منذ خمسة قرون، والبحث عن المنهج التاريخي الأصلح لكتابة التاريخ الإنساني وتفسير التاريخ يحتلُّ من المفكرين والمؤرخين في العالم مكانة عظيمة، وتبذل فيه جهود شاقة رائعة، سواء اختلفنا معها أم اتفقنا.
ويعتبر العالم الإسلامي -للأسف الشديد- نشازًا في هذا البحث اللاهث؛ فما زال البحث التاريخي لا يهتم -إلا في قليل- بقضيتي منهج البحث التاريخي وفلسفة التاريخ.
والنظر إلى قائمة الأطروحات العلمية التي قدمت في جامعات العالم الإسلامي في أقسام التاريخ والحضارة -بالإضافة إلى بحوث المؤرخين والمفكرين- يؤكد هذا الحقيقة!!
لكن القضية بدأت تطرح نفسها علينا بعمق، بعد أن بطلت مقولة إقامة السور الحديدي الفكري بيننا وبين العالم الأوروبي؛ لحماية أنفسنا من أفكاره ومناهجه؛ ففضلًا على عبثيَّة هذه المقولة في ظلِّ الأساليب الحضارية المعاصرة فإنها -أيضًا- مقولة لا تخدمنا، حتى ولو نحج في تطبيقها!!
إنَّنا لا بُدَّ أن نبحث في بنائنا الداخلي، وفي تطوير كياننا، وفي البحث عن وسائل القوة في داخلنا ومن خارجنا، وفي فقه سنن الله الكونية والاجتماعية في التطور والبقاء، ولا سبيل لبقائنا في هذا العالم إلا عن هذا الطريق.
إن تشريحًا قويًّا يجب أن نقوم به -بإخلاصٍ وجرأة- لتجربتنا في التاريخ، وإنَّنا يجب أن نكون صادقين مع أنفسنا في الاعتراف بالحقيقة كما هي، وفي تقويم هذه الحقيقة على ضوء الثوابت الإلهيَّة التي نؤمن بأنها (المطلق) و(المثل العليا الحضارية) لنا وللإنسانيَّة.
وجدير بالذكر أنه لم يعد ممكنًا كتابة التاريخ غير مرتبط بتفسيره؛ إنَّ المنهج العلمي لكتابة التاريخ يحكم الوشائج بين قبول الواقعة رواية (نقلًا)، وقبولها دراية (عقلًا).
وقد أصبح فقه البيئة الاجتماعية والنفسية والثقافية المسيطرة من أركان قبول الواقعة والحكم عليها ومهما يكن لتفسير التاريخ من كيان مستقل فإن أجزاء كثيرة منه -على الأقل في معطياته الأولى- ستبقى مرتبطة بالوقائع التاريخية الجزئية لا تنفصل عنها.
إنَّ هذه مسلمة قرآنية أغفلها المسلمون وبحثت عنها البشرية طويلًا!!
د: عبد الحليم عويس