نسعد كثيرًا، ويأخذنا الإعجاب والفخر كل مأخذ، حين نسمع عن عالمٍ عظيمٍ نبغ في مجال من مجالات العلوم المختلفة، ويزداد الإعجاب والفرح حين يكون هذا العالم مسلمًا ملتزمًا بتعاليم دينه، يبغي الصلاح ونفْع الأمة. والعجيب أن هذا الشعور وذاك الإحساس أحيانًا لا يتخطَّى حاجز النظرة العابرة واللحظة الآنية، تلك التي تنظر فقط إلى الأمور في نهايتها، وإلى الثمار في أوج نضجها، وليس إلى النَّبْت من أول غرسه وكيف نبَت!!
وإنه لحريٌ بنا -ونحن نبغي العلم ورفعة الأمة- أن نقف على ذاك النبت منذ بدايته، كيف ينمو؟ وكيف ينشأ؟ وما هي السبل التي من شأنها أن تخرج لنا هذه الثمرة الطيبة؟ وهي: "العلماء"!!
دور الآباء في تنشئة العلماء
يقع الواجب الأكبر في إخراج العلماء وتنشئتهم على عاتق قطبي الأسرة: الأب والأم؛ فهما المظلة الحقيقية التي يخرج من تحت عباءتها العلماء، وهما البلد الذي يخرج نباته كما يُسقى ويُغذَّى. يقول تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} [الأعراف: 58].
والأبوان غالبًا ما يحددان وجهة الطفل ومصيره، وقد ذكر رسولنا صلى الله عليه وسلم هذا الأمر في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه فقال: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، وَيُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟" ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30] [1].
وقد فقه كثيرٌ من الآباء المسلمين تلك الحقيقة، فبذلوا جهدهم ليوفروا لأبنائهم تلك البيئة الصالحة التي تساعدهم على أن يكونوا علماء. فكان منهم -على سبيل المثال- من يستقدم لأبنائه علماء مشهورين لتعليمهم وهم صغار، وكانوا يختارون من هؤلاء العلماء المشهورين من يجمعون -في الغالب- بين أكثر من علم!!
محمد بن عبد الله بن طاهر
وكان من ذلك أن محمد بن عبد الله بن طاهر (حاكم بغداد في أيام المتوكل العباسي، وتوفي سنة 253هـ) اختار لتعليم ابنه طاهر العالِمَ النحوي اللغوي أحمد بن يحيى المعروف بثعلب، إمام الكوفيين في النحو واللغة، بل إن هذا الأب أفرد لذلك العالم الذي استقدمه لتعليم ابنه دارًا في داره ليقيم فيها هو وتلميذه، وكان يتغدَّى معه، هذا غير إجرائه له مرتبًا معلومًا في الشهر [2]!!
الخليفة المأمون
ومثله فعل الخليفة المأمون حين وكَّل الفرَّاء (من أئمة الكوفيين أيضًا، وأعلمهم بالنحو واللغة وفنون الأدب، تُوُفِّي سنة 207هـ) بتعليم ابنيه في داره، والطريف في ذلك أن ابني المأمون هذين، اللذين تربَّيا على العلم وحفظ مكانة العلماء، تنازعا ذات يومٍ على تقديم نعل الفرَّاء إليه!! ولما علم المأمون بذلك بادر بسؤاله: مَنْ أعزُّ الناس? فأجابه الفراء بأنه ما يعرف أعزَّ من أمير المؤمنين، فقال له المأمون: بل أعز الناس من إذا نهض تقاتل على تقديم نعليه وليَّا عهد المسلمين، حتى رضي كل واحد أن يقدم له فردًا!! ثم أخبره بأن ما فعلاه رفع من قدرهما، وكشف عن جوهرهما [3]!!
عتبة بن أبي سفيان
وهذا عتبة بن أبي سفيان يأتي بمؤدِّبٍ لولده، ويقول له: "ليكن أول إصلاحك لولدي إصلاحك لنفسك؛ فإنَّ عيونهم معقودة بك؛ فالحَسَن عندهم ما صنعتَ، والقبيح عندهم ما تركت، علِّمهم كتاب الله، ولا تملهم فيكرهوا، ولا تدعهم منه فيهجروا، ورَوِّهم من الحديث أشرفه، ومن الشعر أَعَفَّه، ولا تخرجهم من بابٍ من العلم إلى غيره حتى يحكموه؛ فإن ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم. تهددهم بي، وأدبهم دوني، وكن لهم كالطبيب الرفيق الذي لا يعجل بالدواء حتى يعرف الداء، وامنعهم من محادثة النساء، وأشغلهم بسير الحكماء، واستزدني بآدابهم أزِدْك، ولا تتكلنَّ على عذر مني؛ فقد اتكلت على كفاية منك" [4].
ومثل هذا لَيَعكِس حرص الآباء على تنشئة أبنائهم التنشئة العلمية السليمة، وحرصهم على رعايتهم وتربيتهم منذ صغرهم ليكونوا علماء الغد ورجالاته.
تشجيع الآباء لأبنائهم
ولقد كان من وسائل هؤلاء الآباء أيضًا في تنشئة أبنائهم ليصبحوا علماء ما كان من تشجيعهم لهم، واحتفائهم بهم، وتقديمهم الغالي والنفيس ليرغبوا أطفالهم في العلم، كما كان منه أيضًا إكرام معلميهم.
فكان عبد الملك بن مروان يُرغِّب بنيه، ويقول لهم: "يا بَنِيَّ، تعلَّموا العلم؛ فإن استغنيتم كان لكم كمالاً، وإن افتقرتم كان لكم مالاً" [5].
وحدَّث النضر بن الحارث؛ فقال: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: قال لي أبي: "يا بُنيَّ، اطلب الحديث، فكلَّما سمعتَ حديثًا وحفظتَه فلك درهم. فطلبتُ الحديث على هذا" [6].
وهذا أبو القاسم بن الوزير الخاقاني يحتفل بدخول ابنه الكُتَّاب، فكان مما فعله أنه دعا من القوّاد والرؤساء جماعةً بلغوا ثلاثين فردًا، وأمر الداعي بإعطاء المُعلِّم ألف دينار! وأكرم الناس وأكلوا [7].
ابن سينا
وحتى لا يُظَنُّ أن الأمر خاصٌّ بالخلفاء أو الأمراء أو المشهورين من العلماء فقط، فهذا والد ابن سينا، وكان شخصًا لم يُعرَف عنه أنه اشتُهِرَ بعلم أو رياسة، أحضر لولده ابن سينا - غم نبوغه وعبقريته الفذَّة منذ صغره- عالِمَ الفلسفة المشهور أبا عبد الله النائلي، وأنزله داره؛ بغية أن يعلِّم ولده ابن سينا [8].
الإمام الطبري
وهذا أيضًا الإمام الطبري (أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ت 310هـ) يحدِّث عن نفسه فيقول: "حفِظتُ القرآن ولي سبع سنين، وصلَّيت بالناس وأنا ابن ثماني سنين، وكتبت الحديث وأنا في التاسعة"!! [9] والشاهد هنا: كيف وصل إلى هذه الرتبة العَلِيَّة والدرجة الرفيعة تلك؟!
والإجابة في ذلك تكمن في قوله وهو يحكي دور والده: "رأى لي أبي في النوم أنني بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعي مخلاة مملوءة بالأحجار، وأنا أرمي بين يديه، وقصَّ رؤياه على المعَبِّر؛ فقال له: إن ابنك إن كبر نصح في دينه، وذبَّ عن شريعته. فحرص أبي على معونتي على طلب العلم، وأنا حينئِذٍ صبيٌّ صغير" [10]!
ولا نعجب بعدُ أن نرى الطبري وهو يحدث عن نفسه وهو بصدد تفسير القرآن العظيم الذي ألَّفه، والمسمَّى (جامع البيان في تأويل القرآن)، والذي يقع في أكثر من عشرين جزءًا كبيرًا؛ فيقول: "حدثتني نفسي به وأنا صبي!!" [11] أي منذ أن شجعه والده، وأعانه على طلب العلم، وحببه له، حتى غدا رحمه الله شيخ المفسرين والمحدِّثين والمؤرِّخين، والمجتهد العظيم.
الإمام المودودي
وفي عصرنا، كان والد المودودي الهندي هو مُعلِّمَه الأول؛ حتى إنه علَّمَهُ اللغة العربية والقرآن الكريم والحديث الشريف والفقه وغيرها، وقد حكى ابنه عن ذلك فقال عن والده: "لقد أحسن تربيتي، وعلمني النطق السليم، وكان يحكي لي كل مساء قصص الأنبياء والمرسلين، ووقائع التاريخ الإسلامي، وحوادث الهند، واهتم بأخلاقي؛ وكان يأخذني معه دائمًا عند رفاقه، وكُلُّهُم على درجة عالية من الثقافة والاتزان، فانتقلت إلى من مجالستهم العادات الفاضلة الحسنة" [12].
سليمان بن عبد الملك
وبصفة عامة فإن من أهم واجبات الآباء أن يُعظِّموا عند الأبناء قيمة العلم، ويرفعوا عندهم قيمة المعلمين والمدرسين، وإلَّا يصبح كلام المعلم للطفل هباءً منثورًا، ومن أروع ما جاء في ذلك ما كان من حال أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك هو واثنين من أبنائه الأمراء مع العالم الجليل عطاء بن أبي رباح العبد الأسود؛ حيث قال سليمان لولديه: "يا بني، لا تنيا في طلب العلم، فإني لا أنسى ذُلّنا بين يدي هذا العبد الأسود" [13]!!
وهكذا يكون دور الآباء مع الأبناء في سبيل تخريج وتنشئة العلماء.
[1] البخاري: كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه وهل يعرض على الصبي الإسلام (1271)، ومسلم: كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين (4803).
[2] انظر: آدم متز: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، ترجمة محمد عبد الهادي أبي ريدة، لجنة التأليف والترجمة والنشر - القاهرة، الطبعة الثالثة، 1/328.
[3] وفيات الأعيان 6/ 179.
[4] انظر تاريخ دمشق 38/ 272 – ابن عبد ربه: العقد الفريد 1/ 234.
[5] انظر ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله 1/ 242.
[6] انظر الخطيب البغدادي: شرف أصحاب الحديث ص 165.
[7] انظر آدم متز: الحضارة الإسلامية 1/ 329.
[8] انظر ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء 3/ 71.
[9] انظر ياقوت الحموي: معجم الأدباء 18/ 49.
[10] المصدر السابق: نفس الصفحة.
[11] انظر ياقوت الحموي: معجم الأدباء 18/ 62.
[12] مجلة المختار الإسلامي، ربيع الأول 1400هـ ص 84.
[13] ابن الجوزي: صفة الصفوة 2/212.
د. راغب السرجاني