السلام عليكم
حين تنتابنا نوبات الخوف ، لأي سبب ، و من اي شيء ..يكون رد الفعل الاول و الغالب ان نهرب ..و لأنه رد فعل فإن الهرب لا يكون خيار الدماغ ..او شيئا ينتج بعد تفكير بل يكون شيئا نفعله دون تقرير ....هذا ما يحصل في الاحوال الطبيعية.
لكنما ، هناك مواقف لا يمكن ممارسة ردود الافعال فيها ، تلك التي يعمل فيها العقل ، و حين يعمل سيجبرنا على الثبات ، لا الهرب ...اما ما هي النتيجة ؟ و هل الهرب نصف الشجاعة كما يقال ؟ فالصراحة ..." كُلمن و چنصه ".
اليوم سأستذكر معكم موقفا ً قديما ً كان يملؤني فيه الخوف ...لكنني أُجبرت على المواجهة.
حين كنا طلاباً في الكلية ، كان اساتذة كلية الطب / جامعة بغداد معروفين بجبروتهم ...بامتلائهم بقدر هائل من الثقة بالنفس التي تلامس بسهولة الغرور ...كانت هذه السمة العامة ...و كانوا يتفاوتون بالطبع في مقدرتهم الهائلة على ابراز القسوة الناتجة عن هذا الشعور بالغرور ..و التفنن في الاستهزاء و الاستخفاف بنا ،طلبتِهم ، عند الخطأ .
و كنا كلما ارتقينا سلم المراحل في الكلية و بدأنا في التواجد في المستشفى للتطبيق ، كنا نواجه اساتذتنا عن قرب ، لا في المحاضرة مع ٣٠٠ طالب و انما في گروپاتنا الصغيرة مع ١٨ طالب ، حول مريض ما في حلقة تدريبية ..في الباطنية او النسائية او الجراحة او او او ...
كانت هذه المواجهات التي توجَّه الينا فيها الاسئلة هي الاكثر تأديبا لمشاعرنا التي قد يحاول ان ينبت فيها شيء من الغرور ، اذ كنا نخطيء ، لأننا في طور التعلم ..و حين كنا نخطىء كانت تبدأ الحلقة الاسوأ من التعذيب بعد الرعب الناتج من الخوف في الوقوع في الخطأ ..حلقة مواجهة التقريع و الاستهزاء.
انا ، ما زلت اكره هذا الاسلوب ..لكنني احاول ان اجد الاعذار لأساتذتي ..اذ اظن انهم كانوا يتعمدون هذا الاسلوب كي لا ننسى هذه الاخطاء المؤلمة ..ابداً ، و لا نعيدها ابدا ً بعدها ..اذ اننا سنتعامل مع حياة البشر المقدسة .
المهم ،كان من بين اساتذتنا القساة ، الذين نموت ٩٠ ميتة قبل مواجهة السيشن الخاص بهم ..و ما فيه و ما بعده ..كان استاذا في مادة الجراحة ..كان جراحا و استاذا مرموقا ً ..سأرمز لأسمه بالحرف (ش).
وصل بنا الحال في الخوف من سيشناته الى اننا كنا نتغيب عنها احيانا..هربا من المواجهة...كنا صغارا لا نعي اهمية كل لحظة هناك .
بعد انتهاء الكلية و خلال سنتي الاولى بعد التخرج ، كنت مقيمة دورية صغيرة اكملت لتوها دراستها ..و بدأت رحلة الطب الطويلة الشاقة ..كان الكورس الاول في بداية عملي هو كورس الجراحة ..و عليّ في اول شهرين منه ان انضم الى فريق جراح معين ليصبح هو الأخصائي الذي انا مقيمته الدورية ، اصغر عضو في فريقه ..الذي يشتمل ايضا على اطباء البورد ..كل من في الفريق كان المصطلح الذي اناديهم به هو ( عمي ) , و هو المتداول بين الاطباء في المستشفى.
صعدت الى طابق الجراحة في يومي الاول ...لم اكن اعرف مع اي جراح سأكون ..ذهبت الى رئيس مقيمي الطابق ..عرفت بنفسي ..تناول ورقة فيها جدول توزيع الاطباء المقيمين على الجراحين ..قال لي ..انت مقيمة الدكتور الاستاذ ( ش).
عقدت الصدمة لساني ... مرت كل ذكرياتي الرهيبة الى معدتي في ثواني فأحسست انني سأتقيأ..
تحركت عن رئيس المقيمين مذهولة ..ثم حاولت ان اخفف عن نفسي بعض الشيء ..قلت لنفسي اهدأي ..لست انت الوحيدة في الفريق ..انت هنا الصغرى ..انت هنا غير منظورة لعظَمته ..هو لن يراك ..ستكونين مجرد شبح بلا اسم في فريقه ..شهران و ينقضيان ..اثبتي ..
هنا استفقت..كان علي ان اجد منقذيَّ ، بقية الفريق الذين سأختبىء وراء صداريهم البيض..كان علي ان اتعرف على اعمامي ..
عدت لرئيس المقيمين : " دكتور بلا زحمة ، هو منو التيم مالت دكتور "ش " حتى اروح وياهم .؟
قال لي ..الفريق يتكون من طبيبين فقط ..و هما اليوم خفر عمليات ، اذ ان اليوم كل عمليات الطوارىء على فريقكم ...يعني اليوم وحدچ بالطابق على مرضى استاذ "ش" .
هذا ما كان ينقصني ..يا الهي ..فكرت.
ذهبت بكل بؤسي الى غرفة الفحص في الطابق ..رميت بنفسي على كرسي هناك ..و انا لا ادري ماذا افعل وسط هذه الغربة و هذا القلق .
بعد عشر دقائق ،جاءني ممرض راكض و كل ما فيه ينضح بالخوف ..نهضت مرعوبة : .خير ؟
- دكتورة ..دكتورة ..استاذ "ش" اجى للطابق ...و يريد يسوي تور على مرضاه ...روحيله بسرعة ، لازم احد وياه بالتور ..ديري بالچ الله يخليج ترا هو عصبي ..
قال جملته الاخيرة بقلب مشفق.
اذن ...سنتواجه ...و هذه المرة لوحدي ...سيكون عمي الاعظم معتمداً علي الان في التعامل مع مرضاه و تطبيق ما يريده ..يالهول الخطأ الذي من الممكن ان يبدر مني إن بدر.
اين أهرب ؟
لا مهرب.
كنت افكر ..و كان الممرض ما يزال بقربي يشير الى استاذي الواقف في بداية الطابق : يا الله دكتورة دخيلچ لا تخليه ينتظر.
تحركت صوب قدري الاول في هذا الطابق ..
كان واقفا ً متأنقاً جدا كعادته، بعينين زجاجيتين ..خاليتين من المشاعر ..فوجىء بي اقف قربه ، اذ لم يكن يتوقعني ، طالعني ببرود ...
سمعتُ صوتي يأتي من بُعد آخر ، كما انه لم يكن صوتي : صباح الخير استاذ ، اني دكتورة ( ) ...مقيمتكم الدورية الجديدة ...اعمامي مثل ما تعرف حضرتك اليوم بالعمليات كول .
تحب حضرتك نبدي بالتور ؟
نظر الي مرة اخرى ..تحولت عيناه الزجاجيتين الى عينين بشريتين جداً ..ابتسم ابتسامة لطيفة ..و اجاب باقتضاب ..اهلا و سهلا بيچ دكتورة ..يالله نبدي نشوف مرضانا.
مر التور الاول هادئاً ، كان استاذي مركزا جدا في تفاصيل مرضاه ..كان يعطيني ملاحظاته المهمة حول كل مريض و يخبرني ان علي ان اوصل الرسائل لأعمامي حين يجيئون للطابق ليتابعوا المرضى ..
كنت اكتب دون ان اتحدث ..
اكملنا التور ...عدنا الى المكان الاول الذي التقينا فيه ..قال لي بمنتهى اللطف الممكن ..دكتورة سجلت كل الملاحظات ؟
- نعم استاذ.
ابتسم و هز رأسه بامتنان ..
- اشكرچ لأن رافقتيني بالتور ..اتمنى لچ يوم جميل و كول سهل.
غادر استاذي الطابق ..و تركني في بحر ذهولي ..
على مدى شهرين ..تعرفت الى وجه ٱخر لذلك الرجل ..وجه الطبيب الاشد حرصاً على مرضاه ..الذي كان اعمامي طلابه في البورد يضطرون بسبب حرصه الى المبيت احيانا في الطابق رغم انه ليس واجب خفارتهم ..
وجه الرقة الرائع الذي كان يعاملني به كأبنة الفريق الصغرى ..كان يحييني كل يوم حين يجيء الى الطابق بكل ما تعنيه مصطلحات الجنتلمان ..و كان يلتفت لتعليمي اشياء على قدري في التور ..كنت ابنته المدللة.
كانت فترة من اجمل فترات دوامي في الاقامة الدورية ، فهمت فيها معنى ان يكون مريضك قبل راحتك و نومك و عطلتك و اهلك ..كان استاذي مثالاً للمثالية ..
ولا اعرف لليوم كيف كان ذلك الوجه يختبىء حين يواجه طلابه في الكلية ..اين يذهب به ، بل و ما هي الفلسفة وراء ذلك الاخفاء..
ان كان علي ان اوجه كلمة له اليوم ..فسأنحني و اقول له ..انت من علمني جوهر الاهتمام بالمريض ..شكرا لقداستك ..لوجهك المبتسم و حتى المتجهم المرعب.
تحية لكم .