شرح دعاء اليوم الخامس عشر من ادعية شهر رمضان المبارك
(اَللّـهُمَّ !.. ارْزُقْني فيهِ طاعَةَ الْخاشِعينَ ، وَاشْرَحْ فيهِ صَدْري بِإِنابَةِ الُْمخْبِتينَ ، بأَمانِكَ يا أَمانَ الْخائِفينَ !).
(اَللّـهُمَّ !.. ارْزُقْني فيهِ طاعَةَ الْخاشِعينَ...) :
إن الطاعة على أقسام :
هناك طاعة الخائفين.. أن يطيع الإنسان الله عزوجل ؛ لأنه يخاف من الله عزوجل ، ومن أليم عقابه..
وهناك طاعة الطامعين.. أن يطيع الإنسان الله عزوجل ؛ لأنه يطمع في ثواب الله عزوجل : في جنته ، وحوره ، وفي قصور الجنة ، والغلمان المخلدين..
ولكن هناك لون راقي ، أرقى من هذه الصورة ، وهو : أن يعيش الإنسان حالة المعرفة ، وحالة الرقة.. معرفة في العقل وفي الفكر ، ورقة في الفؤاد.. إذا اجتمعت المعرفة الكاملة ، والعاطفة الجياشة ، تحولتا إلى طاعة.. ويا لها من طاعة في مقام العبادة !.. فإن الطاعة الخاشعة -العبادة الخاشعة- هي حصيلة أمرين تفاعلا :
الأمر الأول : المعرفة.. أن يعرف الإنسان الله عزوجل بصفات كماله ، وجلاله ، وجماله.. وأن يعتقد اعتقاداً راسخاً بوجوده ، كاعتقاده بالمحسوسات.. أي أن يبلغ يقينه بالغيب ، مبلغ اليقين بالشهود.. فكما هو في الشارع العام لا يتجاوز قوانين المرور ؛ خوفاً من غرامة بسيطة ، أو خوفاً من عتاب مخلوق مثله ، ويقف على قارعة الطريق.. أيضاً المطلوب أن يبلغ إيمانه بالله عزوجل ، ورؤيته لله عزوجل ، على الأقل هذا المبلغ من إحساسه بالمحسوسات ، وهذه هي الدرجة الأولى من درجات الخشوع..
وهذه المعرفة لها طريقان :
الطريق الأول : طريق التأمل والمطالعة والبحث والتنقيب.
والطريق الثاني : طريق الإشراقات الإلهية.. إن الله عزوجل يتجلى لمن يريد من عباده ، ذلك التجلي الذي يزيدهم يقيناً.. ولهذا نلاحظ أن اليقين بلغ بأصحاب الحسين (ع) ، إلى درجة أنهم كانوا يضحكون في ليلة عاشوراء أو في نهار عاشوراء ، حتى أن البعض كان يستنكر عليهم ذلك ، بأن هذه ليست ساعة مزاح ، فكان الجواب : لم لا نمزح ، ونحن بعد قليل نلتقي برضوان الله عزوجل ؟!.. إن هذا اليقين ، هو الذي جعلهم يعيشون هذا النمط.. إن خلود أصحاب الحسين (ع) لأمرين : لجهادهم المرير ، ولهذه الدرجة من اليقين التي وصلوا إليها.. وإلا فالتأريخ مليء بالشهداء ، ومليء بالمعذبين في طاعة الله عزوجل ، فلمَ لم يكتب لهم هذا الخلود ؟..
إذن، الحالة الأولى حالة المعرفة..
والأمر الثاني : العاطفة والمحبة الشديدة.. ومن المعلوم أن الإنسان أسير الإحسان ، وأسير الجمال.. نحن نحب عامة الخلق ، لإحسانهم إلينا ؛ ونحب الجميل من الشيء - امرأة كانت أو غير ذلك- ، للجمال.. والله عزوجل هو واجد للصفتين : صفة الإحسان بأعلى صوره ، وصفة الجمال بأجلى صورها.. فلماذا لا نحاول أن نصل إلى منبع الجمال ، وإلى مصدر الجمال في الوجود ؟.. إن الذي يعيش هذا المعنى بأنه تعالى أحسن المحسنين ، إذ وجودنا رشحة من رشحات فيضه ، وهو خالق الجمال في الطبيعة والإنسان.. إن الذي يعرف ربه بهذه الحقيقة ، من الطبيعي أن يمتلك حالة الحب ، الذي لا يقاس به حب بشري ، من هذه المحبات الزائفة في حياتنا اليومية ، وعندئذ يتحول الإنسان إلى وجود خاشع..
ولهذا فإن القرآن الكريم يشير إلى هذين الأمرين -المعرفة والعاطفة- في قوله تعالى : {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}.. إذ الملاحظ في هذه الآية حصر حالة الخشوع على من لهم : صفة العبودية ، والعلم به سبحانه وتعالى..
ومتى ما وصل الإنسان إلى درجة الخاشعين ، فإنه عندئذ يتحرك في طاعة الله عزوجل بخاصيتين :
أولاً : أنه يتحرك بشكل تلقائي.. فتراه يحجم عن الحرام بمجرد أن عرف الحرام ، ويقدم على الواجب بمجرد أن عرف الواجب ؛ دون أن يبحث عن فلسفة الأحكام.. أي يقوم بالأوامر الإلهية تعبداً ، دون أن يبحث عن منافع العمل بالواجبات ، ومفاسد ارتكاب المحرمات.. هذه أولاً..
وثانياً : أنه يتقن العبادة ، ويتفنن في العبادة ، ويستلذ بالعبادة.. لأن هذا معروف في أوساط المحبين ، أن الحديث مع المحبوب من أفضل صور المتعة في الوجود !.. ولهذا استغل موسى (ع) الفرصة للحديث مع الرب تعالى ، عندما قال له : {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى}.. لقد كان بإمكانه أن يجيب جواباً مقتضباً ، إلا أنه أطال الكلام مع الرب تعالى : {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} ؛ لأنه كان يتلذذ في الحديث مع رب العزة والجلال.
منقــــــول للفائدة