لما كان العلم أشرف النعم، وأعلى المنازل والرتب، ولما كان كذلك ميراث الأنبياء، وكان الطريق المؤهل إلى الجنة، فلابد أن يكون تحصيله بمجهودٍ عظيم، وتضحيةٍ ثمينة؛ وكيف لا والمكارم منوطة بالمكاره، والسعادة لا يعبر إليها إلا على جسرٍ من التعب؟!

المشقة والتضحية في تحصيل العلم
وقد أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن سلوك طريق الآخرة بصفة عامة صعبٌ، وأن تحصيل الآخرة متعسرٌ لا يحصل إلا بسعي حثيث، فقال -كما روى أبو هريرة رضي الله عنه : "أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَاليةٌ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ" [1].
وعلى هذا السياق روى الإمام مسلم في صحيحه عن يحيى بن أبي كثير رحمه الله أنه قال: "لاَ يُسْتَطَاعُ الْعِلْمُ بِرَاحَةِ الْجِسْمِ" [2].
ويقول الإمام النووي رحمه الله في وصفه لطالب العلم: "ينبغي أن يكون حريصًا على التعلم، مواظبًا عليه في جميع أوقاته، ليلاً ونهارًا، وسفرًا وحضرًا، ولا يُذهب من أوقاته شيئًا في غير العلم إلا بقدر الضرورة، لأكل ونوم قدرًا لابد له منه ونحوهما، كاستراحة يسيرة لإزالة الملل، وشبه ذلك من الضروريات، وليس بعاقل من أمكنه درجة ورثة الأنبياء ثمَّ فوتها!!" [3].
ويقول ابن القيم رحمه الله: "وأما سعادة العلم فلا يورثك إياها إلا بذل الوسع، وصدق الطلب، وصحة النية" [4].
ويؤكد على ذلك ابن الجوزي رحمه الله فيقول: "تأملت عجبًا، وهو أن كل شيءٍ نفيسٍ خطيرٍ يطول طريقه، ويكثر التعب في تحصيله، فإنَّ العلم لما كان أشرف الأشياء لم يحصل إلا بالتعب والسهر والتكرار، وهجر اللذات والراحة ..".
وهو الذي قال أيضًا: "قال بعض الفقهاء: بقيت سنين أشتهي الهريسة ولا أقدر على شرائها؛ لأن وقت بيعها وقت سماع الدرس!!" [5].

صبر الإمام أحمد على العلم

ولما رأى أحد أصحاب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله جهده ومثابرته سأله قائلاً: إلى متى تستمر في طلب العلم، وقد أصبحت إمامًا للمسلمين وعالمًا كبيرًا؟! فقال له: "مع المحبرة إلى المقبرة" [6]!!
ومعنى ذلك أنه سيستمر في طلب العلم إلى أن يموت ويدخل القبر، رغم أنه لم يكن في عصره من هو أحفظ منه لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إنهم لَقَّبوه: "إمام السنة وفقيه المحدثين".
وهو الذي قال عنه ابن رافع: رأيت أحمد بن حنبل بمكة بعد رجوعه من اليمن وقد تشقَّقت رجلاه وأبلغ إليه التعب، فقال لي: يا أبا عبد الله، ما أخلقني أن لا أرحل بعدها في حديث. قال: ثم بلغني أنه صار إلى أبي اليمان بعد اليمن، أي إلى حمص [7]!!
وقد خرج الإمام أحمد إلى طرسوس ماشيًا على قدميه لعجزه عن النفقة في السفر!! [8].
وهو الذي قال: "لو كان عندي خمسون درهمًا لخرجت إلى جرير بن عبد الحميد إلى الري (كان إمامًا في الرواية)، فخرج بعض أصحابنا ولم يمكني الخروج لأنه لم يكن عندي!!" [9].

الصبر على العلم

يقول الشافعي رحمه الله: "حق على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من علمه، والصبر على كل عارضٍ دون طلبه، وإخلاص النية لله تعالى في إدراك علمه نصًا واستنباطًا، والرغبة إلى الله تعالى في العون عليه" [10].
ويقول الإمام ابن هشام النحوي:

ومن يصطبرْ للعلم يظفرْ بنيلهِ *** ومن يخطب الحسناءَ يصبرْ على البذلِ

وقال النظَّام: "العلم شيءٌ لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، فإذا أعطيته كلك فأنت من إعطائه لك البعض على خطر" [11].
وصدق حوط بن رئاب الأسدي [12] حين قال:

لا تحسب المجد تمرًا أنت آكله *** لن تبلُغ المجد حتى تلعق الصبرَا


د. راغب السرجاني
[1] الترمذي: كتاب صفة القيامة والرقائق والورع (2450)، والحاكم (7851)، وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، والبيهقي في شعب الإيمان (881)، وأبو نعيم في حلية الأولياء 8/377، وقال الألباني: صحيح حديث (6222) صحيح الجامع.
[2] مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب أوقات الصلاة (612)، والسؤال عن إدخال الإمام مسلم هذه الحكاية عن يحيى مع أنه لا يذكر في كتابه الا أحاديث النبي ﷺ محضة مع أن هذه الحكاية لا تتعلق بأحاديث مواقيت الصلاة، فكيف أدخلها بينها؟ حكى القاضي عياض / عن بعض الأئمة أنه قال: سببه أن مسلما / أعجبه حسن سياق هذه الطرق التي ذكرها لحديث عبد الله بن عمر وكثرة فوائدها وتلخيص مقاصدها وما اشتملت عليه من الفوائد في الأحكام وغيرها ولا نعلم أحدا شاركه فيها فلما رأى ذلك أراد أن ينبه من رغب في تحصيل الرتبة التي ينال بها معرفة مثل هذا، فقال طريقه أن يكثر اشتغاله وإتعابه جسمه في الاعتناء بتحصيل العلم هذا شرح ما حكاه القاضي. شرح النووي 5/114.
[3] النووي: التبيان في آداب حملة القرآن 1/13.
[4] ابن القيم: مفتاح دار السعادة 1/108.
[5] ابن الجوزي: صيد الخاطر ص266.
[6] ابن الجوزي: تلبيس إبليس ص399.
[7] ابن عساكر: تاريخ دمشق 5/267.
[8] أبو الحجاج المزي: تهذيب الكمال 1/447.
[9] أبو الحجاج المزي: تهذيب الكمال 1/447.
[10] بدر الدين بن جماعة: تذكرة السامع والمتكلم ص27.
[11] الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 6/97.
[12] حوط بن رئاب الأسدي، المشتهر بأبي المهوش: شاعر مخضرم، عاش واشتهر في الجاهلية وأدرك الإسلام. شعره قليل متفرق. الأعلام 2/ 289.