بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..

في هذا البحث المتواضع سأتناول موضوع في غاية الأهمية وهو الملكية الفردية في الاسلام

تمهيد:

لقد حفظت الشريعة الإسلامية للإنسان حقوقه كافة، وحذر الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين من الاعتداء عليها سواء أكانت هذه الحقوق مادية مالية أو معنوية فكرية، حيث قال عليه الصلاة والسلام "كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ([1]).

ومن هنا جاء الأصل الأول للنظام الاقتصادي الإسلامي وهو مجاراة الفطرة البشرية بإباحة الملكية الفردية الخاصة مع قيود متعددة ترشدها في الإطار الإسلامي، ومن ثم شرع الإسلام الملكية الفردية بشروطها، فأباح لكل فرد أن يتملك بالأسباب المشروعة، ما يشاء من المنقولات والعقارات وأباح له استثمارها والانتفاع بها في نطاق الحدود التي رسمها ([2]).

يتبين لنا مما سبق أن الملكية الفردية قد اقرها الإسلام وشرعها ضمن ضوابط وشروط سيأتي على تناولها خلال البحث، الذي سيعرج أيضا على مشروعية الملكية الفردية والأسباب التي تنشئها والحقوق الواجبة في الملكية الفردية.
مشكلة الدراسة:

تسعى الدراسة الحالية استكشاف الملكية الفردية في الإسلام، والتعرف على الأسباب التي تنشئ الملكية الفردية، والتعرف على توضيح القيود التي ترد على الملكية الفردية، والتعرف على الحقوق التي تجب في الملكية الفردية

أهداف الدراسة:

تهدف الدراسة الحالية إلى ما يلي:

1- محاولة استكشاف مشروعية الملكية الفردية وطبيعتها وأنواعها العامة.

2- محاولة التعرف على أنواع الملكية الفردية.

3- توضيح القيود التي ترد على الملكية الفردية.

4- معرفة الحقوق التي تجب في الملكية الفردية.

أسئلة الدراسة:

جاءت هذه الدراسة في محاولة للإجابة عن التساؤلات التالية:

1- ما هي مشروعية الملكية الفردية وطبيعتها وأنواعها العامة؟.

2- ما أنواع الملكية الفردية.؟

3- ما قيود استعمال الملكية والتصرف فيها.؟

4- ما هي الحقوق التي تجب في الملكية الفردية؟.
أهمية الدراسة:

تنبع أهمية البحث في محاولة التعرف على أصول وقواعد الملكية الفردية في الإسلام، ومعرفة القيود التي تنظم عملها في المنهج الإسلامي، وكذلك تأتي أهمية الدراسة من خلال التعرف على الحقوق التي تجب في الملكية الفردية.

المنهج المتبع في الدراسة:

في الدراسة الحالية فإن المنهج الواجب إتباعه هو المنهج الوصفي، حيث سيقوم الباحث بوصف الملكية الفردية في الإسلام والأسباب والقيود المفروضة عليها.



الفردية في الإسلام

إن الملكية الفردية حق شرعي، أقره الشارع ونص على وجوب حمايته وحرم الاعتداء عليه، ولا شك أن هذا الحق لا يستبين أثره ولا تظهر فائدته ما لم يعط صاحبه حق استعماله والتصرف فيه في وجوه التصرفات المختلفة، فهذه كما تقدم، هي خصيصة التملك وثمرته الأولى. إلا أن حق استعمال المالك لملكه وتصرفه فيه ليس حقا مطلقاً في الشرع، بحيث يكون للفرد الحق في أن يكتسب الملك في أي طرق يشاء، ويتصرف في ملكه بكل تصرف ممكن، بل لا بد أن يتقيد في كل هذا بأحكام الشرع وقيوده، فان الملك كما تقدم حكم شرعي، لا يثبت إلا بإثبات الشرع له، ويتقيد حين ثبوته بقيود الشرع وحدوده.

الملكية استخلاف الهي:

إن الله سبحانه وتعالى هو خالق الأشياء كلها، وخالق الأشياء هو مالكها، فالله سبحانه وتعالى هو المالك الحقيقي للأشياء كلها، إلا انه سبحانه قد استخلف البشر في الأرض، وأمرهم بعمارتها وأباح لهم الانتفاع بما فيها من خيرات، وبالتالي يصح أن يقال أن ملك الإنسان للأشياء إنما هو ملك انتفاع واستخلاف من الله، ويبقى الملك الحقيقي لله سبحانه وتعالى.

وقال الحسن: "مستخلفين فيه"، بوراثتكم إياه عمن كان قبلكم وهذا يدل على أنها ليست بأموالكم في الحقيقة، وما انتم فيها إلا بمنزلة النواب والوكلاء، فاغتنموا الفرصة فيها بإقامة الحق قبل أن تزل عنكم إلى من بعدكم" ([3])، وإذا كان الله هو المالك الحقيقي للأشياء، فان هذا لا يعني أن الإنسان لا يملك، بل قد وردت عدة آيات تضيف الأموال إلى الإنسان وتفيد بصحة تملكه لها.

وفي ضوء ذلك كله يمكن أن نعرف الملكية الفردية في الإسلام بأنها: "ما أثبته الشارع من حق للفرد في الاختصاص الحاجز بالشيء من حيث استعماله واستغلاله والتصرف فيه في نطاق القيود الشرعية التي قررها. ([4])

أنواع الملكية الفردية:

أنواع الملك الفردي في الشريعة الإسلامية كما ذكرها الفقيه احمد الحنبلي حيث يقول: الملك أربع أنواع: " ملك عين ومنفعة، وملك عين بلا منفعة، وملك منفعة بلا عين، وملك انتفاع من غير ملك المنفعة". ([5])

أما النوع الأول فهو عامة الأملاك الواردة على الأعيان المملوكة بالأسباب المقتضية لها من بيع، وهبة، وإرث وغير ذلك.

أما النوعان الثاني والثالث فيردان على الشيء الواحد كمن أوصى بمنفعته لشخص وبرقبته لآخر. وملك المنفعة قد يكون مؤبداً كالوقف، وقد يكون غير مؤبد كالإجارة ومنافع المبيع المستثناه في العقد مدة معلومة.

أما النوع الرابع فهو مثل المنتفع بملك جاره من وضع خشب في جداره أو ممر من داره ونحوه، فهو هنا لا يملك عين دار جاره، ولا منفعتها، وإنما يملك فحسب الانتفاع بها. ([6])

ونجد هذه الأقسام الأربعة في كلام الفقهاء من مختلف المذاهب والاتجاهات مع شيء من الاختلاف في التسمية أو التقسيم، دون المضمون. ([7])

هل الملكية في الإسلام وظيفة اجتماعية؟

ظهرت فكرة أن الملكية وظيفة اجتماعية في المذاهب ذات-النزعة الجماعية- في مقابل ما وصل إليه المذهب الفردي من تقرير أن الملكية حق فردي مطلق لا يقبل التقييد إلا في أضيق الحدود.

وتعني فكرة أن الملكية وظيفة اجتماعية أن يراعي فيها حق المجتمع، لان الفرد لم يكتسب هذه الملكية بجهده فقط، بل للمجتمع الفضل في منحه هذا الملك، وبالتالي فانه لا يستخدم هذه الملكية إلا في مصلحة المجتمع، كمان أن للمجتمع الحق في أن يفرض على هذه الملكية من القيود ما يراه لازما لان تسير الملكية سيرها الصحيح في خدمة المجتمع. ([8])

وقد تقدم القول بان الملكية استخلاف ومنحة إلهية، فهل يصح على ضوء ذلك أن يقال أن الملكية في الإسلام وظيفة اجتماعية بهذا المعنى السابق؟ لقد ذهب كثير من الباحثين إلى هذا القول ([9]). فذكروا أن الملكية في الإسلام وظيفة اجتماعية وذلك لما يترتب عليها من حقوق ولما تتقيد به من قيود لخدمة المجتمع وتحقيق المصلحة العامة.

وقد ذهب بعضهم إلى القول بان الملكية في الإسلام وظيفة بتوظيف من الله سبحانه وتعالى، أو أنها حق ذو وظيفة اجتماعية، وذلك للخروج من نتائج إطلاق القول بان الملكية وظيفة اجتماعية.

يقول الشيخ أبو زهرة: "وقد رأينا بعض الذين يكتبون في المسائل الإسلامية يقول: أن الملكية وظيفة اجتماعية، ولا نرى مانعا من استعمال هذا التعبير، ولكن يجب أن يعرف أنها بتوظيف الله تعالى لا بتوظيف الحكام". ([10])

ويقول الدكتور فتحي الدريني : "وعلى هذا الأساس ينقض القول، بان الحق هو بذاته وظيفة اجتماعية، على معنى انه يراعي المصالح الجماعي فحسب، كما يذهب إلى ذلك مذهب التضامن الاجتماعي، بل الذي يتفق وطبيعة التشريع الإسلامي وغايته، القول بان للحق الفردي طبيعة مزدوجة، فردية وجماعية، وان الأولى مصونة ومحمية، ما دامت لا تتعارض مع المصلحة العامة، وبذلك يكون للحق الفردي في الشريعة الإسلامية وظيفة اجتماعية، وليس هو بذاته وظيفة اجتماعية، إذ يترتب على هذا النظر الأخير إهدار المصالح الفردي الخاص، الذي أصبح تقرره معلوما الدين بضرورة، ولا سيما حق الملكية، الذي هو في طليعة الحقوق الخاصة جميعا". ([11])

قيود كسب الملكية:

أباح الإسلام للأفراد أن يتملكوا من الطرق المباحة، وهي طرق كثيرة ومتعددة، من أهمها: المعاوضات المالية، والميراث والهبات، والصدقات، والوصايا، والوقف، والغنيمة، والاستيلاء على المباح، وإحياء الموات، والإقطاع ونحو ذلك. ([12])

كما قد فصل الشرع طرق الكسب المحرمة، والتي تتلخص في منع الضرر، وظلم الناس واكل أموالهم بالباطل.

ويكمن فيما يلي أهم طرق الكسب المحرمة في التشريع الاقتصادي الإسلامي:

1- الربا: اعتبرت الشريعة الربا بكافة طرقه وأساليبه من قبيل الكسب المحرم، واكل أموال الناس بالباطل، وقد فصل الفقهاء حكم الربا وعلته وما يجري فيه تفصيلا دقيقً، والذي يهم هنا هو التأكيد على أن الكسب الذي يأتي من الربا كسب محرم، وان ملكية هذا الكسب غير مشروعة.

2- الاحتكار: لقد حرمت الشريعة الإسلامية الاحتكار، وذلك لما يؤدي إليه من استغلال حاجة الناس وإلحاق الضرر بهم، وحق التملك في الإسلام لا يعطي الفرد سلطة احتكار حاجات الناس والإضرار بهم، قال صلى الله عليه وسلم: "من احتكر فهو خاطئ" ([13])، وبالتالي فان أي كسب يأتي عن طريق الاحتكار المحرم يعتبر كسبا محرماً.

3- ومن أنواع الكسب المحرم الكسب عن طريق الغش والتدليس والغرر وإخفاء عيوب السلعة ونحو ذلك.

4- الكسب عن طريق السرقة أو الغصب: أو الكسب عن طريق القمار وأساليبه المختلفة، وكذا الكسب عن طريق الارتشاء والتزوير ونحو ذلك مما اجمع عليه الفقهاء على انه كسب محرم واكل أموال بالباطل.

5- ومن طرق الكسب المحرمة أيضا التي لا يصح التملك عن طريقها التجارة في السلع المحرمة في الشرع، وذلك نحو التجارة في الخمور وأنواع المسكرات وكذا التجارة في الخنزير والأصنام والميتة، وكل نجس لا يحل الانتفاع به، وكذا التجارة في الإعراض والكسب عن طريق الزنا وبيوت الدعارة. كما يحرم في الشرع أيضا الكسب عن طريق بيع آلات اللهو المحرمة. والكتب والنشرات والأفلام والصور التي تؤدي إلى إفساد عقيدة المسلم أو التأثير على أخلاقه.

قيود استعمال الملكية والتصرف فيها:

مما تقدم فإن حرية المالك في كسبه الملك ليست مطلقة، بل هي محددة بحدود الشرع وقيوده، وكذلك يقال في شأن استعمال المالك لملكه وتصرفه فيه، فان حريته في هذا الاستعمال ليست هي الأخرى مطلقة دون حد، بل قد وضع الشارع لهذه الحرية حدوداً وقيوداً لا بد من الالتزام بها والوقوف عندها، وهي في مجملها تهدف إلى تحقيق مصلحة المالك نفسه، كما تهدف إلى تحقيق مصلحة المجتمع من حوله ورفع الضرر عنه، ومن أهم هذه القيود:

1)النهي عن إضاعة المال بالإسراف والتبذير:

لقد وردت النصوص الشرعية على تحريم السرف والتبذير، إلا انه قد اختلف في المعنى المراد من السرف والتبذير اللذين أتى الشرع بتحريمهما، فالذي لا شك فيه أن إنفاق الإنسان على نفسه ومن يعوله لقضاء حاجاته وضرورياته يعتبر من قبيل النفقة الواجبة.

ومما تقدم يمكن القول بان النفقة في الحرام إسراف وتبذير بالاتفاق، سواء أكانت قليلة أم كثيرة، أما النفقة في المباح فان من اعتبر القدر والكم في الإنفاق يرى أن تجاوز الحاجة في الإنفاق المباح، وزيادة القدر عن المطلوب يعتبر من قبيل الإسراف، ومن اعتبر نوع الإنفاق وكيفيته لم يقل بان الإنفاق في المباحات من قبيل الإسراف المحرم، بل أن الإسراف التبذير المحرمين في نظره هما النفقة في المحرمات. ([14])

2) النهي عن الإضرار بالآخرين: تقدم القول بان تصرف الإنسان في ملكه بما يشاء من وجوه التصرف المباحة، هو أهم خصائص الملكية في الإسلام وثمرتها الأولى وان هذا هو الأصل المتفق عليه في الشريعة الإسلامية وإلا لما كان للملك معنى إذا حجر على المالك في تصرفه. لكن ما الحكم أن تصرف في ملكه، بما يؤدي إلى إلحاق الضرر بالآخرين؟ وهل يصح منعه شرعا من هذا التصرف أو لا يصح؟.

لقد بحث الفقهاء أحكام تصرفات الأفراد في أملاكهم إذا كانت تؤدي إلى إلحاق الضرر بالآخرين كالجيران ونحوهم، وكانت آرائهم في هذه المسألة على النحو التالي:

أ‌)ذهب متقدموا الحنفية والظاهرية، وهو رأي عند الشافعية ورواية عند الحنابلة، أن للمالك الحق في التصرف في ملكه، وان أدى هذا التصرف إلى الإضرار بالآخرين، فلا يمنع من ذلك قضاء، ولا يضمن الضرر الحاصل من تصرفه. ([15])

ب‌)وذهب المالكية والحنابلة في الرواية الراجحة، ومتأخروا الحنفية وبعض الشافعية إلى القول بان المالك ممنوع من التصرف المضر بالآخرين إلا أنهم اختلفوا في مقدار الضرر الذي يجب دفعه. وما هو ضابطه، على النحو التالي:

-ذهب متأخروا الحنفية إلى القول بان الضرر الذي يجب دفعه هو الضرر الفاحش الذي لا يمكن التحرز منه. ([16])

-ذكر بعض الشافعية أن الضرر الممنوع هو الضرر غير المعتاد، فان تصرف في ملكه على العادة لم يمنع. ([17])

-وذهب المالكية والحنابلة في الرواية الراجحة إلى القول بمنع المالك من التصرف المضر بالآخرين، دون أن يحددوا ذلك بضابط الضرر الفاحش أو غير المعتاد، بل ذكروا أن الجار ممنوع من مطلق التصرف المضر بجاره، سواء تمحض قصد الإضرار لديه بان لم يكن له من غرض في تصرفه سوى الإضرار بالآخرين، أو كان له غرض صحيح من تصرفه، بان كان هذا التصرف يحقق مصلحة مشروعة له، إلا انه يتسبب بإلحاق الضرر بالآخرين، فيمنع من ذلك كله. ([18])

الجماعة في الإسلام:

ولأن الأمة هي المسئولة فمن الطبيعي أن يكون جوهر وشكل قيادتها التنفيذية جماعية. ولن يجد الإنسان صعوبة في العثور على التوجيه الإلهي لخلق آلية جماعية تقود الأمة وتطبق الثوابت. فالقرآن الكريم في كل خطابه السياسي لم يتحدث عن قيادة فردية، ولكنه تحدث عن قيادة جماعية، ومن هنا لم يستعمل القرآن الكريم ولي المر بصيغة المفرد أبداً، بل استخدم أولي الأمر بصيغة الجمع دائماً. قال سبحانه وتعالى :" يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم " ولم يقل وولي ألأمر منكم، وبموجب هذا الأمر الإلهي شكلت الأمة قيادتها الجماعية غداة انتقال الرسول إلى الرفيق الأعلى.

على أن البعض يتخذ من هذه الآية ومن آية " ولتكن منكم أمة " دليلاً على وجوب خلق الدولة دينياً، وليس فيها ما يدل على ذلك. فالخطاب موجه إلى الأمة لتأمر وتنهى، فهي إذن الحاكمة. والآية الثانية موجهة إلى الأمة أيضاً في وجوب طاعة الله والرسول فيما قد أقر وفيما سيستنبط.ولهذا لم يقل ولتكن منكم دولة. و إنما قال :" ولتكن منكم امة " وهذه الأمة لها الحق في أن تسمي تنظيمها دولة أو غير دولة ما دامت تحقق ثوابتها، لكنها على كل حال ثوابت تغاير قواعد الدولة المتعارف عليها في القديم وفيما قبل عالم الديمقراطية الذي اقترب كثيراً من مفهوم نظام ألأمة الإسلامي , فالدولة وسيلة وليست غاية.

وربما جاء اعتقاد القائلين بوجوب الدولة دينياً نتيجة اعتقادهم بوجوب نصب إمام دينياً. فالغرض من إيجاب الدولة كان إيجاب نصب قائم بالأمر عادلاً أو غشوماً.([19])

كما أن معظم العلماء ذهبوا إلى أن الخطاب الموجه إلى أولي ألمر لا يحمل معنى القيادة الجماعية، ولكن يعني جميع ولاة الأمور الذين سيحكمون بالتتابع عبر التاريخ. غير أن هذا الفهم مردود بالآية الثانية الأوضح دلالة والموجهة إلى المسلمين أيام الرسول نفسه " وإذا جاءهم أمر من ألأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول و إلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم " فالآية هنا تتحدث عن قيادة جماعية في زمن محدد بدليل أن الذي يستنبط الحل هو واحد من أولي الأمر الموجودين آنذاك، فإذا أضفنا أن الخطاب يوجب مشاركة الرسول صلى الله عليه وسلم غيره؛ فمشاركة غير النبي أوجب.

والحق أن المغالطة في تفسير الآية لا يسعفه الفهم اللغوي ولا بقية التأويلات. لأن مجرد التسليم بوجوب الشورى في القضايا العامة يسلمنا تلقائياً بحق القيادة الجماعية. فأولي الأمر مرتبط بالأكثرية ( الشورى ) ارتباطاً عضوياً، كما أن قيادة أولي الأمر مرتبطة بالأفراد ( المستشارين ) ارتباطاً عضوياً. والحق أن توجيه القرآن خطابه إلى القيادة الجماعية ناصع البيان لا يحتاج إلى تطويل في الشرح والتبيان. و إذا كان هناك توجيه أوضح من هذا التوجيه فهو هذا لا سواه.

فالشيخ محمد متولي الشعراوي قد لاحظ أن الآية الكريمة لم تعط للولاة طاعة ذاتية فقال : ( إن ولي ألمر لا طاعة له في ذاته، و إنما طاعته من باطن طاعة الله وطاعة الرسول فإذا انخرم عن شيء من طاعة الله وطاعة الرسول يبقى ليس له طاعة. ولو قال أطيعوا الله و أطيعوا الرسول وأطيعوا أولي الأمر منكم كان يعطي لها طاعة ذاتية ).([20])

وكان العلامة محمد رشيد رضا قد أدرك معنى الخطاب القرآني فقال إن القرآن لا يخاطب في كل ألأحكام الشرعية فرداً معيناً ولكنه: ( يخاطب جماعة المؤمنين بالأحكام التي يشرعها حتى أحكام القتال ونحوها من الأمور العامة التي لا تتعلق بالأفراد... وقد أمر بطاعة أولي ألأمر وهو الجماعة لا ولي ألأمر. وذلك أن ولي الأمر واحد منهم، وإنما يطاع بتأييد جماعة المسلمين الذين بايعوه ).([21])

ومع ذلك فقد قرأت السنة السياسية أولي الأمر بمعنى أولي ألأمر عليكم وفرضت من ثم الطاعة للبر والفاجر، وجاءت الشيعة الصفوية فقرأتها بمعنى أولي ألأمر فيكم، فحرمت الخلافة إلا على اثني عشر إماماً. وهكذا غاب المعنى القيادي الجماعي تحت هذه التحويلات الكبيرة. مع أن من قواعد الإسلام : ( أن سلطة الأمة لها، و أنها شورى بينها، و أن حكومتها ضرب من الجمهورية ). و أن ( خليفة الرسول فيه لا يمتاز في أحكامها على أضعف أفراد الرعية، و إنما هو منفذ لحكم الشرع و رأي الأمة ).([22])

لعل القائلين بولي ألمر قد انجروا إلى هذا القول بسبب أنهم نزعوا عن ألأمة مسؤولياتها وسلموها لولي ألأمر الفرد، فيصبح منطقياً والأمر على هذا الحال أن يقود القطيع فرد واحد.

والقرآن الكريم يفرق بين أمور المعاملات وأمور العبادات، فيربط المعاملات بالمسؤولية الجماعية لأنها متصلة بأمور الجماعة. ولذلك نجد الخليفة أبو بكر عاجزاً عن تعيين مرتب لنفسه، و أن المسلمين هم الذين عينوا له راتبه كأجير عندهم. ونجد الإمام علي عندما أصبح الرجل الأول في القيادة الجماعية يعجز عن أن يمد أخاه الضرير بأي مبلغ من مال المسلمين ([23]). أما في العبادات فالمسؤولية خاصة : " لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت " " كل نفس بنا كسبت رهينة " " كل امرئ بما كسب رهين ".

وتأكيداً على أن الأمة هي الحاكمة فإن نظام ألأمة يقوم على سلسلة من القيادات الجماعية – وليس قيادة واحدة – بدأ من الخلية الأولى ( ثلاثة أنفار )، مما يعني أن الأمة كلها مشاركة في القرار، وأن الهيكل الإداري كله قائم عليها، وكان كل مسئول يدعى بالأمين، ودليلنا على ذلك ما رواه السيوطي من أنه ( لما توفي أبو بكر ودفن، دعا عمر الأمناء ودخل بهم في بيت مال أبي بكر منهم عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان ففتحوا بيت المال ) ([24])فوجود أمناء يؤكد القيادة الجماعية.

وهنا نتساءل عن الكيفية التي كانت تؤخذ عليها الموافقة ليتم استبيان عمل القيادة الجماعية. والذي يبدو لي أن هناك طريقتان : الأولى هو اجتماع المسجد و إقرار ألأكثرية كما سيتوضح عند الحديث عن طريقة الراشدين أبي بكر عمر. والثانية : رضاء الأكثرية على القرارات، فإذا أصدر الخليفة أمراً واستقبل بالرضا فقد تمت الموافقة عليه و إذا اعترض عليه سحب. فما وافق عليه الناس أصبح نافذاً و ما اعترضوا عليه يسقط تلقائياً، فعندما منع عمر كبار الصحابة من مغادرة المدينة أقره الناس عليها، ولم يستجز أي واحد منهم مغادرة المدينة بعدما أصدر الخليفة توجيهاته و أطاعة الناس فيه، وهذا يعني أن طاعة الخليفة جاءت من التصديق الصامت على قراره، و إذا لم يوافقوا علبه فإن الخليفة يوافق على اعتراضهم. وهذا الشكل من التعامل كان جزءاً من الشورى. ولذا استنكر الناس إصرار عثمان على مواقفه بالرغم من استنكار الناس لها ؛ فالقرارات التي كان يطلقها عثمان يقرها الناس ما رأوا فيها خيراً، ويعترضون ما لم يروا فيها منفعة. وكان أبو بكر وعمر يقران ما تعتض عليه الأكثرية، لكن عثمان لا يقرهم ويركب رأسه. وهو تصرف يشير إلى آلية جديدة قد تكون بداية للدولة الفردية.

يتضح من كل ما تقدم أن نظام الأمة قائم على أربع دعائم:

1. أن الأمة هي مالكة القرار.

2. أن مؤسساتها جماعية.

3. أن قيادتها الجماعية من القادرين على استنباط الحلول المستجدة.

4. أن صلاحيات رئيس القيادة الجماعية تنفيذية لا تشريعية ؛ بمعنى انه ينفذ الثوابت، ويطبق ما أقرته الشورى.

وتأكيداً على القيادة الجماعية فإن المداولات – التي كانت تتم أثناء الخلافة الراشدة : خلافة الأمة – كانت نمطاً جديداً لم يكن مألوفاً في دولة بيزنطة وفارس، ولكنه أشبه شيء بطريقة المجلس الكونفدرالي السويسري الآن، و إذا أدركنا الفارق الزمني بينهما أدركنا أن الإسلام سبق الديمقراطية المباشرة بأكثر من ألف سنة. ومن الواضح أنه لولا الانقلاب السياسي الأموي لقادنا التطور إليه منذ وقت مبكر ([25]).
النتائج:

1- إن الإسلام قد فرض على الملكية الفردية عدة فرائض وواجبات، مما يدل على قراره لها، واعترافه بها، بل يصح أن يقال أن الملكية الفردية من خصائص التشريع الإسلامي

2- نهى الإسلام عن التعرض للملكية الفردية بغير حق، وفرض عدة عقوبات على التعدي عليها، مما يدل على إقراره لها ووجوب المحافظة عليها من الاعتداء كالسرقة أ, الغصب أو نحو ذلك.

3- اقر المجتمع الإسلامي نظام الملكية الفردية في عصور الإسلام المختلفة، بما يصح معه أن يقال أن الأمة الإسلامية قد أجمعت على صحة ملكية الأفراد
الهوامش:
[1] رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وماله وعرضه (مسلم، 4/1986)
[2] بلتاجي/ محمد، الملكية الفردية في النظام الاقتصادي الإسلامي، دار السلام للنشر والتوزيع، ط1، القاهرة، مصر، 2007، ص45
[3] - القرطبي، أبي عبد الله محمد بن احمد الأنصاري، الجامع لأحكام القرآن، الطبعة الثانية، 1952، 17/238.
[4] - البلتاجي، محمد، الملكية الفردية في النظام الاقتصادي الإسلامي، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، الطبعة الأولى، 2007، ص 59-60.
[5] - البلتاجي، الملكية الفردية، مرجع سابق، ص61.
[6] - ابن رجب، أبي فرج عبد الرحمن، القواعد، دار المعرفة، بيروت، د.ت، ص196-197.
[7] - ابن عابدين، محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز، حاشية ابن عادين، مراجعة نصر الوفائي الهوريني، ج5، ج6.
[8] - السنهوري، الوسيط، 8/553.
[9] - الخفيف، علي، الملكية الفردية وتحديدها في الإسلام، مؤتمر البحوث الإسلامية، ج1، (د.ت)، 1/26 وما بعدها
[10] - العبادي، عبد السلام داود، الملكية الفردية في الشريعة الإسلامية، الطبعة الأولى، 1974م، مكتبة الأقصى، عمان-الأردن، 1/438.
[11] - نظرية التعسف في استعمال الحق، ص81-82.
[12] - ابن نجيم، زين العابدين بن إبراهيم، الأشباه والنظائر، 1400هـ-1980م، دار الكتب العلمية، بيروت، ص346.
[13] - مسلم، أبي الحسين بن الحجاج النيسابوري، صحيح مسلم مع شرح النووي، 11/43.
[14] - الاراغب الاصفهاني، أبي القاسم الحسين بن محمد، المفردات في غريب القران، تحقيق محمد سيد كيلاني، 1381هـ-1961م، مطبعة مصطفى البابي الحلبي واولاده، القاهرة، (سرف): ص230.
[15] - الشافعي، محمد بن ادريس، الام، دار الفكر، بيروت، 1403هـ، 3/249-250.
[16] - ابن نجيم، زين الدين بن إبراهيم بن محمد، البحر الرائق شرح كنز الدقائق، الطبعة الثاني، دار المعرفة، بيروت، 7/32.
[17] - الهيثمي، احمد بن حجر، تحفة المحتاج بشرح المنهاج، د.ت، 8/198.
[18] - ابن رجب الحنبلي، أبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين بن احمد، جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم، الطبعة الخامسة، 1400هـ-1980م، مطبعة مصطفى البابي الحلبي واولاده، القاهرة، 299 وما بعدها.
[19] - الفردية، بحث في أزمة الفقه الفردي السياسي عند المسلمين، زيد بن علي الوزير، مركز التراث والبحوث اليمني، ط1، 2000.
[20] - الشعراوي، المختار من تفسير القرآن العظيم، ص 85.
[21] - رضا : الخلافة، ص 21.
[22] - المصدر السابق، ص 9.
[23] - تاريخ الخلفاء، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، ط1 1952، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، ص 204.
[24] - تاريخ الخلفاء، ص 79.
[25] - الفردية، بحث في أزمة الفقه الفردي السياسي عند المسلمين، زيد بن علي الوزير، مصدر سابق.

المراجع:
1. بلتاجي، محمد، الملكية الفردية في النظام الاقتصادي الإسلامي، دار السلام للنشر والتوزيع، ط1، القاهرة، مصر، 2007
2. الأزهري، منظور أحمد: ترشيد الاستهلاك الفردي في الاقتصاد الإسلامي، دار السلام، القاهرة، 2002.
3. قاسم، عبد الستار، حرية الفرد والجماعة في الإسلام، دار المستقبل، فلسطين، 1998.
4. زيدان، عبد الكريم، الفرد والدولة في الشريعة الإسلامية، الإتحاد الإسلامي العالمي للمنظمات الطلابية، ط2، الكويت، 1970.
5. القرطبي، أبي عبد الله محمد بن احمد الأنصاري، الجامع لأحكام القرآن، الطبعة الثانية، 1952، 17/238.
6. ابن رجب، أبي فرج عبد الرحمن، القواعد، دار المعرفة، بيروت، د.ت، ص196-197.
7. ابن عابدين، محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز، حاشية ابن عادين، مراجعة نصر الوفائي الهوريني، ج5، ج6.
8. الخفيف، علي، الملكية الفردية وتحديدها في الإسلام، مؤتمر البحوث الإسلامية، ج1، (د.ت)، 1/26 وما بعدها
9. العبادي، عبد السلام داود، الملكية الفردية في الشريعة الإسلامية، الطبعة الأولى، 1974م، مكتبة الأقصى، عمان-الأردن.
10. ابن نجيم، زين العابدين بن إبراهيم، الأشباه والنظائر، 1400هـ-1980م، دار الكتب العلمية، بيروت.
11. الاراغب الاصفهاني، أبي القاسم الحسين بن محمد، المفردات في غريب القران، تحقيق محمد سيد كيلاني، 1381هـ-1961م، مطبعة مصطفى البابي الحلبي واولاده، القاهرة.
12. ابن رجب الحنبلي، أبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين بن احمد، جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم، الطبعة الخامسة، 1400هـ-1980م، مطبعة مصطفى البابي الحلبي واولاده، القاهرة.
13. الوزير، زيد بن علي، الفردية، بحث في أزمة الفقه الفردي السياسي عند المسلمين، ، مركز التراث والبحوث اليمني، ط1، 2000.