بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
هناك خصم يُدعى النفس
«وَتَوَقَّ مُجَازَفَةَ الْهَوَى بِدَلالَةِ الْعَقْلِ، وَقِفْ عِنْدَ غَلَبَةِ الْهَوَى بِاسْتِرْشَاءِ الْعِلْمِ، وَاسْتَبْقِ خَالِصَ الأَعْمَالِ لِيَوْمِ الْجَزَاء»1.
المراد من صراع الإنسان مع نفسه
نحن نقرّ بأنّ لدينا عدوّاً داخليّاً. لأنّ من جملة التعبيرات المشهورة في الأحاديث هو: «أعدَى عدوّك نفسُك التي بين جَنبَيك»2. إذ تظهر في وجودنا ميول ونزعات مختلفة يمكن تقسيمها بشكل عامّ إلى مجموعتين: 1. النزعات التي يكون الميل الأوّليّ فيها إلى الصعود والرُقيّ. 2. النزعات التي يكون الميل الأوّليّ فيها إلى النزول والتسافل. والمجموعة الثانية هي نزعات حيوانيّة نشترك فيها مع جميع الحيوانات. ويُطلق على مجموع هذه الميول، أو بتعبير آخر: على ذلك الجزء من كياننا الذي تُنسب إليه تلك الميول، مصطلح «النفس». كما أنّ لنا في المقابل ميولاً اخرى سامية؛ كحبّ الحقيقة، وحبّ الكمال، وأمثال ذلك، وإنّ الذين يتمتّعون بصفاء الباطن يدركون ميلهم إلى التقرّب إلى الله تعالى. ويطلق على أمثال هذه الامور، التي تدعو الإنسان إلى الرُقيّ والتسامي والتقرّب من الله عزّ وجلّ، اسم «العقل» في مقابل تلك العوامل الحيوانيّة. فهذان المصطلحان هما مصطلحان أخلاقيّان، وفي حقيقة الأمر إنّهما هما اللّذان يتصارعان ويتقاتلان مع بعضهما البعض. بالطبع إنّ ما جاء في هذه الرواية يختلف بعض الشيء عن هذا المصطلح الأخلاقيّ. فهنا تصوّر الرواية الـ «أنا» في حالة صراع مع نفسه. فهي لا تقول: العقل يصارع النفس، بل تقول: إنّك أنت في صراع مع النفس ولابدّ من أن تستخدم العقل. إذن فالمطروح هنا هو ثلاثة امور: 1. «الأنا» التي تتّخذ القرارات، 2. أهواء النفس، 3. العقل.
ولعلّ بإمكاننا القول من أجل تطبيق ذلك مع الاصطلاحات العقليّة: إنّ كلّ تلك الامور ترجع إلى قوى موجود واحد. فكلّ امرئ هو موجود واحد ليس أكثر وإنّ لهذا الموجود قوى ومراتب وجوديّة مختلفة وهو يكتسب أسماء متنوّعة بحسب القوى المختلفة. وقد ينشأ بين هذه الحاجات تعارض وتضادّ، وعندها سيقال: ثمّة قوّتان تتصارعان مع بعضهما. وفي مثل هذه الحالات يحصل الصراع بين النفس والعقل، وبين الإنسان والنفس. وعلينا الحذر في هذا الصراع لئلاّ نؤخَذ على حين غرّة. فنشاط النفس يكمن في حثّنا على إشباع غرائزها. فليس هناك قاعدة خاصّة لما تريده النفس وتطلبه في كلّ آن، بل يعتمد ذلك على ظروف معيّنة من قبيل أعمالنا وسلوكيّاتنا، وطبيعة البيئة المحيطة بنا، والحالة الفسلجيّة لنا. إذ لابدّ من تفاعل العديد من العوامل مع بعضها البعض من أجل أن ينشأ عند الإنسان ميل معيّن نحو أمر ما. بل إنّ الإنسان نفسه لا يسعه التنبّؤ بشكل دقيق بما ستطلبه نفسه بعد حين. ومن هذا المنطلق فإنّ فعل النفس - كما تعبّر الرواية – يُبنى على المجازفة؛ أي الجزاف، خلافاً للأحكام العقليّة التي تكون دائماً ضمن ضوابط معيّنة. فإنّ للعقل حكماً في كلّ موضوع، بل إنّه يقضي حتّى في التضادّ بين حكمين من أحكامه، وكلّ ذلك يكون قابلاً للتدوين.
استعن بالعقل والعلم!
علينا أن نعلم أنّ الشيء الوحيد الذي باستطاعته أن يجعلنا نصمد أمام النفس ونأمن مباغتتها هو الإفادة من قوّة العقل. ومن أجل الإفادة من العقل لابدّ لنا أن نعلم أنّ العقل قابل للتقوية. إذن يتحتّم علينا الإحاطة بأحكام العقل واستخدامه في مواجهة الميول النفسانيّة؛ تلك الميول التي استجاب لها طيلة فترة العمر، أو التي يستطيع حَدْسها انطلاقاً من تجاربه السابقة إذا لم يكن قد استجاب لها لحدّ الآن. وهذه توجيهات عامّة من شأنها أن تعيينا على عدم التفاجؤ في المواجهة مع النفس. على سبيل المثال هناك قاعدة عقليّة عامّة تقول: إذا كنت تسير على حافّة الوادي فإنّ احتمال سقوطك فيه يكون كبيراً. فإن أردتّ تجنّب السقوط فلابدّ أن تبتعد عن حافّة الوادي قليلاً! بمعنى: إذا كنت ترغب في عدم التورّط في ارتكاب المعصية فعليك الابتعاد بعض الشيء عن مواطنها، وذلك باجتناب بعض الامور غير المحرّمة أيضاً؛ فمثلاً: عليك تجنّب النظرة الاُولى كي لا تقع في النظرة المحرّمة.
لكنّ هذا الحكم العامّ للعقل لا يكون مجدياً في كلّ حال؛ فقد يطرأ أحياناً أمر لا يستطيع المرء عندها أن يتّخذ قراراً حاسماً فيما إذا كان لابدّ من الإقدام عليه أم لا. فمضافاً إلى الإفادة من قوّة العقل فإنّه يتعيّن علينا في مثل هذه الحالات تحصيل العلم بهذه الامور كي نعلم ما إذا كان الأمر واجباً أو محرّماً، ونقف على حدود وجوبه وحرمته. فالغيبة للآخرين على سبيل المثال تكون أمراً حراماً تارةً، ومباحاً حيناً، وواجباً طوراً. إذن علينا أن نحيط علماً بجميع تلك الحدود. ومن هذا المنطلق يقول (سلام الله عليه) في الجملة التالية: «قِفْ عِنْدَ غَلَبَةِ الْهَوَى بِاسْتِرْشَاءِ الْعِلْمِ»؛ فإن غلبتك نفسك وفرضت عليك ميلاً إلى أمر معيّن، فعليك - من أجل أن لا تقع في الخطيئة - أن تعلم على وجه الدقّة هل كانت إجابة النفس فيما تطلب جائزة أم محرّمة؟ إذ ليست تلبية كلّ ميل من ميول النفس محرّمة. فلدينا الكثير من المباحات المنسجمة مع أهواء النفس ورغباتها. فالتمتّع بالأماكن الطبيعيّة الخلاّبة والمشي على ساحل البحر وما إلى ذلك هي من المباحات الموافقة لهوى النفس. إذن بالإضافة إلى امتلاك قوّة العقل وتقوية هذا الجانب لابدّ من الإفادة من العلم والتفقّه بموارد الحلال والحرام ومواطن السقوط والصعود. وهذا التوجيه يتمّم التوجيهات التي سبقته. فعندما قال (عليه السلام): «عليك الإفادة ممّا لديك من علم حاضر لدفع الشرور، ومن أجل الإفادة من العلم لابدّ من الإتيان بالعمل الخالص»؛ كان كلامه عن العلاقة بين العلم والعمل. لكنّه (عليه السلام) عندما يقول: «كي لا تخسر المعركة مع النفس فإنّ عليك استخدام العلم» فإنّه يتبادر إلى الذهن السؤال التالي: لقد قلنا سابقاً: إنّ الإفادة من العلم تكون بالعمل الخالص؛ ولكن ما فائدة العمل الخالص؟ وهنا يشير الإمام (سلام الله عليه) إلى مبدأ جوهريّ للغاية. فالحقيقة هي أنّنا لا نهتمّ كما ينبغي بالدين ومعارفه، ولا نعدّ الدين ضروريّاً أو نعير للعمل بأحكامه أهمّية تُذكَر، فضلاً عن اهتمامنا بالعمل الخالص الخالي من أيّ شائبة!
افعل شيئاً ما دمت قادراً على ذلك
يقول البعض: ليس من الضروريّ أن يكون المرء متديّناً، بل حسبه أن يكون إنساناً صالحاً! وهم يقصدون من الصلاح هنا الصلاح الأخلاقيّ؛ أي أن يكون حسَن الخلق، صادق القول، ...الخ. وهنا يأتي سؤال مفاده: ما هي العلاقة بين الدين والأخلاق؟ فإنّ من المسائل البالغة الأهمّية والمطروحة على مستويات عالية في الأوساط الفلسفيّة العالميّة هي مسألة ماهيّة العلاقة بين الأخلاق والدين. فالبعض يقول: إنّ للأخلاق علاقةً مباشرة بالدين؛ فلا يمكن أن يكون المرء متخلّقاً من دون اعتقاد راسخ بالدين. والبعض الآخر يقول في المقابل: إنّ الأخلاق العلمانيّة أمر ممكن؛ إذ من الممكن أن يكون المرء حسن الخلق بعيداً عن أيّ التزام دينيّ.
إنّ تصوّرنا عن الدين والصلاح هو تصوّر خاطئ في العادة. فعندما يقال لنا: «كونوا اُناساً صالحين» فقلّما يتبادر إلى أذهاننا أنّ ذلك يعني العمل على ترسيخ معتقداتنا الدينيّة والاهتمام بأعمالنا العباديّة، ونظنّ أنّ المراد من هذه الجملة هو السعي باتّجاه تحسين أخلاقيّاتنا العامّة. فإن كنّا نرغب حقّاً في إصدار حكم صائب بخصوص هذه المسائل فلابدّ أن يكون تفكيرنا فيها أكثر عمقاً وشموليّة. علينا أن نطيل التأمّل في أقسام الدين المختلفة وكيفيّة ارتباطها مع بعضها البعض؛ كالعلاقة بين المعتقدات والأخلاق، وبين الأخلاق والفقه، ...الخ.
ومن الممكن أن يتبادر إلى الذهن في مقابل التوصية بالعمل الصالح السؤال التالي: لماذا يعتبر هوى النفس سيّئاً أساساً؟ فما هو الإشكال في أن يرغب الإنسان في تناول طعام لذيذ ومحلّل شرعاً في نفس الوقت؟ ومَن قال إنّ هوى النفس (وهو ما تطلبه النفس وتميل إليه) هو أمر سيّئ؟ ومَن الذي أوصانا حقيقةً بأن نأتي بكلّ عمل خالصاً لوجه الله؟ فما الذي سيحصل إن لم نخلص في العمل؟ وما العيب في أن يساعد المرء فقيراً مثلاً ثمّ يحبّ أن يذكره الناس بهذا العمل؟
إنّ هذه الامور تبدو بسيطة وسطحيّة للوهلة الاُولى لكنّها – في واقع الأمر – تعكس مدى كون ثقافتنا معرّضة للخطر نتيجة الاختلاط مع الثقافات الإلحاديّة المعادية. فنحن نلاحظ من ناحية أن الانصياع لهوى النفس ونزواتها وفقاً للمنطق القرآنيّ هو في عداد الشرك، وأنّ الثقافة الإسلاميّة تَعدّ الهوى من الاُمور الخطيرة جدّاً التي يتحتّم اجتنابها، لكنّنا نشاهد – من الناحية الاخرى – أنّ هناك ثقافة تدبّ شيئاً فشيئاً في أجيالنا المعاصرة تحسّن صورة اتّباع الهوى وتزيل قبح هذا العمل وتحرّض المرء على الردّ على مَن يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر بعبارة: «إنّني اُحبّ ذلك». هذه الكلمة جاءتنا من الثقافة الغربيّة وهي تُلقَّن للأطفال من خلال الأفلام والبرامج المختلفة. بل حتّى أنّ عبارة: «في أمان الله» مثلاً أخذت تُحذَف بالتدريج من ثقافتنا.
هذه النزعات الإلحاديّة هي من منجزات عصر الحداثة وما تلا هذا العصر الذي ينادي بضرورة مطالبة الإنسان بحقّه والكفّ عن العمل على أداء الواجب، ويقول: «لقد سعى الإنسان في طريق أداء التكليف بما فيه الكفاية والآن عليه المطالبة بحقوقه». هذه الثقافة أمست تتغلغل بهدوء حتّى في أوساط المسلمين والمتديّنين فلم نعد نشاهد اليوم من يبني أمره على العمل بما عليه من واجب إلاّ القليل.
فإذا أردنا إيجاد حلّ لهذه المسائل فعلينا سبر غور عللها وجذورها وطرح أسئلة من قبيل: أيّ شيء هو أنا؟ ما هي حياتي الحقيقيّة؟ ما هي اللذّة؟ وهل هي مقتصرة على الطعام والنوم وما إلى ذلك؟ هل هناك حياة اخرى غير الحياة الدنيا؟ هل ثمّة لذائذ اخرى غير تلك؟ فالذين لا تتخطّى حدود وجودهم الحدود الحيوانيّة لا يرون اللذّة إلاّ في إشباع البطن والشهوات. لكنّه يوجد في نفس هذه الحياة الدنيا من ذاق لذائذ من نمط آخر وهو يصرّح بالشكل القاطع: «لو جُمعت جميع لذائذ العالم فإنّها لا تقاس بهذه اللذّة». كما أنّهم يقولون من ناحية اخرى: إنّ الحياة الدنيا برمّتها لا تساوي قياساً بالحياة الأصليّة أكثر من رمشة عين، وإنّ الحياة الأصليّة تبدأ بعد الموت. فاليوم هو يوم العمل، إذ لن يكون هناك مجال للعمل غداً. فإن نحن عملنا على ترسيخ هذه المعتقدات في أنفسنا فإنّ الكثير من الإشكالات والمسائل ستُحلّ بصورة سهلة.
«وَاسْتَبْقِ خَالِصَ الأَعْمَالِ لِيَوْمِ الْجَزَاء». ذكرنا أنّ شكر العلم يكون بالعمل به. لكن لابدّ من إنجاز هذا العمل بحيث يكون مفيداً يوم القيامة. ولعلّ في كلمة «استبق» إشارةً إلى أنّ بعض أعمال الخير تُنجَز بشكل صحيح في حينها لكنّها تبطل فيما بعد. ومن هنا يقول عزّ من قائل في كتابه العزيز: «لا تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَىٰ»3؛ فقد يُنجز العمل الصالح في وقت معيّن لكنّه يبطل بعمل آخر بعد حين. فهناك من العوامل ما يُبطل أعمال عمر بأكمله في لحظة واحدة، كالارتداد مثلاً.
إذن فعندما نهمّ بالقيام بفعل خير فإنّه لابدّ أوّلاً أن نعلم هل كان هذا العمل عملاً صالحاً، وأن نقوم به بالكيفيّة التي ترضي الله عزّ وجلّ. ثانياً: أن تكون نيّاتنا سليمة خالصة من الشوائب. ثالثاً: أن نحذر لئلا نأتي بفعل يُبطل ذلك العمل.