من رواية السيرة: صيادون في شارع ضيّق
جبرا إبراهيم جبرا
عندما وصلتُ إلى بغدادَ كان لديَّ ستة عشر ديناراً فقط، وكان مقدراً لهذا المبلغ أن يكفيني فترة أسبوعين .وقد ثبت فيما بعد أن ذلك التقدير كان مبالغا في التفاؤل، إذ أن السلفة الأولى على راتبي لم تدفع إلا بعد مرور ستة أسابيع. بل إن ستة عشر دينارا ليست بالمبلغ الكبير بالنسبة لغريب في مدينة كبيرة حتى لفترة أسبوعين. لذا فكرت بوجوب الحيطة في مصروفاتي، وبالذهاب إلى فندق رخيص.
طلبتُ من سائق التاكسي أن يأخذني إلى فندق جيدٍ ففعلْ. أخذني إلى فندق "شهرزاد" الذي كانت له واجهةً لطيفة تتقدمها حديقة. فتركت متاعي في السيارة وذهبت إلى منذدة الاستقبال. كان الجو حاراً جداً في الشارع، ولكن ما إن دخلت ردهة الفندق حتى هبّت على وجهي نسمة باردة رطبة، فساورتني على الفور بعض المخاوف فيما يتعلق في الأجور، الأمر الذي أكده لي موظف الاستقبال.
لم يدهش السائق حين عدت إلى السيارة ثانيةً، وقلت:"أجوره مرتفعة جداً. خذني إلى فندق جيد، ولكن أرخص". فقال:"أمرك يا سيدي". ومضى. وبعد حوالي مئة ياردة استدار إلى شارع جانبيّ ووقف. فعدت للسائق وقلت له وأنا أدخل السيارة مرة أخرى:"هذا قذر، خذني إلى أحسن منه".
فقال حين تحركت السيارة"
إنه فندق جيد. وإني آتي بالكثيرين إليه.
ثم ساق السيارة لبضعة دقائق أخرى وأنزلني في مدخل فندق يشبه المدخل السابق شبهاً كبيراً، وقال ناصحاً:" إسمع يا سيد. إما أن تذهب إلى "شهرزاد" وإما إلى واحد من هذه الفنادق. ليس ثمة شيء وسط. ستدفع 150 فلساً فقط ههنا.
ونزل من السيارة بحركة قطعية، ووضع أمتعتي على الرصيف، وصعد معي على درج شديد الانحدار إلى منضدة الاستقبال.
وأفزعني ان يستقبلني رجلٌ حافيُ القدمينِ لم يحلق منذ أيام، ابتسم للسائق أولا ثم لي.
قال السائق:" أتيتك بصديق يا شكري، فاعتنِ به عناية حسنة."
فأجاب شكري: "بالطبع، أين الأمتعة؟".
وجيء بالأمتعة في دقائق، وطلب السائقُ ديناراً فأعطيته نصف دينار، ورُغم احتجاجه فإنه لم يكن مستاءً. ولربما كان ربع دينارٍ يكفيه.
قلتُ لشكري:" والآن قدني إلى غرفتي رجاءً". كانت ليلة سفرٍ عبر الصحراء ليلة غبراء، مما جعلني بحاجة إلى حمام وإلى وجبة طعام جيدة. أخذني شكري إلى غرفة فيها سريران، ولكنه أكد لي أن السرير الآخر لن يستعمله أيّ "مسافر" آخر طيلة مكثوي فيها. كان الضيوف يدعون "مسافرينس، وكان شكري حين يشير إلى الفندق يدعون "المسافر خانة".
قال:" هناك الكثيرُ من المسافرخانات في هذه المنطقة، ولكن قليلاً منها توفر لك الراحة التي ستجدها هنا".
وحين تُركت لوحدي اكتشفتُ ، لفزعي، أن الشراشف كانت مستعملة. بوسعي أن أحتمل الكثير من أشكال الفقر، أما النوم في شراشف استعملها مسافرٌ آخرُ فأمرٌ أكثرُ مما يطيقه احتمالي. لذا هرعت عائداً إلى شكري بقدميه الحافيتينِ ، فوجدته يتحدث مع امرأةٍ سمراء ذات عينينِ مثقلتين بالكحل، ترتدي عباءة سوداء جميلة تنحدر من رأسها حتى القدم.
قلت لشكري: هلا بدلت الشراشف؟
فقال : آسف يا أستاذ، لا أستطيعُ إبدالها اليوم.
- ولكنها مستعملة !.
- مرة واحدة ، في الليلة الماضية. مجموعة الشراشف الجديدة تعود من الغسيل غداً.
- هل تتوقع مني أن أستعمل تلك الشراشف القذرة؟.
- ليست قذرة جداً يا سيدي.
فقالت له الفتاةُ ذات العباء السوداءِ أن يبدلها، ولكنه أقسم بالله أنه لا يستطيع. ودُقَّ في هذه الأثناء جرس، فاندسَّ شكري في إحدى الغرف.
- سألتني الفتاةُ : غريب؟.
- نعم.
-من دمشق؟.
- لا. من القدس.
- لا تقلق، نحن نعتني كثير بالغرباء.
كان لها سن ذهبية في فكها الأعلى تلتمع كلما فتحت فمها.
قلت لها: شكراً. وعدت إلى غرفتي. وهناك قرعت الجرس، وطلبت الأمتعة، فجاء بها صبيّ. وأدركتُ أن عليّ أن أجد محلاً آخرَ أسكن فيه على الفور. كانت تنبعث من ذلك المكان المظلمِ ، وسط إشعاع شهر تشرين الأول، رائحة الانحطاط الذي تتصف به الليالي الملوثةُ والنهارات المتلصصة. وتصورت حالة غرفة الحمام في مكانٍ كئيبٍ كذلك. لذا، وقبل أن آخذ الحمام الذي كنت بحاجةٍ إليه خرجت وأقفلت الباب، والتقيتُ في طريقي إلى الدرج الشديد الانحدار بالفتاة ذات السن الذهبية وهي واقفة إزاء المنضدة. كان لها أن تكونَ تمثالاً من الأبنوس أو "عذراءَ" بلا طفل، أو عشتار بابل، فقد كانَ لوجهها من الجمود، ولوقفتها من السكون، ولعينيها من الاتساعِ والسوادِ ما أثار بي ألف صورة وإحساس. ونزلتُ الدرج، وعند المدخل نظرتُ إلى الأعلى لأرى اسم الفندق. كان الاسمُ "ملكة سبأ" مكتوباً بالعربية والإنجليزية على قطعة صفراء. ما الذي كان الملك سليمان سيقول لو رآه؟.
كانت الأعمدةُ قائمة على جانبي الشارع في رواقين لا ينتهيان. وهي بمظهرها السقيم وعدم انتظامها تمتد عنيدة على طول الطريق، تظلل دكاكين حادة الزوايا يجلس أصحابها في أبوابها يشربون الشاي في أقداح زجاجية صغيرة، والناس يمشون ببخترةٍ يوحي بالعباءة العربية التي كان قليل منهم فقط يرتدونها. لقد أدهشتني الوجوه الغريبة السمراء تشوهها الخدوش أو بثور الجدريّ، أو تحفرها "أخت" رهيبة تأكل الجلد فوق الخد أو في منتصف الجبين أو على جانب الأنف: أشبه بطريقة عميقة من زهرة شرسة!.