"التاريخ دراسة للتطور البشري في جميع جوانبه السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والفكريَّة والروحيَّة، أيًّا كانت معالم هذا التطوُّر وظواهره واتِّجاهاته".
في ضوء هذا التعريف الموجز لسُلَّم التاريخ نستطيع أن نستزيده تفصيلًا وتوضيحًا، فذكر بعضهم أنَّ كلمة التاريخ تعني مجموعة الحوادث التي ظهرت وسوف تظهر (۱) في حياة البشريَّة، كما أنَّها تعني الإلمام بتلك الأحداث، وأنَّ الكلمة "استوریا Historia" يونانيَّة الأصل تدلُّ جذورها على معنى الرؤية؛ حيث أنَّ كلمة "أستور Histor" تعني الرؤية والمشاهدة أو الاستقصاء بقصد المعرفة (۲).
ويذكر البعض الآخر أنَّ التاريخ يشتمل على المعلومات التي يُمكن معرفتها عن نشأة الكون كلِّه بما يحويه من أجرامٍ وكواكب، ومن بينها الأرض وما جرى على سطحها من حوادث الإنسان، من أمثال ذلك نجد المؤرِّخ الإنجليزي ه. ج. ویلز Herbert George Wells يبدأ كتابه المسمَّى "موجز تاريخ العالم" بدراسة نشأة الكون والأرض وما ظهر على سطحها من مظاهر الحياة المختلفة (۳).
ويذكر البعض الثالث أنَّ كلمة التاريخ لفظٌ عربيٌّ خالصٌ يعني الإعلام بالوقت، ومن هنا ظهرت كلمات التاريخ والتوريخ (4)، وإن كان هناك من يعتقد أنَّ الكلمة -أي كلمة التاريخ- فارسيَّة الأصل، وأنَّ العرب أخذوها عن الفرس، وعلى العموم فإنَّ التاريخ يعني لغویًّا التوقيت؛ أي تحديد زمن الأحداث وأوقات حدوثها (5).
ويذكر البعض الرابع أنَّ التاريخ هو وعاء الخبرة البشريَّة، أو هو العلم الخاصُّ بالجهود البشريَّة، أو هو المحاولة التي تستهدف الإجابة على الأسئلة التي تتعلَّق بجهود البشريَّة في الماضي وتستشفُّ منها جهود المستقبل؛ فالتاريخ يتناول الأمَّة من الأمم بالتنقيب في طوایا فکرها ومدی ارتباط ذلك الفكر بالدنيا والحياة، ثم اتصاله بسيرة الإنسان في الأرض وجهوده المتَّصلة لرفع شأنه اقتصاديًّا وعلميًّا وفكريًّا، ومدی ارتباط ماضي الأمم بحاضرها، وحاضرها بمستقبلها (6).
وقد بدأ التاريخ يظهر إلى حيِّز الوجود في صورةٍ بدائيَّةٍ أوَّليَّة منذ أخذ الإنسان البدائي من فجر المدنيَّة يقصُّ على أبنائه قصص أسلافه ممتزجةً بأساطيره ومعتقداته. وقد أخذ التعبير عن التاريخ يتدرَّج مختلطًا بالفنِّ كالرسم والنقش على الحجر، ومع تطوُّر الحضارة أخذ التاريخ يُشكِّل أساسًا جوهريًّا في تسجيل موكب البشريَّة الخامل.
وهذا يعني أنَّ التاريخ هو المرآة أو السجل أو الكتاب الشامل الذي يُقدِّم لنا ألوانًا من الأحداث وفنونًا من الأفكار وصنوفًا من الأعمال والآثار، وأنَّ التاريخ يتَّخذ مجراه على يد الإنسان بطريقٍ مباشرٍ وفي ظروفٍ معيَّنة، والإنسان ابن الماضي، بل هو ثمرة الخلق كلِّه، منذ أزمانٍ سحيقةٍ والعلاقة وطيدة بين حياة الفرد وبين الحياة في القرون والعصور الماضية (7).
ويذكر آخرون أنَّ معنى التاريخ يكمن في أنَّ الماضي الذي يبحث فيه المؤرِّخ ليس ماضيًا ميِّتًا؛ ولكنَّه ماضٍ في بعض الاعتبارات ما زال حيًّا في الحاضر، وإن كان الفعل أو الحدث الماضي يُعتبر ميتًا فإنَّ ذلك الماضي سيظلُّ دون معنى عند المؤرِّخ ما لم يستطع المؤرِّخ أن يُدْرك ويفهم الأفكار التي وراء هذا الحدث، وعلى هذا يُمكن القول: إنَّ كلَّ التاريخ هو تاريخ الفكر (8).
ويذكر آخرون -أيضًا- أنَّ التاريخ يعني دراسة الأحداث أو هو الأحداث نفسها، والأحداث جمع حادث، والحادث من وجهة نظر المؤرِّخ كلَّ ما يطرأ من تغيُّر على حياة البشر، وكل ما يطرأ من تغيُّر على الأرض في الكون متصلًا بحياة البشر. والحادث قد يكون مفاجئًا كوقوع زلزالٍ يهدم المدن والقرى، وقد يكون عنيفًا مثل قيام حرب، وقد يكون بطيئًا كعمليَّات التطوُّر البطيئة التي لا يفطن الإنسان إلى حدوثها إلَّا على المدى الطويل، مثال ذلك: تطوُّر المرأة العربيَّة وخروجها من عزلة البيت إلى الحياة العامَّة؛ فهذه عمليَّةٌ طويلةٌ بدأت من أواخر القرن التاسع عشر ولا زالت مستمرَّةً إلى اليوم، وهي في مجموعها حادثٌ تاریخيٌّ خَطِرٌ بعيد المدى، وقد يقع الحادث دون أن يفطن إليه أحدٌ ثم تتجلَّى خطورته فيما بعد، مثل میلاد طفلٍ يُصبح في يومٍ من الأيام قائدًا كبيرًا، أو مفكرًا عظيمًا، أو سياسيًّا ماهرًا؛ أي يُصبح من صنَّاع التاريخ (9).
وسواء كانت الأحداث صغيرة أو كبيرة، محسوسة أو غير محسوسة، قصيرة الأمد أو طويلة، فإنَّ الذي يجمع بينها هو أن الحال قبلها يختلف عنه بعد وقوعها؛ فالعالم قبل نابليون بونابرت يختلف عن العالم بعده، والدنيا قبل الحرب العالمية الثانية تختلف عنها بعدها، ومصر بعد ثورة ۱۹5۲م تختلف عن مصر قبل الثورة.
والتاريخ يشمل الماضي والحاضر والمستقبل معًا، ونحن عندما ندرس الماضي فإنَّنا في الوقت نفسه ندرس الحاضر والمستقبل؛ لأنَّنا إذا دقَّقنا النظر تبيَّن لنا ألَّا شيء في الوجود يتلاشی ويضيع مع الزمن، ولا يوجد فاصلٌ بين الماضي والحاضر والمستقبل.
ويُعلِّمنا التاريخ أنَّ لكلِّ زمانٍ ومكانٍ ظروفه وأفكاره وقيمه وأساليبه في التفكير والعمل، وأنَّ الجنس البشري في تطوُّره عبر العصور التاريخيَّة قد أدخل تعديلات جوهريَّة على أساليبه ووسائله في مواجهة المشكلات، ودراسة التاريخ توقفنا على جذور المشكلات الحاضرة وتُزيد من فهمنا لها (10).
وبهذا يُمكن القول -مرَّةً أخرى-: إنَّ التاريخ يعني كلَّ شيءٍ حدث في الماضي، بل هو الماضي نفسه، أو -بعبارةٍ أدقَّ- ما نعرفه من هذا الماضي، وإذا كان هناك تاريخٌ للنبات وتاریخٌ للحيوان وتاريخٌ للفن.. إلخ، فإنَّ التاريخ المصطلح عليه هو تاريخ الإنسان، الذي هو دراسةٌ لأعمال الإنسان في الماضي، وأفكاره ومشاعره ومخلَّفاته، وبصفةٍ عامَّة دراسة لتطوُّر المجتمعات البشريَّة..
إن علم التاريخ هو ذلك الفرع من المعرفة الإنسانية الذي يستهدف جمع المعلومات عن الماضي وتحقيقها وتسجيلها وتفسيرها، فهو يسجل أحداث الماضي في تسلسلها وتعاتبها، ولكن لايقف عند تسجيل هذه الأحداث، وإنما يحاول عن طريق إبراز الترابط بين هذه الأحداث وتوضيح علاقة السببية بينها أن يفسر التطور الذي طرأ على حياة الأمم والمجتمعات والحضارات المختلفة وأن يبين كيف حدث هذا التطوُّر؟ ولماذا حدث؟ (11).
والتاريخ إذ يُسجِّل أحداث الماضي وظواهره وتيَّاراته لا يهتمُّ بالسياسات الماضية بمعاركها السلميَّة والحربيَّة فحسب، ولكنَّه يتناول الحياة الماضية بجوانبها المختلفة؛ الاقتصاديَّة منها، والاجتماعيَّة، والعلميَّة، والحضاريَّة، والفكريَّة.
والتاريخ كذلك ليس ترجمةً لحياة القادة والحكَّام والزُّعماء وغيرهم من شخصيَّات الماضي العظيمة فقط؛ وإنَّما دراسةٌ لحياة الشعوب والجماعات، وإن كانت دراسة الشخصيَّات تُعتبر جزءًا رئيسًا من الدراسة التاريخيَّة؛ وذلك لأهميَّة دورها في مجريات الأحداث التاريخيَّة، ولِمَا كان لها من أثرٍ في حياة الشعوب والجماعات التي نشأت فيها (12).
وهكذا يُمكن القول: إنَّ التاريخ ليس عبارةً عن أحداثٍ مجرَّدةٍ أو سجلٍ يحوي هذه الأحداث والحقائق والوقائع؛ ولكنَّه عبارةٌ عن خبراتٍ وتجارب حيويَّة ديناميكيَّة لأناسٍ عاشوا في وقتٍ ماضٍ لهم مطالب وحاجات وآمال، حاجاتهم وآمالهم وآلامهم تُؤثِّر علينا إلى اليوم، كما أنَّ حاجاتنا وآمالنا وآلامنا سوف تُؤثِّر على أبنائنا وأحفادنا.
ففي دراسة موضوع القوميَّة العربيَّة مثلًا وتحديدها علميًّا كفكرةٍ ديناميكيَّةٍ لا يُمكن فهمها على أنَّها فكرةٌ مجرَّدة، لكن لا بُدَّ من دراستها على أنَّها فكرةٌ تُمثِّل اتِّجاهًا فکریًّا موجودًا في أذهان العرب، أو نوعٍ جديدٍ من السلوك يسعى العرب للقيام به، أو نوعٌ من الحياة يُريد العرب معايشته، وهذا يتطلَّب دراسةً ومعرفةً وإدراك عوامل كثيرة اجتماعيَّة وسياسيَّة واقتصاديَّة وسيكولوجيَّة، ومِنْ ثَمَّ تتمُّ دراسة التاريخ كتطوُّرٍ دینامیکيٍّ لأفكار وأنواع من السلوك.
ولفهم التاريخ ومعنى التاريخ لا بُدَّ من فهم الزمن (الوقت)؛ فقد كان اليونانيُّون والرومان مثلًا يعتقدون -كما كان قدماء المصريِّين يعتقدون- أنَّ الزمن يسير ببطء؛ اليوم طويل والسنة طويلة، يُساعد على هذا الفهم والاعتقاد الظروفُ التي كان يعيش فيها الإنسان؛ حيث كان الفرد لايعرف للوقت قيمة، بينما في المجتمعات الحديثة هناك تقديرٌ للوقت لأنَّه يمتاز بالحركة والسرعة.
وهذا الاختلاف في النظرة إلى الزمن يتضمَّن اختلافات في فلسفة التاريخ؛ فالذين يعتقدون أنَّ الزمن بطيء وبسيط، عندهم فكرة التطوُّر والتقدُّم غير واضحة، بل إنَّهم يؤمنون أنَّ التاريخ يُعيد نفسه، أمَّا الذين يعتقدون أنَّ الزمن حركةٌ وسرعة فهم الذين يعتقدون في التطوُّر والتقدُّم، وقيمة الإنسان كقوَّةٍ تملك ذكاءً تستطيع تطوير وتحسين ظروف الحياة التي يحياها.
والاعتقاد في ذكاء الإنسان يستند على أنَّ الأحداث غير متطابقة؛ أي لا يُمكن أن تحدث حادثةٌ مثل حادثةٍ بالضبط وبتفاصيلها نفسها، ولا يُمكن أن يكون عصرٌ أو جيلٌ مثل عصرٍ أو جيلٍ آخر. ومِنْ ثَمَّ فلكلِّ عصرٍ دراسةٌ جديدةٌ وحلولٌ جديدة، وهذا يتوقَّف على فهم الظروف التي مرَّت بعصورٍ مماثلةٍ في الماضي؛ لأنَّ الأحداث متسلسلة متَّصلٌ بعضها بالبعض الآخر.
(۱) یعني أنَّ ما سيظهر من أحداث مرتبطٌ بما سبق، وهذا أساس النظرة الحديثة المستقبليَّة في دراسة التاريخ المعروفة باسم futureology.
(۲) د. إسحاق عبيد: معرفة الماضي، ص۱.
(۳) د. حسن عثمان: منهج البحث التاريخي، ص۱۱.
(4) التاريخ IIistory، والتاريخ كفاعلية فكرية Ilistoriography.
(5) د. شوقي الجمل: علم التاريخ، ص۸.
(6) آلبان ج ريدجري (مترجم): التاريخ وكيف يفسرونه.. تعليق المترجم.
(7) د. محسن عثمان: المرجع السابق، ص۱۲- ۱۳.
(8) Carr,.ll.: What is llistory, p. 22.
(9) د. عبد الحميد السيد: التاريخ في التعليم الثانوي، ص۲۰.
(10) د. عبد الحميد السيد: المرجع نفسه، ص۲۱.
(11) د. عبد الحميد السيد: المرجع السابق، ص۲۱.
(12) المرجع والصفحة أنفسهما.
من كتاب تفسير مسار التاريخ، للدكتور رأفت الشيخ.