حجّ سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حجّة واحدة ''حجة الوداع''، لم يحجّ قبلها ولا بعدها، سمّيت بهذا الاسم لأنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ودَّع فيها أصحابه، فقال لهم فيما قال: ''أيُّها النّاس، اسمعوا منّي، فإنّي لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا''. وقد عاش عليه الصّلاة والسّلام بعد رجوعه إلى المدينة المنورة، وكما توقَّع، ثلاث وستون سنة، ثمّ انتقل إلى الرّفيق الأعلى، فكانت هذه الحجّة، هي الأخيرة وهي حجّة الوداع!
في أرض عرفات خطب سيّد المرسلين وخاتم الأنبياء صلّى الله عليه وسلّم خطبته الشّهيرة الّتي وضّح فيها مبادئ ''حقوق الإنسان''، والميثاق الّذي ينبغي أن يتعامل به البشر، قبل أن يعرف النّاس هذه الحقوق والمواثيق، إلاّ منذ زمن قريب، قرّرت بعضها هيئة الأمم المتحدة، وبقي ذلك حبرًا على ورق في هذه المنظمات والدول، إنّما هو لمجرد الدعاية الإعلانية، فالأموال تسلب، والدماء تراق، والحق مع القوي الغالب. لقد كانت خطبة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في عرفات في ذلك الجمع الحاشد، وفي ذلك اليوم المشهود، مشعل نور وضياء يضيء للبشرية طريق السّعادة والهدى، ويأخذ بأيديها إلى مدارج العزّ والكمال. اشتملت هذه الخطبة الجامعة، والّتي هي عبارة عن ميثاق عظيم على البشرية أن تعمل به وأن تستفيد منه، على حرمة الدماء والأموال والأعراض، وحرمة الربا والأخذ بالثأر، وعلى أداء الأمانة، وعلى مخالفة الشيطان، واشتمل أيضًا على حقوق النِّساء، وعلى الاعتصام بالكتاب والسنّة. وهذه الخطبة بيان للبشرية جميعًا بضرورة التحابب والتواد، فالنّاس سواسية كأسنان المشط، وعلى المسلم أن يتجنّب الأموال الحرام، والأكل الحرام، والخوض في أعراض النّساء.