بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ماذا لو اختار أحدهم أن يبقى عازباً في الدارين ؟ملخص الجواب
السؤال :
ماذا لو اختار أحدهم أن يبقى عازباً في الدارين ، فهل هذا جائز؟ ألم يقل الله أن في الجنة ما تشتهيه الأنفس ، فماذا إذن لو اشتهى أحدهم أن يبقى عازباً ؟ وكيف سنوفق ذلك مع قول النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يبقى في الجنة عازب ؟تم النشر بتاريخ: 2016-05-28
الجواب :
الحمد لله
أولا :
هذا الإشكال هو نظري فقط ، ولا وجود له في واقع يوم القيامة ؛ لأن الوحي أخبرنا أنه لا أعزب في الجنة .
عن أَبي هُرَيْرَةَ: قال أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَمَا فِي الْجَنَّةِ أَعْزَبُ ) رواه مسلم (2834) .
والزواج من متاع أهل الجنة ، وأهل الجنة لا يكون لهم من المتاع إلا ما تشتهيه أنفسهم ، لا ما تكرهه ولا تريده .
قال الله تعالى : ( وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ) فصلت /31 .
وقال الله تعالى : ( وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) الزخرف /71 .
فيتضح من هذا ؛ أنهم مادام سيمتعون كلهم بالزواج ، فإنه ستشتهيه أنفسهم حتما ، وأنه لن يرفض الزواج أحد من أهل الجنة .
ثانيا :
الإنسان في هذه الدنيا قد لا يرغب في الزوجة لأحد الأسباب التالية -وكلها منتفية في الآخرة-
الحالة الأولى :
ألا يعطى الرغبة في النساء لكن يكون عنده من الهموم والمشاغل الدينية أو الدنيوية ما يضعف نفسه ، ويتغلب على رغبته في النساء فيشغله عنهن ، وهذا الأمر ليس موجودا في الجنة ؛ لأن الجنة لا همّ ولا نصب ولا تكليف فيها كما هو معلوم .
قال الله تعالى : ( لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ ) الحجر/48 .
الحالة الثانية :
أن يكون الشخص يعاني من علة نفسية أو جسدية تزيل منه هذه الرغبة والميل للنساء ، وأهل الجنة لا يعانون من الأمراض والعلل ، بل يعطون قوة على النساء تفوق قوة أهل الدنيا .
عن زَيْد بْن أَرْقَمَ، أنه قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يُعْطَى قُوَّةَ مِائَةِ رَجُلٍ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالشَّهْوَةِ وَالْجِمَاعِ ) " رواه أحمد (32 / 65) و (32 / 19) وصححه محققو المسند، وصححه الألباني في " صحيح الجامع الصغير " (1 / 335).
الحالة الثالثة :
أن يعتقد الشخص أن الزواج نقص والتبتل كمال ؛ كما هو حال بعض من يدعي التصوف والزهد ، فلهذا ينصرف عن الزواج ولا يريده .
وهذا جهل وقصور في العلم ينزه عنه أهل الجنة ؛ لأن الحق هو أن الرغبة والميل للنساء والقوة في ذلك هو من الكمال البشري الممدوح ؛ ولهذا كان الأنبياء وهم صفوة الخلق يتزوجون .
قال الله تعالى : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ) الرعد/38 .
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى :
" وإن أكثر من النكاح والسراري ، كان ممدوحًا لا مذمومًا ؛ فقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم زوجات وسراري ...
فإن طلب التزوج للأولاد ، فهو الغاية في التعبد ، وإن أراد التلذذ ، فمباح ، يندرج فيه من التعبد ما لا يحصى ، من إعفاف نفسه والمرأة . إلى غير ذلك .
وقد أنفق موسى عليه السلام من عمره الشريف عشر سنين في مهر ابنة شعيب ؛ فلولا أن النكاح من أفضل الأشياء ، لما ذهب كثير من زمان الأنبياء فيه ... " .
انتهى من " صيد الخاطر " (ص 64 – 65) .
والرغبة عن الزواج والزهد فيه مع القدرة عليه هو أمر باطل مخالف للشرع .
عن أَنَس بْن مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أنه قال: " جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا ، فَقَالُوا : وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ ، فَقَالَ : )أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا ؟ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ) رواه البخاري (5063) ، ومسلم (1401) .
فالحاصل ؛ أن هذا الاستشكال مبني على قياس حياة أهل الجنة على حياة أهل الدنيا ، وقياس رغبات أهل الجنة الكاملة على رغبات أهل الدنيا التي يكتنفها القصور والجهل ، وهو قياس باطل ؛ لأنه قياس مع الفارق ، فهو قياس للحياة الكاملة على الحياة الناقصة.
قال الله تعالى : ( وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) العنكبوت /64 .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى :
" وأما الدار الآخرة ، فإنها دار ( الْحَيَوَانُ ) أي : الحياة الكاملة ، التي من لوازمها ، أن تكون أبدان أهلها في غاية القوة ، وقواهم في غاية الشدة ، لأنها أبدان وقوى خلقت للحياة ، وأن يكون موجودا فيها كل ما تكمل به الحياة ، وتتم به اللذات ، من مفرحات القلوب ، وشهوات الأبدان ، من المآكل ، والمشارب ، والمناكح ، وغير ذلك ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر " انتهى من " تفسير السعدي " (ص 635) .
والله أعلم .