إِنَّ الْحَـــــــمْدَ لِلهِ تَعَالَى، نَحْمَدُهُ وَ نَسْتَعِينُ بِهِ وَ نَسْتَهْدِيهِ وَ نَسْــتَنْصِرُه
وَ نَــــعُوذُ بِالْلهِ تَعَالَى مِنْ شُــــرُورِ أَنْفُسِنَا وَ مِنْ سَيِّئَــــاتِ أَعْمَالِنَا
مَنْ يَـــهْدِهِ الْلهُ تَعَالَى فَلَا مُضِــــلَّ لَهُ، وَ مَنْ يُـضْلِلْ فَلَا هَــــادِىَ لَه
وَ أَشْــــــــــهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا الْلهُ وَحْــــــدَهُ لَا شَــــــرِيكَ لَه
وَ أَشْـــهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ، صَلَّى الْلهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَا
أَمَّـــا بَعْــــد:
{{ ملعونون ولا يعلمون }}
((للأمانة..الكاتب: سعد بن عبد اللّه البريك))
ملعونون ولا يعلمونالخطبة الأولى
الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد ربه مخلصاً حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله اتقوا الله - تعالى - حق التقوى، (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً).
معاشر المؤمنين: لو أن رجلاً أبغضه الجيران وأقصوه وطردوه وكرهوه وأبعدوه، لكان ذلك حرياً بأن نبحث في أمره وشأنه، وماذا فعل وما الذي اقترفته يداه حتى يكون بغيضاً قصياً بعيداً مطروداً، ولو أن رجلاً في شركته أو عمله طرده رؤساؤه أو توقفوا عن إكرامه وترقيته والالتفات لأمره، لكان ذلك أيضاً سبباً في أن البحث عما جنى واقترفته يداه حتى جوزي بهذا الطرد أو الإبعاد، ولو أن رجلاً أقصته قبيلته وجماعته، فأصبح مبغوضاً مكروهاً قصياً طريداً لا يحتفل بقربه ولا يؤنس بجواره، لكان ذلك أيضاً محفزاً للبحث عن السبب.
واليوم ويا للأسف!، بعض المسلمين يرتكبون ألواناً وأصنافاً وأنواعاً من الأعمال التي توجب الطرد والإقصاء والإبعاد، ليس عن الملك ولا عن الأمير والوزير، ولا عن الجار والقريب، ولا عن الصديق والحبيب، بل هو طرد وإبعاد عن رحمة الله - عز وجل - دون أن يشعروا.
لذا كان لزاماً على من قرأ القرآن والسنة أن يتأمل في الآيات والأحاديث التي جاء فيها لعن من الله، ولعن من نبيه - صلى الله عليه وسلم -، لأقوام بسبب أفعال وتصرفات وصفات قامت بهم وأوجبت لهم ذلك البعد والطرد والإقصاء.
واللعن: هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله على سبيل السخط، وذلك من الله في الآخرة عقوبة، وفي الدنيا انقطاع من القبول والتوفيق، واللعن بمعنى الطرد من الرحمة لا يكون إلا لله وحده فهو - سبحانه - يطرد من يشاء من رحمته أو يدخل من يشاء في رحمته: (لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون).
قال - تعالى - فيمن قتل النفس (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً).
وقال عن الذين يؤذون الله ورسوله والمؤمنين (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً)، ومن ألوان الأذى الذي يتهاون فيه بعض الكتاب: التطاول على شرع الله - عز وجل -، بالزعم أن في الشريعة أموراً كلها تعقيد لا حاجة له أو تشديد لا لزوم له أو تسلط لا داعي له، والبعض يدعي أن في الشريعة أموراً لابد من معالجتها من جديد، وفات هؤلاء أن ذلك استدراك على الله، فحقيقة هذا الطرح؛ أن الله فرط في هذا ولم يتمه، أو أن رحمة الله قصرت عن ذلك فجاء من يكتب لإتمامها، أو أن عدل الله لم يصل إلى ما وصل إليه هذا العقل البشري!.
سبحان الله، مخلوق يتجرأ على الخالق، وذليل يتجرأ على العزيز، وضعيف يستدرك على القوي، ومسكين يتطاول على حكمة جبار السماوات والأرض!.
فالذين يقولون ذلك تنالهم لعنة الله والطرد والغضب والإقصاء والسخط والإبعاد.
ومن الذين يُبعدون ويُطردون عن الرحمة: الذين يقطعون أرحامهم، فبالرغم تيسر أسباب التواصل، بحيث أصبح الناس يتواصلون بين قطبي الكرة الأرضية من في الشمال يرى من في الجنوب ويكلمه، ومن في الشرق يحادث من في الغرب وينظر إليه، فإن أقواماً قطعوا أرحامهم لأدنى سبب، وفاتهم أنهم يتقلبون في لعنة من الله وهم لا يشعرون، قال - تعالى -: (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم * أولئك الذين لعنهم الله فأصمَّهم وأعمى أبصارهم).
وقال - سبحانه - عمن يقذفون المؤمنين والمؤمنات بالفاحشة، ويتحدثون بالقول يحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم، ويتكلمون في أعراض المؤمنين والمؤمنات والغافلين والغافلات في مجالسهم واستراحاتهم، ويرمونهم بالفحش والزور والبهتان، أولئك أيضاً ممن يتقلبون في هذا اللعن وفي هذا الطرد وهذا الإبعاد يشعرون أو لا يشعرون: (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا وفي الآخرة).
وأخبر - صلى الله عليه وسلم - عن طائفة لعنوا واستحقوا اللعنة بسبب فساد عقائدهم أو لسوء أعمالهم.
قال - صلى الله عليه وسلم - فيمن ذبح لغير الله: ((لعن الله من ذبح لغير الله)) رواه الإمام مسلم.
ومن هذا الذي يُذبح له من دون الله، ومن هذا الذي يعظم بالنحر دون الله - عز وجل -، حتى ينحر ويذبح له، فلو كان يملك موتاً أو حياةً أو نشوراً لجعل قدرته على الحياة دون مصيبته بالموت، ولجعل قدرته على نفع نفسه دون أن يصيبه غيره بضرر، فما يفعله المتعلقون الطائفون النائحون الذابحون الناحرون عند القبور سبب في لعنة الله لهم وهم لا يشعرون.
ولعن النبي - صلى الله عليه وسلم - من لعن والديه، وما أكثر الذين يستجلبون اللعنة على أنفسهم وهم لا يشعرون يقول أحدهم: أنا لا أملك لساني أنا تعودت على اللعن، إذا شئت أن تتقلب في طرد وسخط وغضب وإقصاء وشؤم وقلة توفيق من الله - عز وجل -، فاجعل ذلك ديدناً أو حجةً أو عذراً لك، وما أظن أحداً يبذر ماله ويسرف فيه ويرميه ذات اليمين والشمال ويشتته في غير وجهه، ويقول: أنا تعودت على هذا.
لماذا يحفظ الواحد لسانه فلا يبيع مغبوناً ولا يشتري خاسراً؟، أما لسانه عند اللعن فلا يضبطه ولا يملكه، ثم يقع في لعنة الله، قال - صلى الله عليه وسلم -، في الحديث الذي رواه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: ((لعن الله من لعن والديه)) رواه الإمام أحمد ابن حبان.
وفي حديث آخر عند البخاري تعجب الصحابة من هذا فقالوا: يا رسول الله وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: ((يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه)).
يعني أن هذا اللعان الطعان الفاحش البذيء يبتدئ من يتشاجر معه، أو يختلف معه عند أتفه سبب وأدنى أمر فيبدؤه باللعنة، فيقوم الملعون بالرد على اللاعن ابتداءً، فيكون الذي لعن أولاً، هو الذي تسبب في لعن والديه، فيلعنه الله - عز وجل -.
وبلية أخرى تهاون بها الناس، وأصبحوا يحتسونها ويأكلونها ويطعمونها ويلبسونها ويركبونها، ألا وهي الرشوة يسمونها بغير اسمها: سيارة جاءت إكرامية، ومبلغ من المال من أجل حق الطريق، وثالث من الأعطية من أجل حق الشاري، وما دروا أنها لعنة وسخط، وقليل من الحرام يفسد كثيراً من الحلال، وأعجب من هذا أنك تجد الرجل عنده خير كثير ثم يدخل عليه سحت قليل فيجعل الكثير من الخير حراماً مشؤوماً فاسداً باختلاطه به، ثم حينئذ لا يبارك له في مال ولا ولد ولا مطعم ولا مشرب ولا ملبس ولا مأكل ولا مركب، ذلكم هو أمر الرشوة التي تهاون بها كثير من الناس، وأصبح بعضهم إذا وقف أحد على رأسه في دائرة أو مصلحة أو أمر من الأمور أخذ ينظر إلى الأوراق قليلاً ثم يشخص ببصره في وجه صاحبها مرة أخرى، وكأنه يقول ادفع ولا أمل لك في أن يمضي أمرك إلا إذا دفعت هذه الرشوة، هذا في شأن الأمور الصغيرة، فما بالك إذا عظمت الرشوة، وأصبحت ملايين كثيرة؟، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لعنة الله على الراشي والمرتشي)) رواه الإمام أحمد والترمذي والحاكم.
فهل بعد هذا يتسبب أو يتأول أو يتصرف أو يتلفت أحد من الناس ليطلب شيئاً من المال لا يستحقه بحجة أنه من مستحقيه، أو يتأوله بشيء لا يجوز له بأي حال من الأحوال؟.
فحسبك بمن أخذ الرشوة أنه أخذ حراماً وأكل حراماً وشرب حراماً، وتقلب في الحرام، فضلاً عن اللعنة والطرد والإبعاد والإقصاء عن رحمة الله - عز وجل -.
وممن يُلعن من النساء: اللائي يمتنعن عن فرش أزواجهن.
المرأة يدعوها زوجها إلى فراشه، سيَّما إذا كان مبتلىً بألوان الفتن فهو يرى، أو ربما مر عليه أو عرض بين ناظريه ألوان من الصور من الكاسيات العاريات المائلات المميلات اللائي يغرين الرجال بالزنا والفاحشة والخنى، فإذا دعا زوجته إلى الفراش تمنعت وتعذرت، أو أرادت أن تجعل من تلبيتها حاجته صفقة لإتمام بعض الشروط التي تريدها، قال - صلى الله عليه وسلم - في النساء اللائي يفعلن هذا: ((إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء لعنتها الملائكة حتى تصبح)) رواه البخاري.
لو كان اللعن من مجهول لم يأبه للعنته أحد، لكن أن تكون اللعنة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -!، صاحب الدعوة التي لا ترد، أو كانت اللعنة من الملائكة الكرام الكاتبين الذين يسبحون الله الليل والنهار لا يسأمون ولا يفترون، فإن هذا أمراً ليس بالهيِّن.
وطائفة أخرى من الذين يتقلبون في اللعنة صباح مساء، ويعدونها شجاعةً وبطولةً وتخطيطاً وذكاءً؛ عبثاً بالصكوك تارة، وتلاعباً بالمخططات تارة أخرى، وتغييراً لمنارات الأرض تارة ثالثة، فيزحف على أملاك غيره، ثم يأتي بشهود الزور، الذين تنالهم اللعنة أيضاً لإعانته على ما يقوم به من منكر، يأتي بهم من أجل أن يثبتوا له أنه يملك هذا منذ أربعين أو خمسين عاماً أو أقل أو أكثر، فيتحقق له ملك ما كان يحلم به، طولاً وعرضاً شرقاً وغرباً، ثم ينافح ويفاخر به في المجالس هذا ملكي تعبت عليه، ومن أين تعب عليه!؟ تعب عليه بالإحياء الكاذب، وتعب عليه بشهادة الزور، وتعب عليه بالعبث والإفساد والكذب، دون أن يدري أنه وقع فيما يستوجب اللعنة، ذلكم هو تغيير حدود الأرض ومعالمها ومراسمها، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لعن الله من غير منار الأرض)) أي غير حدودها. رواه الإمام مسلم.
كان الناس في العهد القريب فيما مضى إذا رأوا صخرةً جزء من أصلها في باطن الأرض يبتعدون عنها ولا يقتربون منها يخافون أن تتزحزح الصخرة فيقعون في تغيير منار الأرض، ويقولون ربما هذا الحجر هو مَعْلَم لمُلك فلان أو حدٌ لأملاك فلان، أما اليوم فالزحف على قدم وساق من أقوام لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، يعتدون على هذا ويزحفون على ملك هذا، ويغيرون منار الأرض، وفي نهاية المطاف يعدون هذا بطولةً وقوةً وعصامية، (ومن يغلل يأت بما غلّ يوم القيامة) وأول ما يحاسب فيه الناس يوم القيامة، بعد الدماء: الحقوق، لأن حقوق الله مبنية على الستر والمسامحة، وحقوق العباد مبنية على الضيق والمشاحة، بل إن ذلك من أخطر الأمور وأعظمها، بل سببت ألواناً من القتل وأنواعاً من الجنايات.
وممن يُلعن ويدخل في اللعنة، ذلكم الذي يعرف مجرماً بعينه وشخصه ثم يتستر عليه، ويعلم أن رجال الأمن يطلبونه ويقلبون الأحياء والبيوت بحثاً عنه، ثم يتستر عليه ويؤويه بحجة يرى أنها مفخرة أو أنها مكرمة، وما درى أنه ملعون، لأنه يتستر على من أحدث في الأرض فساداً وأراد بالعباد شراً وبلاءً، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)) متفق عليه.
وصور من اللعن يقع فيها طائفة من الشباب ـ نسأل الله لهم الهداية والإحصان والعفاف والسعادة والتوفيق لنا ولهم ولجميع المسلمين أجمعين ـ ذلكم هو: التشبه بالنساء.
فما كنا نظن أن يصل الحال ببعض شبابنا تقليداً وتبعية في الحركات والأصوات للغرب، وصدق - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم)) رواه البخاري.
هذا التشبه بحذافيره حذو القذة بالقذة قد وقع فيه بعض شباب المسلمين، فقلدوا النساء وتشبهوا بهن في شعورهم وفي لباسهم، بل وفي حركاتهم، بل ونافسوا النساء على أدوات التجميل كالأصباغ، ذلك أمر عجيب، يجهل بعضهم أنه مجلبة للعنة، حيث قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه ابن عباس - رضي الله عنهما -: "لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال" رواه البخاري.
فما عجب أن النساء ترجلت ولكن تأنيث الرجال عجيب وطامة أخرى موجودة وهي: تشبه المرأة بالرجل، وأن تلبس لبسته وأن تتزيّ بزيّه بل وبعضهن في بعض المدارس أو مواقع التعليم تتفاخر بأنها تقوم أو تفعل أو تلبس ما يشير إلى أنها تحاكي لبس الرجل وتصرفاته، ذلك وأيم الله أمر عجيب.
أمر غريب وعجيب أن يميل كل طرف إلى صفات الآخر، فينافسه وينازعه ويخرج عن خلقته وفطرته التي فطره الله عليها، بل إن النبي - صلى الله عليه وسلم - حدد ذلك في اللباس أيضاً أو خصص اللباس بمزيد من التأكيد والبيان فقد قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل"، رواه الإمام أحمد.
وجاء في بعض الروايات تسمية المتشبه من الرجال بالنساء أنه (المخنث) والمتشبهة بالرجال (المترجلة) فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - المخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء، وقال: ((أخرجوهم من بيوتكم)) رواه البخاري.
ولعن الله الذين يغيرون خلق الله، يدخل في هذا الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة، فعن عبد الله ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: ((لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله)) رواه مسلم.
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة" متفق عليه.
وهذه الأمور مما تهاون به كثير من الناس، بل إن بعضهم يعلم أن زوجته تتاجر في ما يسمى بالمشاغل، وليس هذا بحرام مع تحذيرنا للجميع من التشبه بالكفار والكافرات في اللباس والموضات وغيرها، لكن البعض يعلم أن زوجته تستقدم من تقوم بنمص النساء، وتصل شعورهن وتشِمُهُن في وجوههن، وذلك مستجلب لثلاث لعنات: لعن في الوصل ولعن في الوشم ولعن في النمص.
فكيف يطيب لرجل يرى أنه حر من بيت أحرار، أن يأكل ويشرب وينفق من الحرام؟.
إذا كان يظن أنه بهذا أنه قد نوَّع مصادر دخله فقد أخطأ.
وطائفة أخرى يتقلبون في هذه اللعنات صباح مساء، ولا يشعرون أنهم لا يرفعون كأساً ولا يحتسون جرعةً إلا ومعها لعن مستمر، ولذا ترى التوفيق بعيداً عنهم، وترى الشؤم والدمار والعذاب نازل بهم ولو كثرت أموالهم، ففي صدورهم من الضيق والضنك والاكتئاب ما يتمنون أن يعالجوه ولو بنصف أموالهم أو ثلاثة أرباعها.
أولئكم الذين يتعاطون الخمرة ويحتسونها، ويسهرون لأجلها ويحضرون لها المغنيات والمطربين، ويقيمون الحفلات لذلك، فهم والله وإن طقطقت بهم البغال أو هملجت بهم البراذين إلا أن ذل المعصية لا يفارق وجوههم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه.
إن يجتمعون على مجالس الخمر فيشربونها ويعاقرونها ملعونون، كما قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أنس ابن مالك - رضي الله عنه -: لعن رسول الله صلى الله وسلم في الخمر عشرة: عاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها - حتى الذي يسقيهم ولو لم يشرب معهم هو ملعون معهم أيضاً - وبائعها وآكل ثمنها والمشتري لها والمشتراة له. رواه الترمذي.
فما بال هؤلاء يتقلبون في طينة الخبال وعصارة أهل النار أو في رغدة الخبال يفاخرون بلعنة الله؟.
إن هذه المعصية وأمثالها من الذنوب والمعاصي هي التي جعلت الناس اليوم يرون ألواناً من الخلل في أمنهم، ومحقاً للبركات في أرزاقهم، المعاصي تتعاظم، والخطايا تتكاثر ويجاهر بالفواحش، والمغيرون قليل، بل الذين يغيرون من رجال الحسبة هم محل السب والشتم والنقد، وتسلم الألسنة وتجف المحابر، حينما تكون الزلة ممن سب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، أو يكون الغلط فيمن تطاول على العلم وأهله!.
أولئك معذورون، والليبرالية تقتضي أن لا نكون إقصائيين أو أحاديين، لا بد أن نسمع الرأي الآخر، ولابد أن نستسيغ ما يقوله الطرف الآخر إذا كان السب واللعن فيما مس الدين!، أو إذا كان النقد والتهكم والسخرية في أمر الشريعة!، أما إذا كانت الزلة من أحد رجال الحسبة، فلا تسل عن ألسنة حداد وأقلام لا تجف، وتلكم وأيم الله صفات المنافقين: (إن تصبكم حسنة تسؤهم وإن تمسسكم سيئة يفرحوا بها).
أيها الأحبة: ومن الذين يتساهلون في تصرفات يحسبونها هينة وهي توجب لعناً علموا أو لم يعلموا به، أولئكم الذين يبالغون في المزاح فيما بينهم إلى حد يصل بأحدهم أن يشير بالسلاح إلى أخيه المسلم، أو أن يشير بالمسدس أو بالسيف أو الخنجر أو السكين نحو أخيه أو أهل بيته، وذلك لا يجوز أبداً، بل إن بعضهم يظنها من وسائل التربية يوم أن يرفع السكين على ولده أو ابنته وذلك من مجلبة اللعنة، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه وإن كان أخاه لأبيه وأمه)) رواه مسلم.
ومما جلب على الناس الشؤم والضنك والشقاء بأصنافه وألوانه ومحق البركات وتتابع اللعنات: أكل الربا، فقد تهاون به الناس، بل بعضهم أصبح يتعامل بالربا مضاعفاً، فيقترض من البنوك بالربا، ثم يجعل المال المقترض مستثمراً في صفقات ربوية من جهة أخرى، ثم هو في نهاية المطاف لا يرد المال كما هو، ويعجز عن رده إلى البنك ولا يجد استثماراً مربحاً كما أمّل، فيخسر من الجهتين.
فهذا مع خسارته ملعون في الدنيا، ملعون في الآخرة قصي طريد بعيد عن الله - عز وجل -، فقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: ((هم سواء)) رواه مسلم.
ومن الذين يلعنون: الذين يتطاولون أو يعبثون أو يخادعون في حدود الله - عز وجل -.
فبعضهم إذا وجد امرأة قد بانت من زوجها بينونة كبرى، وطلُقت طلاقاً ثلاثاً بائناً، لا سبيل إلى رجعتها إليه، جاء يعرض نفسه؛ كم تدفعون لي فأتزوجها وأحللها لزوجها الأول حتى تعود له، ويظهر نفسه مُصلحاً يريد أن يسعد الناس وأن يجمع شمل البيوت، ذلكم هو: التيس الملعون المستعار وهو المحلل، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لعن الله المحلِّلَ والمحلَّل له)) رواه النسائي والبيهقي وابن ماجة.
فمن دخل في هذا فاعلاً أو مفعولاً لأجله، فإنه ملعون.
وممن يلعن أيضاً: السارق، الذي يسرق حقوق الناس وأموالهم، ولو كان قضيباً من أراك، فمن الناس من يكون له نفس دنيئة لا تكف عن السرقة، يسرق من عمله دباسة، ويسرق الأقلام ويسرق الأوراق، ويسرق أموراً ليست ذات بال، ولكن تعودت نفسه الدناءة، فيسرق ويفرح بسرقته وكأنها غنيمة غنمها من غزوة رفعت فيها راية الإسلام.
بعضهم يدخل محلات التموينات فلا يخرج إلا وقد سرق في جيبه شيئاً أو شيئين!، وهذا نوع من البلاء إذا استمرأه صاحبه لا يقوى على تركه.
وقد حدثت امرأة عن زوجها أنه مستور، ودخله يكفيه وزيادة، قالت: لكنه ابتلي بعلة، وتسأل عن حكم الأكل مما يأتي به؟ فتقول: إننا عرفناه لا يدخل متجراً إلا ويسرق في جيبه شيئاً من هذا المتجر، فربما اشترى بمائة ومائتين لكن لا تطيب نفسه إلا أن يسرق بريال أو بريالين.
لعن الله السارق، وذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يسرق البيضة فتقطع يده أو يسرق الحبل فتقطع يده. رواه البخاري.
ومن أعظم وأشنع ألوان السب واللعن والطرد والإبعاد عن رحمة الله - عز وجل -: ذلكم التطاول الذي يقع من خلق ليس بقليل في هذا الزمان، ممن يلعنون صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد جاء عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - غضب غضباً شديداً وقال: ((لعن الله من سب أصحابي)) رواه الطبراني وغيره.
أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين آووه ونصروه، والذين لأجله هجروا المال والولد والوطن، الذين جعلوا ظهورهم وصدورهم دروعاً وتروساً حدبوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يختارون الموت ويتلقونه سهماً أو رمحاً أو ضربةً بسيف دون جسد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يأتي في آخر الزمان من يلعنهم ويسبهم، بل ويلعنهم في صلاته، وتلك وأيم الله من دلائل الحرمان، بل وعلامات الشؤم وتنكب الصراط، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
أيها الأحبة: إن من كمال هذه الشريعة وسمو آدابها ورفعة من تخلق بأخلاقها أن عُلّم في دينه وفُقِّه في شريعته ما يدعوه إلى أن لا يتلفظ باللعنة على شخص، وإن ورد لعنه من الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فلو أن رجلاً شرب الخمر لا تقف أمامه وتقول عليك لعنة الله، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن في الخمر عشرة، لا يجوز لعن المعين من المسلمين، وإن وقع في ما يوجب اللعن.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "ولعن تارك الصلاة على وجه العموم جائز كأن نقول: من ترك الصلاة فهو ملعون أما لعن المعين - أي أن تشير بيدك ولسانك وببصرك إلى فلان بعينه - قال: وأما لعن المعين فالأولى تركه لأنه يمكن أن يتوب.
انظروا إلى عظمة هذا الدين الذي يفتح للإنسان باب الأوبة والرجعة والتوبة، فالبعض قد يكون ما يوجب له اللعنة، لكن لا يزال في كنف ستر الله مستوراً، فلا يجوز أن يلعن باسمه، لأنه قد ينتبه لنفسه، فيقول: الحمد لله أن من حولي لا يعلموا أنني ملعون بما أكلت من رشوة أو شربت من خمر أو فعلت من تحليل أو قطعت من رحم أو غيرت في منار الأرض.
وفي دائرة الستر هذه يتوب ويرجع ويتحول ويصلح من شأنه، أما لو أشير إليه بالبنان وسُمَّيَ وذُكِر ممن يعلم عنه ذلك، فإنه يهتك ستره ويقطع عليه باب الرجعة والناصح يستر وينصح، والمنافق يهتك ويعير، وما لنا مصلحة في أن نهتك أستاراً قد أسدلها الله على بعض عباده، لكننا نذكر أحكاماً تذكَّر من وقع بوجوب التوبة ما دام في دائرة الستر من الله - عز وجل -.
قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إني لم أُبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة) رواه مسلم.
وقال أبو بكر ابن عبد العزيز قال فيما وجده في تعاليق أبي إسحاق: ليس لنا أن نلعن إلا من لعنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على طريق الإخبار- يعني على لعن العموم - فالجائز هو اللعن المطلق العام كأن يقال: من أكل الربا ملعون، من شرب الخمر ملعون، من غير منار الأرض ملعون، من أكل الرشوة ملعون، لا المقيد المعين، كما نقول في الشهادة بالجنة والنار نشهد للمؤمنين بالجنة وان الكافرين في النار ونشهد بالجنة لمن شهد له الكتاب والسنة، قال - صلى الله عليه وسلم -: أبو بكر في الجنة عمر في الجنة عثمان في الجنة علي في الجنة طلحة في الجنة سعد في الجنة، من سموا وشهد لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة نسميهم ونشهد لهم، ونشهد لعموم المؤمنين برجاء الجنة، ولعموم الكافرين بالنار، لكن لا نخص أحداً بعينه إلا من خصه النبي - صلى الله عليه وسلم -، لذا أيها الأحبة لعن المعين لا ينبغي للنصوص الواردة في ذلك، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لعن المؤمن كقتله)) رواه الإمام أحمد.
وفي صحيح مسلم قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة)) فلا يجوز أن نتساهل باللعن، لأننا علمنا فيما صح من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيما علمنا من كتاب الله أن الله ورسوله قد لعنوا أقواماً بصفات قامت بهم، إلا أننا لا نلعن المعينين، وإنما اللعن في العموم من أجل الترهيب والتحذير، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تلاعنوا بلعنة الله ولا بغضبه ولا بالنار)) رواه أبو داود والترمذي عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه -.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش البذيء)) رواه الترمذي.
بل إن التحذير من أن يدرج اللعن على اللسان وارد، حتى إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في هذا الشأن، لما كان في سفر من الأسفار ومعهم امرأة من الأنصار على ناقة ضجور - يعني ليست هينةً لينة - فقامت هذه المرأة ولعنت ناقتها، فسمعها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: ((خذوا ما عليها - يعني ما على الناقة- من الركاب والمتاع ودعوها فإنها ملعونة)) رواه مسلم.
قال عمران بن حصين - رضي الله عنه -: فكأني أراها الآن تمشي في الناس لا يتعرض لها أحد.
وفي حديث آخر في صحيح مسلم، عن أبي برزة - رضي الله عنه - قال: بينما جارية على ناقة عليها بعض متاع القوم، إذ بصرت بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وتضايق بهم الجبل، فقالت: حل - وهي كلمة تزجر بها الناقة - اللهم العنها، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تصاحبنا ناقة عليها لعنة)) وفي رواية: ((لا تصاحبنا راحلة عليها لعنة من الله)).
فما بالنا إذاً بمن يلعن ولده في ذهابه وإيابه وعند نومه وإيقاظه، وما بالنا بمن يلعن زوجته لأن الطعام مالح أو لأن السكر لم يأت مع الشاي، وما بالنا بمن يلعن جاره أو يلعن صديقه، حتى إن بعضهم جعل اللعنة فاكهة يتفاكهون بها وهم يتضاحكون؟!.
عجباً لأقوام يختارون أخبث الكلام على ألسنتهم فيجعلونه دعابة ونداءً وحديثاً ومفاكهة ويدعون أطيب الحديث إنا لله وإنا إليه راجعون.
اللهم عافنا فيمن عافيت، اللهم عافنا مما ابتليتهم به يا رب العالمين.
اللهم سلم ألسنتنا من الكذب، وأعيننا من الخيانة، وقلوبنا من النفاق، وأعمالنا من الرياء.
اللهم أحسن خاتمتنا، واجعل ميتتنا على أحسن حال ترضيك، واستعملنا فيما يقربنا إليك.
اللهم حبب إلينا من أحببته، واصرفنا عمن أبغضته.
اللهم ارزقنا حلالاً طيباً مباركاً، وابسط لنا اللهم في عافية أبداننا وحسن أخلاقنا وسعة أرزاقنا وصلاح أعمالنا، واكلأنا بعنايتك واهدنا بهدايتك، واسترنا بسترك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أبرم لأمتنا أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويهدى فيه أهل المعصية، ويذل فيه أهل المجاهرة والدعاية للمعصية يا رب العالمين.
اللهم اكفنا شر الأشرار، اللهم ولَّ علينا خيارنا واكفنا شر شرارنا، اللهم أصلح ولي أمرنا وأصلح بطانته، واجمع اللهم شمله وإخوانه وأعوانه على ما يرضيك يا رب العالمين.
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
اللهم ارفع الكربة واللأواء عن المسلمين، اللهم إن أعداءنا باسم مكافحة الإرهاب أخذوا يذبحون في الإسلام والمسلمين شرقاً وغرباً طولاً وعرضاً، وما من أحد أراد أن يقتل أو يدمر أو يفجر إلا ألصق أفعاله بالإسلام، ما بين أعداء يتربصون بالدين، وما بين أغبياء قد انطلت عليهم الحيل والأحابيل، فصاروا مطايا لأعدائنا ينفذون مخططاتهم على بلاد المسلمين وغيرهم.
اللهم فاهدِ الضال اللهم واقمع المعتدي يا رب العالمين.
اللهم صلي على محمد وعلى آله وصحبه وأقم الصلاة.
الكـاتب : سعد بن عبد اللّه البريك