سكرة موت الاتحاد السوفييتي قبل نصف قرن
المصدر: البيان الالكتروني
شهدت العاصمة الروسية موسكو في الرابع من شهر أكتوبر قبل 25 سنة أحداثا خطرة، غيرت وجه روسيا، حيث تم حرق البرلمان الروسي ومحاولة اقتحام مبنى التلفزيون، في عهد الرئيس بوريس يلتسين.
المناهضون للشيوعية في روسيا كانوا يطلقون على المبنى الفخم لمجلسي السوفييت الأعلى، ومجلس الجمهوريات لروسيا الاتحادية، اسم "البيت الأبيض" تيمنا بالبيت (العتيق) في واشنطن.
لكن المبنى الروسي، المشيد من الأجر الأبيض؛ في العقد الأخير من الحقبة السوفييتية، اسودت طوابقه العليا بالقصف من دبابتين، كانت إحداهما، حسب "روسيا اليوم"ترابط أمام المبنى منذ أيام، وتوجه مدفعها إلى البرلمان الروسي؛ سوفييتي اللون والنكهة والانتماء، وظهرها للسفارة الأميركية في موسكو التي تحاذي (البيت الأبيض) بمسافة لا تزيد على 100 متر.
ولم يكن المتظاهرون، الذين وصلوا بالآلاف من مختلف أنحاء روسيا، لمساندة النواب المعتصمين في المبنى احتجاجا على مرسوم رئيس جمهورية روسيا الاتحادية، بوريس يلتسين، يتوقعون أن تقدم السلطات على تطويق مجلس السوفييت، وتقطع الماء والكهرباء عن مرافقه، وتبث موسيقى صاخبة من مكبرات صوت ضخمة متنقلة للتأثير نفسيا على المعتصمين المرابطين مع مئات الصحفيين على مدى أسبوعين، منذ أن أصدر يلتسين مرسومه الشهير رقم (1400) في 21/9/1993 بحل مجلس السوفييت الأعلى وإجراء انتخابات مبكرة.
غالبية المواطنين المعتصمين مع النواب، قدموا من خارج موسكو، فتحولت الساحات والشوارع المجاورة، إلى مساكن مؤقتة في الهواء الطلق، وتحت درجات حرارة، تنخفض ليلا إلى 10 درجات مئوية وربما أقل.
وكان الصحافيون المرابطون مع المعتصمين، يتوجهون في الصباح نحو (البيت الأبيض) ويعودون إلى بيوتهم، مع حلول الظلام في تلك الأيام الخريفية العاصفة، التي شهدت أحد أهم أحداث القرن العشرين، إن لم تكن أهمها بعد الحربين العالميتين، والثورة البلشفية في روسيا، وقيام الاتحاد السوفييتي، وانهياره المدوي مطلع تسعينيات القرن المنصرم.
ولم يتردد البيت الأبيض الأميركي عن تقديم شتى أنواع الدعم والمؤازرة لبوريس يلتسين في الحال، ومن ثم قصف البرلمان الروسي المنتخب.
وصرح الرئيس الأميركي آنذاك بيل كلينتون؛ بأن اعتصام النواب الروس المحتجين على حل البرلمان، (سكرة الموت لنظام راحل).
وفِي كل يوم، كانت أعداد المعتصمين تزداد، ومعهم، قوات مكافحة الشغب (الآمون)، يقودهم حارس يلتسين الشخصي ألكسندر كورجاكوف، الذي نشر في ما بعد مذكرات كشف من خلالها عن حجم الفساد وإساءة استخدام السلطة في حقبة يلتسين الكارثية في تاريخ روسيا المعاصر.
فعلى مدى الأسبوعين بين مرسوم حل المجلس، وقصف المبنى بالدبابات، أصدر يلتسين 1200 مرسوم؛ غالبيتها؛ تقضي بخصخصة مؤسسات وممتلكات الدولة ومصانع القطاع العام.
كانت قوات الشرطة، خلال الأيام التي أعقبت مرسوم يلتسين المرقم ( 1400) تنتشر بكثافة في مركز موسكو، والشوارع، والساحات المجاورة لمبنى مجلس السوفييت الأعلى، وتضع الحواجز والأسلاك الشائكة، لمنع وصول أنصار النواب المعتصمين، ولم تكن تسمح إلا لوسائل الإعلام بالاقتراب من المبنى ودخوله من البوابة رقم 20، التي كانت في أيام الاتحاد السوفييتي، مدخلا للصحافة وضيوف المجلس.
وواجهت الصحافة المرئية، صعوبة، مواصلة العمل داخل المبنى لفترة طويلة، بسبب قطع التيار الكهربائي عن أرجائه. وكان المراسلون يضطرون إلى الخروج بين الحين والآخر لشحن بطاريات الكاميرات، وأجهزة الإنارة. وشهد المبنى حضورا غير مسبوق في تاريخ روسيا لوسائل الإعلام الغربية والأميركية والإسرائيلية.
شهد يوم 3 أكتوبر حالة غريبة، فقد اختفت الوحدات العسكرية، والشرطة وحتى شرطة المرور من الشوارع، وتلاشت الوجوه الملثمة لقوات (الآمون) أو المهمات الخاصة. ووجدت الجماهير الحاشدة المناصرة للسوفييت المنحل، نفسها مطلقة الحركة، فأزالت الحواجز والأسلاك الشائكة، وتوجهت بالألوف نحو المبنى، والتحمت مع النواب المعتصمين.
واقتحمت أعداد غفيرة مبنى محافظة موسكو، المحاذي لمجلس السوفييت، واستولت على مكاتبه بقيادة الجنرال المتقاعد ألبرت ماكاشوف، ولم يعترض، أحد، طريق الجموع المنتشية بنصر موهوم، وقد انحشرت بالمئات في باصات كبيرة، متجهة بقيادة الجنرال المثير للجدل ألبرت ماكاشوف نحو مبنى الإذاعة والتلفزيون.
ووصلت الجموع إلى المبنى، حيث اختفت قوات الشرطة من حوله، ولم يبق إلا عدد قليل من الحراس شبه العزل.
وأغلق من لم يهرب من المبنى، الأبواب الزجاجية بوجه المطالبين بإلقاء بيان (إلى الأمة) كتبه النواب المعتصمون، كما أوعز الجنرال ماكاشوف. وحين وجد الأبواب موصدة، أوعز لسيارة شحن كانت تقله وأنصاره، بتهشيمها واقتحام المبنى عنوة.
انطلقت فجأة من داخل المبنى، إطلاقات كثيفة من الرشاشات والمدافع المحمولة، ولم يعرف في حينها من أطلق النيران على مقتحمي مبنى الإذاعة والتلفزيون، ويبقى الملف طي الكتمان إلى الآن.
هجع الليل، وألقى الخريف مصفر الأوراق بظلاله ثقيلة على المبنى المظلم، فيما واصلت جموع منكسرة من الهجوم الفاشل على "أوستانكينو"، المرابطة أمام مجلس السوفييت الأعلى، تشعل مواقد من أوراق الخريف، والقمامة وأغصان الأشجار المتساقطة، طلبا للدفء في زمهرير الليلية الخريفية التي حملت في الصباح الباكر ليوم 4 أكتوبر الأول 1993 نهاية أول مجلس للسوفييت، منتخب بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.