جاءت كلمة العلم في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم مطلقة، ودونما تقييد أو تحديد؛ فهي تشمل كل علمٍ نافعٍ يهدف إلى خير الدنيا وعمارة الأرض، وكل علمٍ يهدف إلى صلاح الناس، والقيام السليم بواجبات الخلافة البشرية على هذا الكوكب.
ويمكننا تقسيم العلوم إلى قسمين كبيرين يشملان كل علم نعرفه أو نحتاج إليه، وهذان القسمان هما: العلوم الشرعية والعلوم الحياتية.
العلوم الشرعية والعلوم الحياتية
أما العلوم الشرعية فهي العلوم التي يُعرَف بها الله تعالى، ويُعرَف بها كيف تكون العبادة الصحيحة، ويشمل ذلك كل العلوم المتعلقة بدراسة الدين وفقه الشريعة، مثل علوم القرآن، وعلوم السنة والحديث الشريف، وعلوم العقيدة، وعلوم الفقه وأصوله، وعلوم الأخلاق، وغير ذلك مما يتعلق بالشريعة والدين. ويرتبط بهذا القسم بعض العلوم الأخرى التي يُحتاج إليها في فقه تلك العلوم الشرعية، مثل علوم اللغة والأدب والتاريخ، ونحو ذلك.
أما العلوم الحياتية فهي العلوم النافعة التي يحتاج إليها الإنسان ليصلح بها حياته، ويعمِّر بها أرضه، ويستكشف بها كونه وبيئته، وذلك مثل علوم الطب والهندسة والفلك والكيمياء والفيزياء والجغرافيا، وعلوم الأرض والنبات والحيوان، وغير ذلك من العلوم المشابهة.
فكلمة العلم التي كَثُرت الإشارة إليها في الكتاب والسنة إنما تعني -في أكثر الأحيان- العلم بشقيه الشرعي والحياتي، وكل ما جاء من مدحٍ للعلماء، فهو لكل عالمٍ نفع الناس بعلمه، سواء كان شرعيًّا أم حياتيًّا.
علوم فرض العين وعلوم فرض الكفاية
ثم إن هذه العلوم -سواء علوم الشرع أو علوم الحياة- تنقسم بدورها إلى قسمين: علوم فرض عين، وعلوم فرض كفاية.
وفرض العين هو ما طلب الشارع فعله طلبًا جازمًا من كل مكلف بعينه، فلا يكفي أن يقوم به البعض دون البعض الآخر، ومنه: الصلاة، والصيام، والوفاء بالعقود وغيرها.
وفرض الكفاية هو ما طلب الشارع حصوله طلبًا جازمًا من جماعة المكلفين، فإن أقامه أحدهم أو بعضهم على الوجه المطلوب، سقط الإثم عن الباقين، وإن لم يقمه أحد أثم الجميع، ومنه: الجهاد في سبيل الله، وإقامة الخلافة، والصلاة على الميت ودفنه، وغيرها [1].
وعليه فالعلوم التي تُعَد من فروض العين هي تلك التي يتعين على كل مسلم ومسلمة ممن اتصف بالعقل والبلوغ أن يُحصِّلَها ويتعلَّمها، وإذا لم يحصلها أثم بسبب ذلك، وركبته السيئات بحجم التفريط الذي فرّط.
فهذا النوع من العلوم حتميٌ على كل المسلمين، وليس هناك استثناء فيه، وهو الذي عناه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه وقال فيه: "طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ" [2].
وأما العلوم فرض الكفاية فهي تلك العلوم التي إن قام بها بعض المسلمين على الوجه الأكمل، واستطاعوا أن يكْفوا بقية الأمة فيها، فإنهم يثابون عليها ويسقط الإثم عن باقي الأمة، حتى أولئك الذين لم يقوموا بها، وأما إذا لم توفر الأمة من العلماء ما يكفي حاجتها في فرع معين، فإن الإثم يقع على الجميع إلى أن تكفي الأمة حاجتها في ذلك الفرع، فتوفر الكم والنوع اللازم لسد كل الثغرات.
وفروض الكفاية كثيرة جدًّا، والأمة النجيبة الواعية هي التي توزِّع فروض الكفاية على أفرادها بحيث تسد كل الثغرات لديها، وتكفى كل حاجاتها، بحيث لا يصبح هناك -مثلاً- تكدسٌ في أحد المجالات، ونقصٌ وقصورٌ في مجالات أخرى، وهذا يحتاج إلى اتساع أفقٍ وشمولِ نظرة.
ولنحاول أن نسقط هذه التعريفات على الواقع.
العلوم الشرعية
فالعلوم الشرعية منها ما هو فرض عين، "يتعين" على كل مسلمٍ ومسلمةٍ أن يتعلموه، ويأثمون بتركه، وذلك مثل العلم بالله تعالى على سبيل الإجمال، كالعلم بأنه سبحانه عليمٌ وخبيرٌ وقادرٌ على كل شيء، وأنه خالقٌ ورازقٌ ورحيمٌ وكريمٌ وغير ذلك.
وأيضًا مثل العلم بأمور الفقه الضرورية لأداء العبادات، فيتعلم المسلم كيف يتوضأ وكيف يصلِّي، وما هي نواقض الوضوء، وما هي نواقض الصلاة، وما الفرق بين الفرض والنافلة، وبين ما تصح الصلاة بدونه، وما لا تصح الصلاة إلا به، وأن يعرف الصيامَ وأحكامه، والزكاة وأحكامها، وأن يعرف أمور الحلال والحرام، وخاصة المشهور منها، والذي سمّاه العلماء "ما هو معلوم من الدين بالضرورة" كحرمة الزنا والخمر والخنزير والربا، وكذلك عليه أن يعرف رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ونبذة عن سيرته، وأيضًا يعرف القرآن وكيف يُتلى، ويعرف عن الساعة ويوم القيامة إجمالاً، وكذلك عن الجنة والنار وهكذا.
ومن العلوم الشرعية ما هو فرض كفاية على بعض علماء الأمة وليس مفروضًا على بقية المسلمين، مثل دقائق علم العقيدة، ودقائق الفقه مثل فقه المواريث، ودقائق فقه التجارة لغير التجار، وكيفية حساب الزكاة في الاحتمالات المختلفة، ودقائق الاقتصاد لغير الاقتصاديين، ودقائق تفسير القرآن، وأسباب النزول، وتفاصيل حياة الرسول وحياة أصحابه، وتخريج الأحاديث، والعلم برواتها، ودرجاتهم من حيث الجرح والتعديل، وتفاصيل التاريخ الإسلامي، وفنون اللغة ودقائقها [3].
فهذه العلوم هي من فروض الكفاية، والتي وجب على الأمة أن توجد طائفة من أفرادها ليقوموا بالخوض فيها، وإتقانها والتبحر فيها والتمكن منها، والقدرة على معرفة كافة أطرافها ودقائقها، وهو مصداق قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].
وإذا لم توفر الأمة هؤلاء العلماء، وكانت تعاني مثلاً- نقصًا في علماء التفسير أو علماء الفقه أو الحديث أو غيره، فإن الأمة جميعها تأثم إلى أن توفر هذه الطائفة.
العلوم الحياتية
والأمر هو نفسه بالنسبة للعلوم الحياتية، فمنها ما هو فرض عين، "يتعين" على كل مسلمٍ ومسلمةٍ أن يتعلموه، ويأثمون بتركه، ومنها ما هو فرض كفاية، إن قام به البعض سقط عن الجميع.
فمثلًا: علم الطب يُعد فرض عينٍ على الطبيب، وعلم الهندسة يُعد فرض عينٍ على المهندس، وعلم الكيمياء فرض عينٍ على الكيميائي وهكذا. فإذا تعلم كل واحدٍ من هؤلاء مهنته وأتقنها وبرع فيها، ووصل إلى درجة من الابتكار وحل المشكلات في مجاله، وهكذا في كل تخصص، فإن الفرض يُكفى، وبذلك يسقط الإثم عن المسلمين.
أما إذا فشلت الأمة في إخراج عدد مناسب، وبكفاءة متميزة يكْفون حاجة المسلمين، فإن الإثم يقع على الأمة جميعًا؛ وذلك لفشلها في تحقيق ذلك الأمر [4]!!
وليس غريبًا بعد ذلك أن يكون من نتيجة ذلك الفشل أن تتخلف الأمة عن ركب الحضارة، وأن تكثر أزماتها ومشكلاتها، فضلا عن سقوطها في أعين غيرها من الأمم الأخرى، فتصبح وقد اقتادها غيرها، وقد أضحت فريسة سهلة للطامعين، فلا يُستبعد أن تنتهك سيادتها، وأن تحتل أرضها، وأن تسلب ثرواتها.. حتى تضيع تحت أقدام الغزاة!!
والشاهد من ذلك أن المرء المسلم واقع بين نوعين من العلوم يتعين عليه أن يتقنهما: الأول خاص بمعرفة دينه المعرفة التي توصله إلى العبادة الصحيحة كما ذكرنا سابقا، وهو ما لابد للجميع منه. والثاني خاص بمجال التخصص الذي هو فيه، أيًّا كان مجاله وطبيعة عمله. والذنب والإثم في كلٍ هو بحجم التقصير الذي يحصل.
ومن هذا المنطلق لا يستقيم لطالب رفعةٍ لهذه الأمة، وراجي التمكين لها في الأرض، أن يكون فاشلاً في مجاله، متخلفًا في صنعته أو في مهنته أو في علمه الذي وُكِّل به؛ إذ أن تقدم الأمة معتمدٌ على تقدمه، وتخلفها هو نتيجة لتخلفه.
مثال توضيحي للمسلم العالم
وعلى ذلك فإننا إذا أخذنا أحد المسلمين كمثال توضيحي، فإننا نقول:
لو أن هناك اقتصاديًّا متخصصًا من المسلمين، فإنه يتعين عليه أن يتعلم كيف يُصلِّي، وكيف يصوم، وكيف يزكِّي، وكيف يعتقد في ربه وفي رسوله وفي القرآن، وأن يعرف عن يوم القيامة والجنة والنار، كما سبق أن ذكرنا.
وفوق ذلك فيتعيَّن عليه أن يُتقن مجال الاقتصاد ويبرع فيه، ويبتكر الطرق الحديثة التي ترفع من اقتصاد الأمة وتُعْلي من شأنها ماديًّا، وعليه أيضًا أن يعرف الفقه الإسلامي الخاص بالاقتصاد، وحكم الإسلام في المعاملات الاقتصادية المختلفة، وحكمه في قضايا البنوك وشركات الاستثمار والتأمين والتوفير والقروض، وغير ذلك من الأمور التي تمس هذا الجانب بصورة مباشرة.
ولكن هذا الاقتصادي لا يتعين عليه ولا يلزمه أن يتعلم دقائق التفسير، أو يتعلم بنود الفقه المختلفة الخاصة بالطب، أو الخاصة بالحرب أو الخاصة بالزواج أو الطلاق أو الميراث؛ فهذا له متخصصون ومهتمون، تماما كما هو في تخصصه في مجال الاقتصاد.
كما أنه لا يلزمه أن يتعلم شيئًا عن الطب أو الهندسة أو الفلك أو الزراعة أو غيرها، إلا فيما يرتبط بعمله كاقتصادي..
وهكذا تتوزع كفاءات الأمة على الفروع المختلفة، وتسد الثغرات تباعًا.
الأمة الناجحة
ولا يستقيم لأمة ناجحة أن تتكدس فيها –مثلًا- طاقات فقهية، بينما تفتقر إلى علماء الطب أو الكيمياء، ولا يستقيم لأمة متكاملة أن يتكدس فيها جمعٌ غفيرٌ من القضاة، وهي تفتقر إلى علماء التاريخ، وهكذا.
وهذا دور الدولة الناجحة، أن ترقُب باستمرارٍ أوجه النقص، ومن ثم تسد الخلل وتحرص على تكميله.. كما أنه دور الأفراد في أن يتوجهوا إلى سد الثغرات المهمة والضعيفة، وألا يترك أصحاب التخصص منهم تخصصهم وينشغلوا بغيره من الأعمال التي لم يكلفوا أصلاً بأدائها، ولم توجب عليهم.
على أن الدور الأكبر والمسؤولية الضخمة في هذا الأمر تتحمله الدولة ممثلة في الحكومة، ولابد لها من أن تسعى لرفعة شعبها وإعزاز أمَّتها في كل المجالات، وهي غير معذورة في أي تقصير في هذا الأمر، كما أنه ليس هناك مبررٌ للبقاء في ذيل الأمم لسنوات وسنوات.
وهذا لا يعني -كما سبق أن أشرنا- إعفاء أنفسنا من المسئولية، فهذا مصير الأمة، وإننا -كأفراد- لدينا من المساحات الضخمة التي من الممكن أن نعمل فيها وننتج ونبرع الكثير والكثير.
فالطالب -مثلاً- في أي مراحله التعليمية بإمكانه ألا يكتفي بما هو مقررٌ عليه فقط، وخاصة إذا كان هذا المقرر على مستوى غير كافٍ، ومن ثم فيمكن أن يلجأ إلى المكتبات وإلى الشبكة العالمية (الإنترنت) وغيرها، مما يزيد من حصيلته العلمية في مقرراته الدراسية وفي مجال تخصصه.
فإذا كان طالبًا يكون طالبًا متفوقًا، وإذا كان أستاذًا أو معلمًا يكون معلمًا متقنا ومبدعًا، وإذا كان مهندسًا يكون على أعلى درجة وأمكن معرفة بمجال عمله وهندسته، وهكذا، والمطلوب هو بذل الجهد كلٌ في مجاله قدر المستطاع.
وحين يكون الالتزام بذلك، وحين لا يكون مبلغ علم الجميع وأقصى أمانيهم هو فقط الحصول على شهادة في كذا أو كذا، حينها يسود جوٌ عام من حب العلم، فيصبح البلد أو الإقليم وقد اتخذ وجهة العلم قبلة له، شاء في ذلك أم أبى أصحاب اتخاذ القرار وصُنَّاعه!!
بل إن السياسيين حينذاك سيجدون أنهم مضطرون إلى أن يسايروا تلك الموجة العلمية، ويكونون من ركْبها، تماما كما يسايرون الموجة الدينية -رغم أن الكثيرين منهم ليست لهم ميول دينية أصلًا- فتراهم -مثلاً- يُقيمون المسابقات الدينية، ويحضرون الاحتفالات الموسمية، ويهبون الجوائز على حفظ القرآن الكريم.. وذلك طالما كان هناك جو عام من الاهتمام بالدين.
فكذلك إذا كانت هناك ثورة علمية، وأصبح العلم شغل الأفراد ومصب اهتماماتهم، حينها ستجد السياسي –مثلاً- الذي يريد أن ينجح في الانتخابات، تراه يضع في برنامجه الانتخابي الاهتمام بالمؤسسات العلمية، والعمل على إنشاء الجديد منها والمزيد، وزيادة ميزانية الدولة في هذا الجانب. وعليه فلن تجد اهتماماته متجهةً فقط إلى الطعام والشراب، وما إلى ذلك، وإنما يكون جل اهتماماته هو همّ الأمة الأول وشغلها الشاغل، وهو يومئذ العلم وقضايا التعليم!!
ولو قامت الأمة الإسلامية بدورها في هذا المجال (الاهتمام بالتوازن بين العلوم والربط بين العلم الشرعي والعلم الحياتي) حكومة وشعبًا، جماعات وأفرادًا، ما افتقرت أبدًا إلى غيرها، ولقامت معتمدة على سواعد أبنائها، وهذا -ولاشك- يرفع من قيمتها ويعز شأنها.
[1] راجع النووي: المجموع شرح المهذب، مطبعة المنيرية، 1/49.
[2] ابن ماجه: كتاب الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، باب فضل العلم والحث عليه (224)، والطبراني في الكبير (10439)، والبزار (94)، وقال الألباني: صحيح ( 3913) صحيح الجامع.
[3] راجع في ذلك ابن حزم: الإحكام في أصول الأحكام، مطبعة الإمام – القاهرة، 5/113 وما بعدها - ويوسف القرضاوي: الرسول والعلم، مكتبة وهبة – القاهرة ص93،94.
[4] انظر في ذلك: الغزالي: إحياء علوم الدين، دار المعرفة – بيروت 1/16.
قصة الإسلام