رواق الصعايدة من أشهر أروقة الأزهر، قام بإنشائه الأمير عبد الرحمن كَتْخُدَا ابن حسن جاويش القازدغلي، في سنة (1167هـ= 1753م) وهو واحدٌ من أعظم الرَّاعين للحركة المعماريَّة خلال العصر العثماني، ولا يذكر هذا الرواق إلَّا مقرونًا باسمه، وقد أنفق عليه إنفاقًا أصبح مضرب الأمثال في الجود والكرم ورعاية العلم والمشتغلين به؛ لأنَّه بعد أن فرغ من إنشائه أوقف عليه أوقافًا كثيرة وعديدة؛ بما أفاء الله به عليه من ثراء واسع عريض، وقد جاز إلى ربه في (18 صفر1190هـ= 8 أبريل 1776م).
ويعد رواق الصعايدة من أكثر الأروقة تعدادًا، وأغناها أوقافًا، وكان به ما يزيد على ألف عالم ومجاور، وكان يقبل الطلبة الوافدين من أقاليم صعيد مصر؛ من منطقة تبدأ من مدينة منية ابن خصيب شمالًا وتنتهي جنوبًا بإقليم أسوان، ومع ذلك فلم يكن يقطن الرواق إلا عدد قليل من مجاوريه، إذ كان معظمهم يسكن البيوت والوكالات بالقاهرة.
ويقع الرواق عن يمين الداخل إلى الجامع الأزهر من باب الصعايدة الذي أنشأه الأمير عبد الرحمن في ذات العام (1167هـ= 1753م) ويصعد إليه بنحو عشرين درجة من درجات السلم، وتوجد تحت السلم حجرة توزَّع فيها الجراية على مستحقِّيها المقيمين في الرواق، ويحتوي الرواق على إيوان متَّسع يتوسطه عمود من الرخام، وبداخل هذا الإيوان الكبير إيوان صغير وضعت فيه مكتبة نظمت فيها الكتب في عدة خزائن، وكانت هذه المكتبة موقوفة علي جميع طلبة الأزهر، فكانت بمثابة مكتبة عامَّة للأزهر، وكان لها أمينٌ يُطلق عليه القيِّم؛ يتولَّى الإشراف على تنظيم عمليَّات إعارة الكتب سواء للمشايخ المدرسين أم للمجاورين، وبلغ عدد الكتب التي تضمها مكتبة هذا الرواق (1190) كتابًا، وقد ضمت تلك المكتبة إلى مكتبة الأزهر العامَّة عام (1355هـ= 1936م)، ورُتِّبت حول الإيوان دواليب وخزن يضع فيها المقيمون في الرواق ملابسهم وسائر أمتعتهم، وفي خارج الإيوان مطبخ وسائر المرافق، وصنابير ماء، وأخلية للتعبد ينزل إليها بدرج، وفوق المطبخ خلوة صغيرة خُصِّصت للمؤذِّن ليسهل عليه أداء الأذان للصلوات الخمس على المئذنة المجاورة للرواق.
لم تقف خيرات الأمير عبد الرحمن كتخدا على رواق الصعايدة عند هذا الحد، بل أوقف أوقافًا كثيرة وعديدة عليه، ومن بينها المرتبات العينية التي قررها الجراية المعروفة باسم "الجراية الكبرى" وهي عبارة عن رغيفين تقدَّم يوميًّا للمدرسين والطلبة المقيمين بالرواق، والمكتوبة أسماؤهم في سجل الرواق، فإذا تُوفِّي أحدهم أو أكمل دراسته وترك الأزهر -كي يشقَّ طريقه في الحياة- حلَّ محلَّه من يليه من المنتظرين الواردة أسماؤهم في السجل الثاني من سجلات الرواق، ومن شروط الواقف ألَّا يأخذ الجراية إلَّا المشتغلون بالعلم حضورًا أو تدريسًا من أهل الصعيد، وكانت هناك شروطٌ أخرى دقيقة تختصُّ بمن ينقطع عن الدراسة أو يتغيَّب عن الأزهر ويقيم فترة طويلة من الزمن في بلدته، ففي مثل هاتين الحالتين تقطع الجراية عنه، وهناك نوعٌ آخر من الجراية يُسمَّى جراية الرابعة، وهي جراية إضافيَّة تقدم الطالب إذا أتم تلاوة القرآن الكريم بجميع أجزائه على فترات متقاربة، بعد الفراغ من استذكار دروسه، فإذا انتهى من تلاوة جميع سور القرآن الكريم بدأ من جديد في تلاوته على النحو السابق، فكانت هذه الجراية وسيلة لتعميق إيمان الطالب، وحافزًا له على إجادة حفظ القرآن الكريم.
كما كان من المرتبات العينية التي قرَّرها الأمير عبد الرحمن تقديم الهريسة، وهي نوعٌ من الحلوى كانت تُقدَّم في يومي الاثنين والخميس أسبوعيًّا على مدار السنة لطلبة الرواق، أمَّا في شهر رمضان فكانت تُقدَّم وجبات مطهيَّة، وكانت تُرسل إلى مطبخ الرواق كلَّ يومٍ كميَّاتٌ حُدِّد وزنها من اللحوم والأرز والسمن، كما خُصِّص لمطبخ الرواق في خلال هذا الشهر متطلَّباته من وقودٍ وسكرٍ وزيتٍ وما إلى ذلك.
وفي أوائل القرن التاسع عشر الميلادي؛ وجه السيد عمر مكرم نقيب الأشراف جزءًا من إيراد بعض أوقاف الأشراف إلى طلبة رواق الصعايدة، فكانت تصرف جراية يومية إلى الطلبة المنتظرين؛ أي الذين لم تشملهم الجراية الكبرى والمدونة أسماؤهم في السجل الثاني من سجلات الرواق، كما أن محمد باشا سلطان وهو من أعيان مديرية المنيا بصعيد مصر، ورئيس مجلس النواب بين عامي 1883و1884م، قد أوقف مائة وخمسين فدانًا من أجود أطيان هذا الإقليم على الأزهر، واختص رواق الصعايدة بجزء من إيراد هذه الأوقاف الدارة.
استقرت مشيخة رواق الصعايدة في العلماء من بني عدي في مديرية أسيوط، لكثرة من أنجبته هذه الأسرة من علماء أفذاذ، وتؤكد المصادر أن الشيخ علي العدوي هو السبب في إنشاء رواق الصعايدة، وفي إجراء الرزق الوفير على طلبته، لأنه كان صديقًا حميمًا للأمير عبد الرحمن كتخدا، وهو الذي زين له إنشاء الرواق، ووقف الأوقاف عليه، ومن دلائل تقدير الأمير للشيخ أنه عندما قام بإنشاء رواق الصعايدة في الأزهر قام بإنشاء عدد من الأوقاف على الرواق، وشرط في وقفه أن تكون نظارتها في الشيخ علي الصعيدي وبعد وفاته "فيمن يكون في رتبة الشيخ العدوي علمًا وصلاحًا في عصره".
وفي عهد الخديو عباس حلمي الثاني قامت المحكمة الشرعيَّة بتعيينه ناظرًا على أوقاف الرواق، ويذكر البعض أنَّ الأمير عبد الرحمن كان يحب أهل الصعيد حبًّا جمًّا إلى حدِّ أنَّه اختار موقع مدفنه بجوار رواق الصعايدة.
ومن أشهر من تولَّى مشيخة الرواق الشيخ أحمد الدردير والشيخ حسن الهواري العدوي، والشيخ حسن داود العدوي، والشيخ أحمد كبوه العدوي، والشيخ إسماعيل الحامدي، والشيخ أحمد نصر العدوي.
وقد دخل على رواق الصعايدة بعض التجديدات ولعلَّ من أشهرها ما تم في عهد الخديو إسماعيل عام (1290هـ= 1873م)؛ حيث جدد باب الصعايدة الكبير مع ما فوقه من المكتب، بمباشرة ناظر الأوقاف الأمير أدهم باشا، ونقش على وجهته من الخارج بالخط المذهب هذه الأبيات الشعرية:
باليمن أقبل باب سعد الأزهــــر وسمت محاسنه بأعجب منظـر
وغدا مجازًا للحقيقة بالهـــــدى موصول مورده جميل المصدر
باب شريف للنجاح مجــــرب إنشاؤه نادى بخير الأعصـــــر
في دولة إسماعيل داور عصرنا يمن يسر كمال باب الأزهـــــر
بقي المجاورون في الأزهر -بما فيهم مجاورو رواق الصعايدة- على ما هم عليه من حال قديم دراسةً وإدارةً وانتفاعًا، وكان يستحدث لهم بين الحين والآخر من طرف أو إدارة الأزهر من تحسينات وتعديلات في فتراتٍ متباعدة، إلي أن أولت الحكومة المصرية الأزهر ما هو جدير به من العناية؛ حيث اتَّجهت إلي إنشاء مدينة سكنية للطلاب الوافدين وهي مدينة البعوث الإسلامية، وقد بُدئ في بنائها عام (1373هـ= 1954م)، وافتتحت في (13 ربيع الأول 1379هـ= 15سبتمبر 1959م)، وانتهى بذلك دور الأروقة بمفهومها السكني والتعليمي، وإن بقيت بعض مبانيها وأطرافها جزءًا من النظام المعماري الخاص به.
موقع ذاكرة الأزهر