يصبح مجرماً.
وحسب لومبروزو فأن المجرم نمط من البشر يتميز بخصائص عضوية ومظاهر جسمانية شاذة تنتقل بالوراثة، اطلق عليها وصف علامات الرجعة، يرتد بها المجرم إلى عصور ما قبل التاريخ حيث تتطابق الخصائص البيولوجية للانسان المجرم مع خصائص الانسان البدائي الاول.
بمعنى اخر ان الإنسان المجرم بنظر لومبروزو ما هو الا انسان بدائي يحتفظ عن طريق الوراثة بالصفات البيولوجية والخصائص الخلقية الخاصة بانسان ما قبل التاريخ.
وبالنظر لتعرض نظرية لومبروزو للنقد فقد قام بتعديل بعض ارائه في هذا الشأن، فذهب بشأن الطبيعة الوراثية للاجرام الى ان العلامات الارتدادية لا تحدث لوحدها السلوك الاجرامي وانما يجب ان تتفاعل مع شخصية من يحملها اذا تهيأت الظروف لانتاج السلوك الاجرامي. وانتهى الى القول الى ان العلامات الارتدادية تكون موجودة لدى اغلب المجرمين ولكن ليس كلهم، كما انها يمكن ان توجد لدى غير المجرمين. كما لا يمكن لعامل الوراثة بمفرده ان يرشح السلوك الاجرامي وانما ينبغي ان تتظافر معه عوامل اخرى يكتسبها الفرد بعد الميلاد.
وفي نهاية الامر توصل لومبروزو الى تقسيم المجرمين الى خمس فئات هي: المجرم بالولادة، المجرم المجنون، المجرم بالعاطفة، المجرم بالصدفة والمجرم بالعادة.
وبالنسبة للانسان المجرم بالولادة، وهو محور نظرية لومبروزو، فانه يتميز عن الانسان العادي بخصائص ومظاهر شذوذ جسمانية من اهمها:
صغر حجم الجمجمة وعدم انتظامها، بروز عظام الوجنتين وضخامة ابعاد الفك والشذوذ في تركيب الأسنان، شذوذ في حجم الاذنين، وكثرة غضون الوجه، عدم انتظام وتشابه نصفي الوجه، ضخامة الشفتين وبروزهما، غزارة شعر الرأس والجسم،والطول المفرط للذراعين،، واستعمال اليد اليسرى وضخامة الكفين.
كما يتميز المجرم بصفات نفسية مختلفة عما هو موجود لدى الانسان لعادي ومنها: القسوة البالغة وعنف المزاج وحب الشر، انعدام الاحساس بالالم والميل الى الوشم، اللامبالاة وعدم الشعور بتأنيب الضمير وعدم الحياء.
وبالاضافة إلى تلك الصفات العامة وقف لومبروزو على بعض الملامح العضوية التي تميز بين المجرمين.
فالمجرم القاتل يتميز بضيق الجبهة، وبالنظرة العابسة الباردة، وطول الفكين وبروز الوجنتين، بينما يتميز المجرم السارق بحركة غير عادية لعينيه، وصغر غير عادي لحجمهما مع انخفاض الحاجبين وكثافة شعرهما وضخامة الانف وغالباً ما يكون أشولاً.
ومع الانتقادات الكثيرة التي وجهت لنظرية لومبروزو فانه سيبقى المؤسس والرائد الأول لعلم الانتروبولوجيا الجنائية.
2ـ ارنست هوتون والانحطاط الجسماني
اعتمد الاستاذ هوتون على علم الاحصاء لدراسة الاجرام،وكان موضوع الدراسة طيف واسع من المجرمين وغير المجرمين موزعين على ثمان ولايات امريكية، وراعى في اختيارهم التماثل نسبياً من حيث الظروف،وكانت العينة محل الدراسة مكونة من (13873) من السجناء، اما الجماعة الضابطة (معيار المقارنة) فتكونت من (3230) انتقاهم هوتون من بين طلبة الجامعات ورجال الاطفاء والشرطة والمرضى الراقدين في المستشفيات، من البيض والسود، واستمرت الدراسة حوالي تسع سنوات.
وخلاصة ما توصل اليه، ان المجرمين يختلفون عن الناس الطبيعين اختلافاً واضحاً في مقاسات اعضائهم الجسمانية، وان مظاهر الشذوذ الجسماني هذه تشابه علامات الرجعة التي قال بها لومبروزو، كما انهم يختلفون في الملامح الخارجية، مثل شكل الانف والاذن والشفة والجبهة ولون العين.
فضلاً عن اتصاف المجرمين بانحطاط جسماني حدده هوتون بـ (107) صفات ترجع اساساً الى العوامل الوراثية. وقرر هوتون، ان لهذا الانحطاط والشذوذ البدني اهميته البالغة في تبرير السلوك الاجرامي لانه علامة الانحطاط العقلي.
واعطى هوتون اهمية خاصة للمقارنة بين طوائف المجرمين حسب نوع الجريمة المرتكبة، وانتهى الى ان كل طائفة تتميز بنوع من الشذوذ البدني تمثل الميل الى ارتكاب نوع معين من الجرائم وهكذا فان الشذوذ والانحطاط الجسماني لدى القاتل هو غيره لدى السارق وعلى النحو الاتي:
ـ ان طوال القامة ضعاف الجسم يميلون الى ارتكاب جرائم القتل وجرائم النهب.
ـ ان طوال القامة ضخام الجسم يميلون الى ارتكاب جرائم الغش والخداع.
ـ قصار القامة ضخام الجسم يميلون الى ارتكاب الجرائم الجنسية.
3ـ فرويد والذات الدنيـا:
سيكموند فرويد، عالم وطبيب نمساوي (1856ـ1939) اهتم بدراسة علم الاعصاب، اتصف بالذكاء الشديد الذي دلت عليه براعته الفائقة في عرض افكاره واستنتاجاته. واثرت افكاره وما برحت تؤثر في نفوس عدد كبير جداً من العلماء والباحثين في نطاق المعمورة ودافعوا عنها بكل قوة كلما تعرضت للنقد والتجريح.
ومن اهم مؤلفاته (مدخل الى التحليل النفسي)، (نظرية الاحلام)، (افكار لازمنة الحرب والموت)، (الاضطراب النفسي في الحياة اليومية).
يذهب فرويد الى ان الكيان النفسي للانسان يتكون من ثلاث اقسام هي الذات الدنيا والذات والذات العليا.
الذات الدنيا: وتمثل الجانب الشهواني من النفس الذي يضم الغرائز والاحاسيس والنزعات الفطرية الموروثة من الانسان البدائي الاول. وهذه الذات، بما تتضمنه من ميول ورغبات كالرغبة في الانتقام وتعذيب الخصوم والاعتداء والافعال الجنسية المحرمة، لا تتوافق مع النظام الاجتماعي المتطور وقيمه في الحياة المدنية المعاصرة.لذلك فان الانسان المعاصر يبقيها مكبوتة في اعماق نفسه بحكم عوامل التربية الاخلاقية التي تتطلب منه الخضوع لقيم ومعايير المجتمع السائدة.
غير ان هذه الغرائز المكبوتة تظهر للسطح كلما تهيأت لها ظروف واحوال ملائمة، فيكون ظهورها اما ظهوراً صريحاً او ظهوراً مقنعاً، بحثاً عن فرصة ذاتية للاشباع.
ويذهب فرويد الى ان الاحـلام تجسد الظهور بشكله المقنع للميول البدائية، وتعبر عن الرغبات المكبوتة في اعماق النفس، كالحب او الكراهية.
وعلى هذا التصور فان حالة النوم الطبيعي تقدم لنا مثلاً رائعاً عن مرونة الحياة العقلية وعن طريقها يمكن ان نفسر الارتداد في حياتنا الانفعالية الى احدى المراحل السابقة للتطور فيكون الحـلم ممثلاً للحياة النفسية اثناء النوم ومن ثم يكون موضوعا للتحليل النفسي.
ووفقاً لتصور فرويد فان الذات الدنيا هي العالم الذاتي الحقيقي الذي يحرص على بلوغ اللذة والابتعاد عن الألـم.
الذات (النفس): وتجسد الجانب الواعي الذي ينسجم مع الواقع والعقل.
وتتصل الذات بالجانب الاجتماعي فتكون وظيفتها القيام بدور وسيط مهمته تحقيق التكييف او التوافق بين الميول والنزعات الغرائزية ولاسيما الجنسية منها من جهة وبين القيم الاجتماعية والاخلاقية والدينية والقانونية من جهة اخرى.
وفشل الذات في وظيفتها هذه قد يؤدي الى انفلات شهوات النفس البدائية من مكامنها بما يتعارض تماما مع تلك القيم، او يؤدي الى التسامي بالنشاط الغريزي عن طريق الابقاء عليه مكبوتاً فيما وراء الشعور.
ويُشبه فرويد الذات بالفارس، ويُشبه الذات الدنيا بالفرس الجامح، فمهمة الفارس كبح جماح الفرس والسيطرة عليها، والا انساق معها نحو الاخطار والاهوال.
الذات العليا: وتمثل ضمير الانسان والجانب المثالي من الحياة النفسية، وفيه تكمن المباديء العليا والقيم السامية التي اكتسبها الانسان اثناء طفولته من والديه ومعلميه ورجال الدين ومن اعتبرهم مثالا يحتذى به اثناء مراحل حياته ومن القيم الاخلاقية والدينية.
والضمير مصدر ردع قوي للشهوات ومنه يستمد العقل القوة اللازمة لضبط الميول والنزعات والغرائز البدائية.
فوظيفة الضمير مراقبة العقل ومحاسبته عن اي توجه نحو اشباع النزعات بطريقة بدائية ويرشده الى الطريق المتزن لاشباع هذه الرغبات بطريقة مشروعة تتفق مع القيم السائدة، وفي ضوء ما تقدم يرى فرويد ان تآلف وتفاعل الذات الدنيا والذات والذات العليا يحقق الاتزان الداخلي الذي يكون من سمات الشخص الاعتيادي.
الا ان هذا التفاعل لا يتحقق بسهولة فقد ينجم عن تفاعلهما حالة من الصراع وعدم الانسجام مما يؤدي بالفرد الى ارتكاب سلوك مخالف لنظام المجتمع وقيمه السائدة يتمثل في السلوك الاجرامي. فالسلوك الاجرامي هو اما نتيجة عجز الجانب العقلاني (الذات) عن اداء وظيفته، واما نتيجة انعدام الجانب المثالي، ومن ثم تقع الجرائم اما عن طريق انفلات الغرائز والميول الشهوانية، واما عن طريق العقد النفسية التي تُكبت في الجانب اللاشعوري من العقل وتقوم بتوجيه سلوك الانسان وجهة اجرامية دون وعي او ادراك منه. وقد تجرف الذات الدنيا بتيارها الذات وتسخرها لتنفيذ رغباتها ونزعاتها الطائشة.
ويعطي فرويد امثلة عن الخلل والاضطراب الذي يصيب الكيان النفسي نتيجة عجز الضمير والعقل عن اداء وظيفتهما، ومن هذه الامثلة عقدة اوديب وعقدة الذنب.
عقدة اوديب: تتسم العلاقات العاطفية لدى جميع الافراد بنظر فرويد بالازدواج، اي مشاعر الحب والكراهية تجاه الشيء الواحد في نفس الوقت. وحينما يبلغ الطفل مرحلة السادسة من العمر مجتازاً مرحلته الجنسية الذاتية تتجه ميوله نحو اول كائن يؤثر فيه وهو امه ويحرص على ان لا يشاركه احد في حبها وان تبقى خالصة له الا ان امنيته هذه تصطدم بعقبة كبيرة تنافسه في حب امه هي الاب، فيتولد لديه نوع من الغيرة والانانية فيبدأ بكراهيته وعدم الشعور بالراحة عند وجوده مع رغبة شديدة في التخلص منه. الا ان هذه الرغبة تصطدم بنزعة معاكسة لها وهي شعور الطفل بحب ابيه وعطفه وحنانه ورعايته فينشأ في نفس الطفل نوعين متناقضين من الرغبات تجاه الاب هي مشاعر الكراهية والحب. وان لم تقم الذات (العقل) في تكييف هذا الازدواج مع القيم الاجتماعية وذلك بتغليب شعور الحب نحو الاب فان عقدة نفسية خطيرة ستستقر في جانب اللاشعور من عقل الطفل تسمى عقدة اوديب.
ولهذه العقدة اثار سيئة منها، انعدام القدرة على تكوين التوازن النفسي والتكييف الاجتماعي وبالتالي الاتيان بسلوك شاذ.
كما ان البغض اللاشعوري تجاه الاب يولد في نفس الابن شعور بالكراهية تجاه ممثل كل سلطة كالمعلم والمدير ورئيس الدولة وكل جهة سلطوية او رقابية، ويميل الى انتهاك القوانين والانظمة المرعية رسمية كانت ام غير رسمية.
ومن مظاهر عقدة اوديب ان المصاب بها يتعرض لصدمة عنيفة قد تتطور الى انهيار نفسي عند وفاة امه.
ويرى بعض علماء الطب النفسي المعاصرين، انه ينبغي على الوالدين الا يظهرا مشاعر الحب المتبادل امام الاطفال، وانه اذا كان لابد من ذلك، فيجب ان يشركا الاطفال في هذا الوجدان.
عقدة الذنب: تتحقق عقدة الذنب عندما يطغى على الانسان شعور بالذنب والتقصير، بسبب مغالاة الضمير في تأنيب الذات نتيجة سيطرة استبدادية، فاذا ما غالى الوالدان في توبيخ الطفل ومعاقبته بقسوة فان من شان هذا التصرف الخاطيء من جانب الوالدين ان يسبب خللا كبيراَ في الجانب المثالي للطفل فيكون هذا الجانب قاسياً وصارماً في رقابته وتوجيهه للطفل بحيث انه يجعل من ابسط الهفوات والاخطاء في نظر الطفل خطايا كبيرة يستحق من اجلها العقاب الشديد وبالتالي يستأثر هذا الشعور المرضي بعقل الصغير ويسيطر على ملكاته ويرى فرويد ان شدة الشعور بالخطيئة قد يكون من اقوى البواعث على الاجرام لا نتيجة ارتكاب الجرم ذاته.
ومن جانب اخر فان هذه العقدة تصيب الانسان فتظهر عليه علامات الاضطراب النفسي نتيجة غياب الذات العليا فيرتكب سلوكاً شاذاً غيرمألوف وان لم يصل الى حد الجريمة، ثم يستعيد بعد ذلك الضمير قدرته على التوجيه والمحاسبة وهنا تنشأ عقدة الشعور بالذنب والخطيئة لديه.
ان هذا الشعور يضغط على صاحبه بالتأنيب المستمر ولا يستطيع منه فكاكاً ولا يتمكن من التخلص من هذا الشعور الا اذا عرض نفسه للمتاعب وقد يرتكب الجريمة ليثير نقمة المجتمع عليه ولا تهدأ نفسه الا اذا نال الجزاء المناسب.
4ـ بونجيه والعامل الاقتصادي
يذهب الاستاذ والعالم الهولندي وليم ادريان بونجيه (1876ـ 1940) استاذ علم الاجتماع في جامعة امستردام
الى ان الجريمة هي نتاج العوامل الاقتصادية السائدة في المجتمع الرأسمالي.
ويبدو تأثر بونجيه واضحاً بافكار كارل ماركس وسذرلاند، حيث يرى ماركس ان كل الظوهر السلبية التي تظهر في المجتمع ومنها ظاهرة الجريمة ترجع اساساً الى الخلل الذي يصيب النظام الاقتصادي السائد، ذلك ان نظام الانتاج الاقتصادي يتحكم في نواحي الحياة كافة ومنها النشاط الانساني المكون للسلوك الاجرامي، وان مظاهر الخلل تصيب المجتمع الرأسمالي بسبب طبيعة العلاقات الاقتصادية السائدة وان اصلاح المجتمع كله يتأتي من اصلاح هذا النظام.
بينما يرجع الاستاذ سذلارند السلوك الاجرامي الى الانقلاب الحاصل في القيم والمفاهيم بعد الثورة الصناعة حيث انصب الاهتمام على جمع المال وتكنيزه باية وسيلة وبدون مشقة لتحقيق الرفاهية والسعادة، بحيث ان المال والثروة اصبح يعني القيمة الاجتماعية العالية والادخار فضيلة من الفضائل في حين ان الفقر يعني المذلة والمهانة وقد ادى هذا الانقلاب في المفاهيم والقيم الى زيادة الظاهرة الاجرامية اذ انصب الاهتمام على جمع المال وكنزه اكثر من الاهتمام بطريقة كسبه. فالتاجر في النظام الراسمالي يسعى لبيع سلعته باعلى ربح ممكن حتى لو حصل عليها بابخس الاثمان ويتبع في سبيل ذلك كل الوسائل غير المشروعة كالغش والتزوير والاحتيال والبلاغ الكاذب للصمود امام منافسيه بل وتشويه سمعتهم لازاحتهم عن طريقه لتخلو له الساحة، والافعال المتقدمة ما هي الا جرائم.
وفي ضوء ذلك يذهب بونجيه الى ان ضغط النظام الاقتصادي الراسمالي على سلوك افراد المجتمع يرتب اثاراً سيئة على ذلك السلوك ومنها الانانية والشعور بالحقد مما يدفع البعض الى ارتكاب الجريمة.
فكل فرد حسب بونجية يكتسب غرائز اجتماعية، ان لاقت ظروفاً اجتماعية صالحة ترسخت في الفرد الغرائز الجيدة مما يعني استبعاد الغرائز الفردية المتسمة بالانانية مما يجعل من سلوكه متسماً بالمحبة والسعي لفعل الخير، بينما اذا لاقت ظروفاً سيئة تأكدت لدى الفرد مشاعر الحقد والانانية ومن ثم تجرف صاحبها نحو الشر والجريمة.
ويقرر بونجيه في النهاية بان الظروف الاقتصادية غير الملائمة للنظام الراسمالي بما تفرزه من فروق اجتماعية واسعة من شأنها ان تثير الحقد والانانية لدى الطبقة العاملة ضد طبقة الرأسماليين ومن ثم يندفع بعض افراد الطبقة العاملة، تعبيراً عن هذه الغرائز الفردية، نحو طريق الشر والجريمة.
5ـ دي توليو والاستعداد الاجرامي
يرى الاستاذ والعالم الايطالي دي توليو (di Tullio.B) أن السلوك الإجرامي لا يمكن تفسيره بارجاعه إلى سبب واحد، كالتكوين البيولوجي او النفي او العامل الاجتماعي او الاقتصادي كلا على انفراد، بل ان اتحاد هذهالعوامل هو الذي يفسر السلوك الاجرامي. واساس نظريته في تفسير السلوك الاجرامي قائم على فكرة التكوين الاجرامي اي الاستعداد الفطري لارتكاب الجريمة وهو ـ حسب وجهة نظره ـ ما يميز المجرم عن غيره من الناس الاسوياء.
فقد ذهب دي توليو الى تصنيف المجرمين على أساس أن الجريمة هي نتيجة تفاعل مجموعة من العوامل الداخلية
(البيولوجية) مع مجموعة من العوامل الخارجية (العوامل الاجتماعية).
ولذلك يذهب دي توليو الى أن هناك أفراد لديهم ميل أو إستعداد جرمي لا يتوافر لدى الاخرين ويستدل توليو على ذلك بالقول ان محفزاً او مؤثرا خارجيا واحدا قد يواجه شخصين الا ان ردة فعل كل منهما تختلف عن الاخر فقد يكون وقعه على احدهما شديداً مما يدفعه الى ارتكاب الجريمة بينما يتصرف الاخر باتزان ويحجم عن ارتكاب الجريمة. فهذه المؤثرات تكون بمثابة محفزات للنزعة الاجرامية الموجودة اصلاً، وترتبط هذه النزعة لديهم بتكوينهم الجسمي والنفسي الخاص مما يميزهم عن الانسان العادي.
وفي ضوء هذا التصور قسم دي توليو الإستعداد الاجرامي من حيث مدى تأثير الاسباب التي تدفع الى ارتكاب الجريمة الى نوعين، الاستعداد الاجرامي العارض والاستعداد الاجرامي الاصيل.
النوع الأول منهما يرجعه الى عوامل إجتماعية وشخصية تكون اقوى من قدرة الجاني على ضبط توازن مشاعره فيخلق لديه استعداد عارض او فجائي يحرك عوامل الجريمة لديه واطلق عليه دي توليلو اسم (المجرم بالصدفة او العاطفي) وهو ذلك الشخص الذي يقع في الجريمة تحت تأثير ضغط ظرف استثنائي خارجي مع توفر بعض العوامل الداخلية الخاصة، اذ يصدر الفعل الجرمي عنه عرضا نتيجة لظرف خارجي كالبطالة والازمات الإقتصادية والهجرة او حالة نفسية طارئة كالاستفزاز الخطير او الانفعال الشديد كاليأس والحقد والشعور بالحيف الاجتماعي، مما يخل بتوازن المانع من الجريمة مع الدافع اليها، ويؤدي ذلك الى تغليب الدافع على قوة المانع لديه فيترتب على ذلك احتمال ارتكابه للجريمة.
وعلى هذا فان الاجرام بالصدفة يرجع أساسا إلى ظروف خارجية تحيط بالمجرم فضلا عن ظروف شخصية...، على أن العوامل الخارجية او النفسية الطارئة هذه لا تقلل من اهمية العوامل الداخلية لدى المجرم، إذ ليس كل من يتعرض لظروف إجتماعية قاسية او ظروف نفسية طارئة يرتكب جريمة.
اما النوع الثاني فيرجعه إلى التكوين الفطري للانسان من الناحيتين الجسمانية والنفسية، وهذا هو الاستعداد الاجرامي الاصيل الذي يدفع الى ارتكاب الجرائم الخطرة واحتراف الاجرام. واطلق عليه دي توليو اسم (المجرم بالعادة أو بالتكوين)، وهو الشخص الذي يعاني من نقص في تكوينه، كالنقص الجسماني أو الخلل في الجهاز العصبي فان تاثير الحالة التكوينية على سلوكه يكون اكثر تاثيراً من الظروف الاجتماعية. ذلك ان المجرم بالعادة يتميز بتوافر ميل داخلي أو تكويني في شخصيته يدفعه الى الاجرام، ففي هذه الحالة تتضاءل المقاومة أو قوة المانع تضاؤلا جسيما امام قوة الدافع مما يخلق لديه ميلاً دائما الى ارتكاب الجريمة.
ويبدو واضحاً ان المجرم بالعادة او بالاصالة يكون اشد خطراً من المجرم بالصدفة، لان المجرمين بالاصالة يتسمون بالعود الى ارتكاب الجريمة واحتراف الاجرام ولا يردعهم عقاب من ارتكاب الجريمة والعود اليها بالنظر لاتصاف استعدادهم الاجرامي بالثبات
للفائدة والثقافة القانونية --منقول