الثورة الصناعية الثالثة
المصدر: صحيفة الإكونوميست
إن التحول الرقمي في الصناعة سيحول الطريقة التي تصنع بها البضائع وستغير سياسات سوق العمل كذلك.
21-إبريل-2012
بدأت الثورة الصناعية الأولى في بريطانيا نهاية القرن الثامن عشر بتأليل (أي جعلها آلية) صناعة الأقمشة. المهام السابقة التي كانت تؤدى يدوياً في مئات من أكواخ الغزل صارت تجمع في مصنع قطن واحد، وبهذا ولد المصنع. الثورة الصناعية الثانية أتت نهاية القرن العشرين عندما أتقن (هنري فورد) مبدأ خطوط التجميع المتحركة وأسس لجيل جديد من الصناعة الإنتاج بالجملة. الثورتان الصناعيتان الأولتان جعلت الناس أكثر ثراءً وأكثر تمدناً. الآن هنالك ثورة صناعية ثالثة على الطريق. التصنيع يتحول إلى كونه رقمياً. كما يزعمهذا التقرير الخاص لهذا الأسبوع، فإن هذا الأمر لن يغير الأعمال التجارية فقط، بل الكثير من الأشياء أيضاً معها.
اليوم، هنالك العديد من التكنولوجيات الجديرة بالاهتمام من: البرمجيات الذكية، المواد المبتكرة، آليات الروبوت البارعة، العمليات الجديدة (خاصة الطباعة ثلاثية الأبعاد) وطيف واسع من تطبيقات والخدمات على شبكة الإنترنت. المصانع القديمة كانت مبنية على مبدأ إنتاج مليارات البضائع المتطابقة: هنالك قول مشهور لشركة فورد قالت فيه بأن مشتري السيارات بإمكانهم أن يحصلوا على اللون الذي يريدونه طالما كان أسوداً! ذلك أن تكلفة إنتاج دفعات صغيرة ذات تنوع أوسع بحيث يكون كل منتج مفصل تماماً وخصيصاً على رغبة المستهلك مسألة غير ناجحة. مصانع المستقبل ستركز على تخصيص المنتجات على رغبة المستهلك تماماً وبالجملة وسيبدو الأمر كما لو كان إعادة بعث لأكواخ خطوط التجميع التي ابتدعها (فورد).
نحو البعد الثالث
إن الطريقة القديمة في صناعة الأشياء كانت تأخذ الكثير من القطع والربط باستخدام البراغي أو اللحام. اليوم بالإمكان تصميم المنتج على الحاسوب “وطباعته” باستخدام طابعة ثلاثية الأبعاد، والتي تصنع جسماً مكوناً من تتابع من طبقات من مادة ما. بالإمكان التلاعب بالتصميم الرقمي من خلال بعض النقرات على الفأرة حيث بإمكان الطباعة ثلاثية الأبعاد أن تعمل دون إشراف عليها، وبإمكانها أن تعالج مسائل ليس بإمكان المصانع التقليلدية اليوم التعامل معها. هذه الآلات الرائعة بإمكانها إنتاج أي شيء تقريباً وفي أي مكان… في مرآبك أو حتى في قرية إفريقية.
تطبيقات الطباعة ثلاثية الأبعاد خصوصاً تحير العقل. حالياً تتم طباعة مساعدات السمع والمعدات عالية التطور للمقاتلات الحربية وبأشكال مختلفة. ستتغير حتماً جغرافيا سلاسل التوزيع. إن المهندس الذي يعمل في وسط الصحراء والذي يحتاج قطعة معينة من المعدات لن يضطر إلى أن يطلبها من أقرب مدينة بعد الآن، بإمكانه ببساطة أن يحمل التصميم ويطبعه. سيبدو الأمر مزحةً طريفةً بأن يكون هنالك مشروع متوقف تبعاً للحاجة لقطعة معينة أو بأن هنالك شكوى من زبون لا يستطيع إيجاد قطعة غيار للأشياء التي اشتراها.
هنالك تغييرات أخرى خطيرة. المواد الجديدة أخف، أقوى وأكثر تحملاً من القديمة. ألياف الكربون تبدل الصلب والألومنيوم في منتجات تتراوح ما بين الطائرات والدراجات الجبلية. التكنولوجيات الجديدة تسمح للمهندسين بأن يشكلوا الأشياء بأبعاد صغيرة. تكنولوجيا النانو تعطي المنتجات ميزات محسنة مثل الضمادات التي تساعد الجروح على الشفاء والمحركات التي تعمل بكفاءة أعلى والآنية الفخارية التي تنظف بسهولة. الفيروسات المهندسة جينياً تطور حالياً لصناعة بطاريات. وحيث أن الإنترنت تساعد المصممين على التواصل أكثر من أي وقت مضى فإن حواجز الدخول إلى هذا النشاط تتساقط. وحيث احتاج (فورد) إلى أكداس من رأس المال ليبني مصنع (ريفر روج) العملاق؛ فإن مكافأه العصري اليوم يستطيع أن يبدأ برأس مال صغير وحاسوب محمول ومستودع ليبدأ بالاختراع والابتكار.
وكما كل الثورات، فإن هذه الثورة تجب ما قبلها. التكنولوجيا الرقمية هزت عرش صناعة الوسائط وخدمات بيع المفرق، تماماً كما قضت مصانع القطن على المناول اليدوية وكما أخرجت سيارات فورد موديل (T) حدائي الخيول من أعمالهم. سينظر الكثير من الناس إلى مصانع المستقبل ويرتعدوا خوفاً، فهذه المصانع لن تكون مليئة بالمعدات المتسخة بالسخام وبالرجال المرتدين لأثواب العمل الملطخة بالزيت. سيكون الكثير منهم شديدي النظافة وقد تركوا أعمالهم. بعض صانعي السيارات ينتجون اليوم ضعف عدد السيارات لكل موظف في المصنع بالمقارنة مع عقد مضى. لن تكون الأعمال في أراضي المصانع بل ستكون في المكاتب المجاورة، والتي ستكون ملئى بالمهندسين، المصممين، أخصائيي تكنولوجيا المعلومات، أخصائيي الشحن والنقل، طاقم التسويق وعمال آخرون. أعمال التصنيع المستقبلية ستتطلب المزيد من المهارات. الكثير من المهام الرتيبة والمتكررة ستصبح عديمة القيمة: فلن تحتاج إلى عمال مسامير البرشام عندما لا يكون لديك مسامير برشام.
الثورة لن تؤثر على كيفية صناعة الأشياء، بل وعلى أين تصنع أيضاً. انتقلت المصانع إلى الدول ذات الدخول القليلة لمواجهة تكاليف العمال. ولكن تكاليف العمال تصبح أقل فأقل أهمية: فالجيل الأول من أجهزة أي-باد ذات الـ 499 دولاراً تضمنت ما يقرب الـ 33 دولاراً فقط كمصاريف عمال، منها 8 دولارات فقط لتجميع المنتج في الصين. التصنيع الخارجي تتنامى عودته إلى الدول الثرية ليس لأن تكاليف العمال في الصين ترتفع، ولكن لأن الشركات تريد أن تبقى قريبة من مستهلكيها بحيث تستجيب بسرعة للتغيرات في الطلب على المنتجات. وبعض المنتجات على درجة عالية من التعقيد لمستوى يكون فيه مفيداً أن يكون المصممون والمصنعون في نفس المكان. تفيد (مجموعة بوسطن للاستشارات) بأن قطاعات مثل النقل، الحاسوب، المعادن المصنعة والآلات، أي10-30% من المنتجات التي تستوردها أمركيا من الصين ستصنع في البيوت بحلول عام 2020، بما يعزز الإنتاج الأمريكي بـ 20 بليون دولار سنوياً.
صدمة ما هو جديد
المستهلكون سيواجهون القليل من الصعوبات للتأقلم مع الجيل الجديد من المنتجات الأفضل سريعة الوصول إليهم. ولكن الحكومات ربما ستجد الأمر صعباً. فغريزتها هي حماية الشركات والصناعات الموجودة أصلاً، وليس تشجيع محدثات الأمور التي ستدمرها. فتراهم يغدقون على المصانع مساعدات ومدراء أشداء يريدون أن يحولوا الإنتاج إلى التصدير الخارجي ويدفعون الكثير من البلايين في سبيل دعم التكنولوجيات الجديدة والتي -وفق اعتقادهم- ستنتصر. ويميلون إلى الاعتقاد الخيالي بأن التصنيع يفوق الخدمات ناهيك عن التمويل.
لا شيء من ذلك منطقي. الخطوط ما بين التصنيع والخدمات تضمحل. فمثلاً شركة (رولز رويس) لم تعد تبيع محركات الطائرات؛ إنها تبيع الساعات الحقيقية التي يدفع فيها المحرك الطائرة في السماء. الحكومات كانت خاسرة دائماً في المراهنة على الفائز، ومن المرجح أن يستفحل ذلك الأمر، فطالما تقوم فيالق رياديي الأعمال وفطاحلة الهندسة بتبادل تصميماتهم على شبكة الإنترنت، وتحويلها منتجات في البيت وتسويقها عالمياً من المرآب! وكما تحتدم الثورة، فإن على الحكومات أن تلتزم بالأساسيات: مدارس أفضل للقوى العاملة وقواعد واضحة ومساحات لعب مناسبة لجميع الشركات من جميع الأنواع. ويترك الباقي للثوريين.